fbpx

لبنان: كيف كان ليصبح حالنا لولا الشباب؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في أعقاب أيّ حدث استثنائي أو أي كارثة طبيعية، من الطبيعي أن يشعر الذين شاهدوها بالذنب والألم والخوف. يوجد فراغ هائل في المؤسسات الداعمة، في ظل كم هائل من الاعتلالات التي تعاني منها الدولة، لهذا فإن الحاجة إلى عمالة الشباب غير الرسمية أصبحت ملحة للغاية بصورة لا تصدق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ الأيام الأولى لانفجار مرفأ بيروت، لازم نادر حسن ساحات المنازل المنكوبة وأهلها. ونادر (22 سنة) طالب يدرس السينما في السنة الرابعة. “ربما كان ذلك في اليوم الثاني أو الثالث عندما ذهبنا إلى حي الكرنتينا، كنا أول من وصل إلى هناك. حتى الصليب الأحمر لم تكن فرقه وصلت إلى هناك حتى هذا الوقت”.

يقول نادر لـ”درج”، “في نهاية المطاف، لا يُمكننا بأي حال من الأحوال الاعتماد على الحكومة، لأنه إذا لم يذهب أي شخص آخر إلى هناك حتى اليوم الثالث غيرنا، فبالطبع لا أمل أن يذهب إلى هناك أيّ أحد على الإطلاق”.

عندما تحدث نادر بصيغة الجمع كان يقصد مجموعة من الشباب اللبناني، مثله إلى حد كبير، عملوا سوياً على تشكيل فريق تطوعي، “أسرة لأسرة”، كان أفراده حاضرين منذ وقوع الكارثة. وعلى رغم غياب التدريب المهني، وبدون سابق خبرة في العمل التطوعي أو الإغاثي في حالات الكوارث، وجد نادر نفسه فجأة هو ومجموعة من الغرباء الشجعان، بصورة غير رسمية وعلى وجه السرعة يغطون العجز الشديد في المساعدة المتخصصة التي يُفترض أن تُقدم إلى تلك المناطق.

من، لولا الشباب، كان سينتشل الجثث من تحت الأنقاض، ومن كان سيبقى مستيقظاً طوال الليل يفكر فيمن ما زالوا مفقودين، بينما يجاهد السياسيون، ليس من أجل حماية الملايين التي سرقوها بالفعل وحسب،، بل أيضاً من أجل ضمان قدرتهم على مواصلة السرقة متى شاءوا؟

قال نادر، “في ما يتعلق بتقديم المساعدة، أول يومين كانا الأسوأ على الإطلاق عندما انتشلنا 7 جثث من تحت الأنقاض. كان ذلك في الجزء المقابل مباشرة للمرفأ من منطقة الجميزة”. وعندما سُئِل عن شعوره وقتذاك، أجاب: “لم أشعر بشيء. لقد ذهبت إلى هناك للمساعدة، لذا إذا كانت هناك مهمة يجب القيام بها، فما عليك سوى القيام بها. لن تجلس وتفكر وتطرح الأسئلة. وإذا لم تفعل ذلك، فماذا إذاً؟ ليس لديك خيار”.

بالتأكيد، ثمة فيض هائل من التعابير البلاغية التي تصف عمل نادر وأصدقائه وشجاعتهم، لكنّ ما فعلوه هو قبل أي شيء دليل على أن الدولة في حالة انهيار وغياب، ليستجمع طالب عشريني كل ما أوتي من قوة ويعمل على تجاوز ما تعرض له من صدمات نفسية، بدلاً من أن يكون في مكان آخر آمناً مطمئناً يحظى بالحماية والرعاية لكي يتعافى. إن قلوبنا وقلوب كثيرين من الذين يراقبون الوضع في لبنان تفيض بالدفء، ولكن أيضاً تعج بالغضب والارتباك. بالتأكيد، في الأوقات العصيبة، تحظى جهود العمل التطوعي والتضامن بأهمية بالغة، بل من واجب الذين نجوا سالمين أن يُقدموا المساعدة، ولكن هل يجب أن تكون المساعدة  بهذا الحجم؟

 بشكلٍ مضطرب وبعد بضعة أسابيع فقط من الانفجار، تعلل سارة (اسم مستعار)، وهي مهندسة معمارية حديثة التخرج، ذلك قائلةً، “أردت أن أتمكن من قول إنني ساعدت في إعادة إعمار لبنان، وليس أنني نجوت من الانفجار وحسب”. على رغم أن سارة لا تسكن  في بيروت لكن في الليلة التي اشتعلت فيها أطنان نيترات الأمونيوم كانت في مكتبها في الجميزة، ونجت بأعجوبة من المبنى الذي كانت فيه. فقد اخترقت شظايا الزجاج ذراعها اليسرى، ما أدى إلى قطع وترين وإصابتها بجروح في ظهرها، ومثل كثيرين ظلت تتنقل نازفةً من مستشفى إلى آخر خلال الساعات القليلة التي تلت الانفجار.

بعد أسابيع وبعدما أجرت عملية جراحية، تعي سارة أن إصابتها سوف تؤثر كثيراً في عملها، فهي عسراء وقد أخبرها الأطباء أنها تحتاج من ثلاثة إلى ستة أشهر حتى تتمكن من التحكم بأصابعها مجدداً. لكنها مع ذلك، تحتفل في كل مرة تتمكن فيها من رفعها ملليمتراً واحداً أعلى من المرة السابقة، وكالآلاف مثلها، تشكو سارة مشاعرها لأصدقائها وعائلتها في محاولة لاستيعاب ما حدث لها. وتجعلها مشاهدة أولاد جيلها يحملون المكانس وينظفون الشوارع في الأخبار تشعر بالتناقض.

تقول لـ”درج”، “أردت المشاركة، بخاصة مع يقيني أن هناك آلاف المصابين الذين نزلوا للمساعدة. وظلوا بالفعل يطلبون مساعدة المعماريين، لذا كنت أشعر وكأنهم يخاطبونني أنا شخصياً، لكنني كنت جالسة في المنزل، أتجنب مشاهدة الأخبار”.

تضيف سارة، “أقصد أنه لو كان بعض المختصين هم من يضطلعون بالمهمة، أعتقد أن شعوري حينها كان سيصير مختلفاً، لكنني ظللت أرى أصدقائي أو غيرهم من الأشخاص العاديين الذين أعرفهم هم من يقومون بذلك، بخاصة خلال الأسبوع الأول. كان الجميع يساعدون لذا شعرت بضغط كبير، وهذا كلام يصدر عن شخص بالكاد يستطيع تصفيف شعره”.

بلد فاشل

لا نحتاج إلى أبحاث معمقة لنجد دلالات تثبت أن لبنان لطالما كان، ولا يزال، بلداً فاشلاً. فقد وصلت محاولات الانتحار أمام المصارف، وتردي أوضاع العاملات المنزليات المهاجرات اللواتي لم يجدن سبيلاً سوى النوم على أرصفة الشوارع، والسعي الجاد إلى الهجرة، إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق. وبالطبع، زاد الطين بلَّة حدوث ذلك الانفجار الذي هز أرجاء العاصمة اللبنانية بيروت، والذي يُمكن وصفه على أقل تقدير بأنه مشكلة “إهمال” مزمن وفساد، أسفرت عن مقتل المئات، وتشريد الآلاف، وفطرت قلوب الملايين، فضلاً عن أنه من أهمَّ الدلائل التي تعكس ما يتسم به الذين يتولون السلطة ضد إرادة الأغلبية، من انعدام تام للكفاءة. ومع ذلك، فإن التداعيات التي أعقبت تلك الكارثة، كبّلت الشباب اللبناني الذين ما زالوا على قيد الحياة بالأغلال، مما قدم الدليل الدامغ على أن لبنان دولة عقيمة.

على أقل تقدير، نجد في الدول الفعالة أن الصور التي يتم تداولها عادةً في أعقاب أي نوع من الكوارث، يظهر فيها محترفون مدربون ينتشرون في موقع الحادث بعد ساعات من وقوعه، يحاولون إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وتوفير الدعم، وتقدير حجم الدمار؛ وتظهر أيضاً الطائرات المروحية والسفن والشاحنات تجوب الموقع، ويظهر المسؤولون بكل همة ومهنية وحرفية على شاشات التلفزيون، بينما يشاهد المتضررون من الحادثة كل ذلك بحزن وأسى وهم يضمّدون جراحهم.

من نافل القول إن ذلك بعيد كل البعد مما حدث في بيروت. فما زَاد الأمر ألماً وسُوءاً بعد انفجار مرفأ بيروت، ذلك العجز الهائل واللامبالاة منقطعة النظير، والافتقار إلى الكفاءة والمساعدة المهنية من جانب المسؤولين اللبنانيين. فقد أسفرت هذه التراكمات عن عبء ضخم لم يُوضع على عاتق الشباب اللبناني فحسب، بل ألقي بقسوة على كاهلهم؛ لم يكن ما يشعرون به مجرد شعور طبيعي بالذنب بعد النجاة؛ بل كان شعوراً بالذنب من ذلك النوع الذي يستحوذ عليك ويؤلمك ويصرخ تلك الحقيقة البشعة في أذنيك عندما تحاول التخلص منه، وهي: “إذا لم تهرعوا إلى تقديم المساعدة، فلن يقدمها أحد سواكم”.

فراغ هائل 

في أعقاب أيّ حدث استثنائي أو أي كارثة طبيعية، من الطبيعي أن يشعر الذين شاهدوها بالذنب والألم والخوف، لكن عدم وجود مؤسسات رسمية موثوقة تابعة للدولة تقدم الدعم العاجل، يضيف عبئاً هائلاً على كاهل الشباب في المدينة، ويؤدي أيضاً إلى حدوث انتكاسة كبيرة في وضعهم. يوجد فراغ هائل في المؤسسات الداعمة، في ظل كم هائل من الاعتلالات التي تعاني منها الدولة، لهذا فإن الحاجة إلى عمالة الشباب غير الرسمية أصبحت ملحة للغاية بصورة لا تصدق. لكن هذا الضغط يحول دون إحراز أيّ تقدم، فهو يجعل مجهودات المرء موزعة في مليون اتجاه، من دون أن يدري تحديداً أين بإمكانه المساعدة، مع شعوره بالذنب حيال ما لم يقدمه. مع ذلك، لا يمنحك إدراك هذه المعضلة العقلية المزعجة أي طمأنينة، لأنه في الحقيقة، لولا الشباب، حتى وإن لم يكن هذا الحمل هو مسؤوليتهم، كيف كان سيصبح حالنا اليوم؟ 

من عليه الاهتمام بالسوريين في منطقة الكرنتينا، إن لم يكن الشباب، عندما لا تعبأ الدولة بهم بتاتاً؟ من عليه أن يستمع لنداءات الكينيات في الشوارع، إن لم يكن شبابنا، بينما يحوم أفراد الجيش حولهن ضاحكين ويدعونهن بالعاهرات؟ من، لولا الشباب، كان سينتشل الجثث من تحت الأنقاض، ومن كان سيبقى مستيقظاً طوال الليل يفكر فيمن ما زالوا مفقودين، بينما يجاهد السياسيون، ليس من أجل حماية الملايين التي سرقوها بالفعل وحسب،، بل أيضاً من أجل ضمان قدرتهم على مواصلة السرقة متى شاءوا؟

كيف كان سيصبح حالنا لولا الشباب… الذين سُرق شبابهم منهم للأبد؟