fbpx

قصص تفجير بيروت التي لن تنتهي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هنا قصص أشخاص ما زالوا يملكون هامشاً من الحياة يروون من خلاله قصصهم. لكن غيرهم لا…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“شو صار؟! هلّأ بدّك تشرحلي شو صار. هزّت الدني، كانت طارت السيارة، صار شي، انفجار. اخو ***** الصوت. انفختت دينتي. شو صار؟ حدا يشرح!

-صار إنفجار مش طبيعي! كنت عم بسمع في حريق على المرفأ. ومن البلكون شايفه. بس شي مش طبيعي، أوّل مرّة بحسّ بهيك شي”.

كانت هذه أوّل محادثة بيني وبين صديقي، عبر الرسائل الصوتية على “واتساب”، لحظة وقوع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس. كنت في سيارتي بالقرب من الطيّونة، متوجّهاً إلى وزارة الطاقة حيثُ نظم محتجون تحرّكاً في محاولةٍ من المتظاهرين لدخول الوزارة. التفتتُ يسرةً، رأيت السحابة الفطرية بلونها البرتقالي تكبر وتنتشر. كانت تأتي فعلاً من جهة المرفأ. ثمّ اتّصَلَت بي عمّتي وهي تهلع وتقول “انفجار على مار مخايل (الكنيسة، أي مدخل الضاحية الجنوبية لبيروت)”. ثمّ اتّصلت بي أمّي من الجنوب، وهي ترتجف، طلبت منّي أن ابتعد من المنطقة لأنّهم “قصفوا بالشيّاح”. ثم رأيتُ على “فايسبوك” خبراً مفاده أنّ التفجير وقع في بيت الوسط.

حسناً… ركنتُ سيّارتي قرب جامعتي في فرن الشبّاك، باعتبارها مساحةً آمنة. أعني، معهد الفنون الجميلة، من سيفجّر معهداً للفنون الجميلة؟ لحظتئذٍ، حاولت أن أربط كل ما حدث في ذهني، قلت (بناءً على الأخبار المتداولة): انفجار في المرفأ، انفجار في الضاحية، وآخر في الشياح، وآخر في بيت الوسط، والمحكمة الدولية بعد يومَين. على ما يبدو نتعرّض لهجومٍ إرهابي، شبيه بالأربعاء الدامي في العراق. أو سنعود إلى الاغتيالات السياسيّة كما في عام 2005. سأبقى قرب الجامعة قليلاً بانتظار التفجيرات الباقية.

ثمّ اتّضحتُ الأمور، انسحبت السحابة الملوّنة (ملوّنة شكلاً، سوداء مضموناً)، اطمأنّ بالنا على من نحبّ، ومن لا نحب أيضاً، رتّبنا أمورنا، توجّهنا إلى الوسط وبدأت أعمال المساعدة والإغاثة. وبدأنا ندرك حجم الواقعة بالتدرّج، يوماً بعد يوم، وما زلنا حتّى اللحظة لم نستوعب هَول الفاجعة.

منذ أيّام، في حديثي مع أحد الأصدقاء “قُدامى الحرب”، شرح لي تفاصيل الموضوع، وأنّه على رغم من كل ما عايشه في 15 عاماً من الحرب، كانت هذه المرّة الأولى التي يرى فيها مشهداً كهذا، وتنتابه هذه المشاعر. ثم أسهَب: “60،000 وحدة سكنيّة تدمّرت (200،000 وحدة وفق التصريح الأخير لرئيس الجمهورية). أتعرف ما يعنيه هذا الكلام يا سمير؟ يعني 60،000 قصّة، صُنعت كلها في جزءٍ واحدٍ من الثانية”.

ثم فكّرتُ، عمليّاً، هي أقرب إلى 60000 x 4 (معدّل عدد أفراد العائلة اللبنانية)، أي 240،000 ألف قصّة. ثم فكّرتُ، أن لهؤلاء أيضاً أقارب وأصدقاء. ثم أنّ كثيرين كانوا هناك بسبب العمل أو مصادفةً، ولا علاقة له بالوحدات السكنية المجاورة. وهكذا دوالَيك، لأستنتج خلاصةً أن عدد القصص المتعلّقة بالتفجير ستبقى تتسلسل إلى ما لا نهاية.

“شو الأضرار عندِك؟”

“مبارح رجعت على البيت. عندي كسر صغير و70 قطبة بالإجر اليمين، 4 بالإجر الشمال، و14 بالإيد اليمين”.

هذا كان جواب صديقتي روبي، بعد رؤيتي صورةً لها في سرير المستشفى. كانت روبي قد وَصَلت إلى أحد مقاهي مار مخايل وشرعت تعمل على حاسوبها، ثم استطردت قليلاً وكتبت بعض النصوص المضادّة للطبقة الحاكمة – فهي كانت نشيطة منذ اليوم الأوّل لـ 17 تشرين. في أكثر من مناسبة، كانت إرادتها أكثر صلابة من رفسات شبّيحة الأجهزة الأمنية.

لكن أمام مشهدٍ كـ4 آب، لا أعلم كم تنفع الإرادة، أو القوّة أو الجرأة أو أي حاسّة أخرى. عند سماع الدويّ الأوّل، اعتقدت روبي أنّه غارةً إسرائيليّة، وهَمَّت تركض إلى الطبقة السفلى، وإذ بها تجد نفسها على الأرض، مدماة، ثم بين أيدي شخص لا تعرفه. حملها ونقلها إلى مستشفى الجعيتاوي.

هناك، كان المشهد سُرّياليّاً. “شعرتُ بأنّني في حقلِ جُثث. كانت دماء المصابين تتمازج بدماء الآخرين، تلوّثت قدماي للغاية حتّى اعتقدتُ أنّهما ستلتهبان، وسيسار إلى قطعهما. لم أكن أفهم شيئاً. هنا ناس يحاولون إسعاف أنفسهم، هنا ناس يتقيأون، وأنا تحت الشبّاك، أمسك قدمي لحين يتفرّغ أحدهم لي ويعيدها إلى مكانها، وأتأمّل السماء في انتظار التفجير الثاني، وموتنا أجمعين”. 

بعد أسابيع من الحادثة، في حديثي الأخير مع روبي، أخبرتني التالي: “سميررررر، رايحة على فرنسا الشهر الجاي، انقَبَلت بالجامعة”.

“إجت الحزينة تفرح، ما لاقت لها مطرح”

كان هذا تعليق صديقتي على صورة نشرتها بعد أيّامٍ من التفجير، عبر صفحتها على الفايسبوك، وفيها وشاحاً جامعيّاً لحفل التخرّج – ملطّخاً بالأحمر القاني.

تالا صبية في أوّل ربيعها، كانت تنوي زيارة مناطق في لبنان مع أصدقائها ليلة تخرّجهم. قرّروا بدايةً أن يمرّوا بمار مخايل لالتقاط بعض الصور التذكارية على الدرج الملوَّن، مع قبّعات التخرّج والثَوب. أبسط الأمور وأكثرها بداهةً بالنسبة إلى شباب وشابات أنهوا مرحلة الجامعة وهم في مزاج احتفال.

صعدوا الدرج بالتتالي، تحضّروا للصورة، وابتسموا… إنّما الصورة التي ستُطبَع في ذاكرتهم عن ذاك النهار ستكون مختلفة تماماً عمّا كانوا يتمنّون. بعد لحظاتٍ وجدت تالا نفسها ملقاة على الدرج، تنزف من يدها بشدّة، والجميع يُقَوقع رأسه بين قدميه. كلّ شيءٍ مبعثر. حاول الأصدقاء الخمسة لملمة أنفسهم وسط الصدمة. تنقّلوا من شارعٍ إلى آخر، لعلّهم يحتَمون ممّا اعتقدوه قصفاً.

دقائق قليلة وبدأت تالا تفقد إحساسها بأطراف أصابعها، لفَّ صديقها يدها بقطعة قماش، وبدأ البحث عمّن ينقلهم إلى أي مستشفى قريب. خلال ذلك كلّه، وما تلاه، كانت تالا بثوب تخرّجها، تضحك تارةً وتبكي تارة أخرى.

في تعليقها اليوم على الحادثة، تقول: “كأن انكتب لي عمر جديد، حرفيّاً – بما انّنا كنا نحتفل أيضاً بعيد ميلادي – 5 آب”.

هؤلاء أصدقاء أُصيبوا جسديّاً، لكن الإصابة تخطّت ذلك بأشواط، غاصت أعمق من الجسد. سيبقى جهازنا النفسيّ مضرّراً لأمدٍ طويلٍ من الزمن، ربّما لكل العمر أيضاً. أصبحت اضطرابات-ما-بعد-الصدمة هي العنصر المشترك بيننا.

صديقة أخرى مثلاً، أخبرتني أنّ لا ذكرى لديها عن لحظة الانفجار. كل ما تذكره أنّها كانت في تحرّك وزارة الطاقة، سمعت الصوت وكان قريباً جدّاً. ثم تذكر أنّها أصبحت في بيتها، وفي اليوم التالي شاركت في أعمال الإغاثة. فعليّاً، عدد كبير من الأشخاص لا ذكرى لهم عن تلك اللحظة. وعلى عكسهم، سجّل كثيرون في ذاكرتهم صوراً بصريّة أليمة للغاية، هي التي حفّزت الصدمة.

منذ أيام، زرتُ صديقاً كي أطمئنّ عليه. فور دخولي أشار إلى الطاولة: “أترى هذه العلب؟ (على الطاولة 7 أو 8 علب سجائر فارغة). هذه حصيلة ما دخّنتهُ مذ نمت آخر مرّة”. لم أفهم حينها، هل يقصد أنّه نام بشكلٍ طبيعي، لكنّه منذ الأمس حتّى اليوم دخّن هذه العلب؟ أم أنّه دخّن بشكلٍ طبيعي، لكنّه لم ينم منذ أيّام؟ تبيّن لاحقاً أن كلا الاحتمالّين خاطئَين، فلا نومه كان طبيعيّاً، ولا تدخينه.

 ذهبوا، تخلّصوا من لبنان الجحيم، وتركونا هنا جثثاً تتحرّك، في انتظار الانفجار التالي.

هذه كلّها قصص أشخاصٍ ما زالوا يملكون هامشاً من الحياة يروون من خلاله قصصهم. لكن غيرهم لا. لم أقوَ أن أقصد أهل أحد الضحايا لأطلب منه إخباري بقصّته، حتى ولو بنيّة توثيقها. لم أستطع، ببساطة. أصلاً، لن يتمكّن أحد من أن يروي قصّتهم بالنيابة عنهم. هم ذهبوا، وأخذوا معهم روايات وأسراراً لا يعلم بها أحد غيرهم. ذهبوا، من دون أن نعرف بما كانوا يفكّرون في هذه اللحظة الملعونة. ذهبوا، تخلّصوا من لبنان الجحيم، وتركونا هنا جثثاً تتحرّك، في انتظار الانفجار التالي.

ريد مطر - صحافية مصرية | 24.04.2024

“لا نعرف مصيرهنّ”: لغط حول مصير ناشطات مصريات اعتُقلن خلال تظاهرة دعم لغزة

"نحن لم نتوقع هذا الترهيب كله، ذهبنا فقط لتسليم بياننا للأمم المتحدة لحثّها على حماية النساء والأطفال في زمن الحروب، وهي المهمة التي تقع على عاتقها كجهة دولية مسؤولة عن ذلك".