fbpx

يحيى الزنداني: عابر جنسي يمني يكسر سجن الجسد وفكر المجتمع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حين أنظر إلى المرآة لم أكن أرى نفسي، الشخص الذي تنعكس صورته أمامي لم يكن أنا”… هنا قصة يحيى الزنداني ورحلة عبوره الجنسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تُنسينا الحرب ما عداها. تُغرقنا في صور الدمار، فتختفي خلف الظلام حكايا أخرى، صار لزاماً أن تخرج إلى النور، ون نستمع إليها لتكتمل إنسانيتنا. في غمرة قصص الحروب ننسى أن ثمة قصصاً تستحق أن نرويها، منها قصة يحيى… 

حين أرسلت له رسالة أعرّف فيها عن نفسي وطبيعة عملي كباحثة، وأبدي رغبتي في الحديث معه، توقعتُ رفضاً قاطعاً، وفي أقل الأحوال تجاهلاً للرسالة ومرسلها. فالقضية شائكة، وقد يكون الخوض فيها مخاطرة على حياته. غير أني تلقيتُ بعد أيام جواباً بالغ التهذيب، يحمل الترحيب والموافقة. حاورته على مدى أيام، فكنت أمام شخصية شديدة اللطف، بادية الثقافة والاطلاع، وبصوته الهادئ الواثق يصوغ أحاسيسه ويسكبها في عبارات واضحة وقوية. فكان هذا حديثاً عابراً للقلب مع “يحيى” العابر الجنسي اليمني. 

بداية الحكاية 

يحيى الزنداني. هذا هو اسمه، لكنه لم يكن كذلك عند ولادته. فقد ولد في جسد أنثى. فأطلقوا عليه اسماً يليق بذلك الجسد. والداه طبيبان، والدته استشارية نساء وتوليد، ووالده استشاري إنعاش وتخدير، تعارفا أثناء دراستهما الطب في روسيا، تزوجا، وأنجبا “يحيى” عام 1997 والحسين بعده بعام. 

ولد يحيى في سانت بطرسبورغ المدينة الروسية الجميلة، لكنه لا يعي من ذكرياتها شيئاً، فقد غادرها وهو في الثالثة، حين أنهى والداه الدراسة وقررا العودة إلى اليمن، إلى العاصمة صنعاء.

حين طلبتُ منه أن يصف والده قال: “في طفولتي كان أبي أفضل أب على وجه الأرض”. يصفه أيضاً بأنه منفتح، قياساً إلى كونه ينتمي إلى آل الزنداني، العائلة المحافظة المتشددة دينياً والتي انجبت قيادات دينية معروفة في اليمن مثل الشيخ عبدالمجيد الزنداني. 

يحيى الزنداني

كبر يحيى باعتباره أنثى، فكان يرى كيف تحيط العائلة بناتها بسياجٍ محكم من المحرّمات والتقاليد المتشدّدة، لكن والده كان مختلفاً، لم يلمس منه يوماً التفريق في المعاملة بين ذكر وأنثى. يثق به ويفخر، يشركه في النقاشات، يسأله رأيه، على رغم حداثة سنه، وينحاز إليه في كل موقف. يروي يحيى: أخذني أبي إلى حفل زفاف أحد أبناء الشيخ عبدالمجيد الزنداني، كنتُ في التاسعة، فتاة ترتدي بنطلوناً وقميصاً، في الممر لمحني الشيخ عبدالمجيد، صرخ في وجه أبي، كيف تسمح لابنتك بأن تقف وسط الرجال كاشفة الشعر، مرتدية ملابس رجالية. أمرني أن أدخل مجلس النساء رافضاً أن أرافقهم إلى الزفة. فما كان من أبي إلا أن رفض هو الآخر مرافقتهم، أخذني وغادرنا المكان، موقف لا أنساه لوالدي

غير أن هذا الأب “الرائع” كان في الوقت ذاته زوجاً سيئاً، تملأه الأوهام والشكوك، يعتدي على زوجته لفظياً وجسدياً، فعاشت الأسرة في صراع طوال الوقت. لم نفهم سبب تلك الحالة التي كان فيها وذلك التناقض. كان يعاملنا بمنتهى الحنان، في حين يصب غضبه على أمي، صراعه معها حرمنا أن نحيا طفولة سوية“. 

رغم مكانة النساء الضعيفة في تركيبة المجتمع وفي الثقافة والتقاليد والقانون، لكن هذا لم يمنع يحي من إلقاء بعض الليوم على والدته، “كانت أضعف من أن تنفصل عن والدي على رغم سوء معاملته لها“. لم يكن لوالدة يحي حضور قوي في طفولته بسبب انشغالها وبسبب أزماتها المستمرة مع أبيه. تولّت جدته لأمه تربيته وشقيقه. وسط هذه الاضطرابات بدأت ملامح جديدة تتكون.

هذا الاسم ليس لي

في عمر ما قبل المدرسة، بدأ يحيى يلحظ أموراً لم يفهم أسبابها. لم يفهم لِمَ كانت أمه تجبره على ارتداء زي غريب يختلف عن زي شقيقه. أو لماذا كان عليه أن يطيل شعره في حين أنه يفضّله قصيراً. وهناك الاسم أيضا، “هبة الله”،أطلقه عليه والداه تيمناً بأغنية كانت رائجة عام مولده، “يا هبة ربي من السما”، قصة جميلة لكنها لا تعني له الكثير، وكذلك الاسم لم يشعر يوماً بأنه يخصه. كل ما يذكره هو شعور الغرابة حين ينادونه به. يود حينها أن يصرخ على طريقة محمود درويش، هذا الاسم ليس لي، ومن الممكن أن يضيف، وهذا الجسد كذلك ليس لي. 

كان يقف بالساعات أمام المرآة يبحث عن ذاته في شكل الأنثى المنعكسة صورتها أمامه فلا يجدها. حين أنظر إلى المرآة لم أكن أرى نفسي، الشخص الذي تنعكس صورته أمامي لم يكن أنا“. لم يفهم كيف يكون في هيئة أنثى في حين أن عقله وإحساسه ينتمي إلى عالم الذكور، كان يشعر بروحه حبيسة جسد لا ينتمي إليه، ولا يعرف كيف يتحرر منه. 

فتى… بالحجاب

 العذاب الخفي الذي كان يعيشه تجسّد بدخوله المدرسة في شكل ألقاب تحرق أسماعه، أقلها عبارة “البنت المسترجلة”. درس الابتدائية في مدرسة ذات توجه ديني. يملكها أفراد من عائلة الزنداني. بيئة منغلقة أسهمت في عزلته ووحدته. لم يكن له أصدقاء غير شقيقه الحسين. ومع اقتراب عمر البلوغ تضخّمت معاناته. ”عانيت حينها من أوجاع حادة عجز الأطباء عن تفسير أسبابها. فأجبرتني أمي على تعاطي العلاجات الهرمونية الأنثوية، كما أجبرتني على ارتداء الحجاب”. عدم استيعابه الأمر الذي يمر فيه، وتأثير الأدوية شكّلا عذاباً يفوق احتمال طفل في العاشرة، عندها راودته فكرة الانتحار.

كان في علبة الدواء بضع حبات، تناولتها دفعة واحدة، لم أمت، ولم ينته العذاب، ولم يحرّك الأمر في أمي شيئاً. نظرتْ إلى العلبة الفارغة وقالت أن هذا لن يخلصني من تناول العلاج. ثم أحضرت علبة دواء جديدة“.

لا مبالاة من حوله أوصلته إلى حدود التمرد، يصف مرحلة الثانوية بأنها سنوات الثورة. لم يعد ذلك الشخص المهذب المطيع. صار يعبّر عن نفسه كما يحلو له بصرف النظر عن حكم الآخرين. تخلّص من القناع الذي كان يختبئ وراءه خوفاً وخجلاً. ما يهمه هو أن يكون ذاته مهما حصل.إذا كان إظهاري حقيقتي يجعلني إنساناً سيئاً فليكن“. 

تمرّد كاد يدفع ثمنه. قرر أهله إجباره على الزواج، لكن ما أنقذه كان قرار الانتقال إلى الصومال. هناك تبددت الحيرة، ووجد تفسيراً لحالته التي أرّقته طويلاً…

عام 2015، وبسبب خطورة الوضع في صنعاء إبّان الحرب، قررت والدته ذات الأصول الصومالية أنّ ترك اليمن والسفر إلى الصومال هو الحل الأفضل. كانت الخطة التي وضعتها واعدة. السفر إلى هناك، وتقديم لجوء، ثم الانتظار. على أن يتولّى أهلها (والدها وأخوتها) الذين يقيمون في استراليا بدء إجراءات لمّ الشمل. كان يفترض أن الأمر لن يستغرق أكثر من 6 أشهر. لكن ما حصل بعد ذلك كان مختلفاً كلياً. 

 اختار الأب أن يظل في اليمن، في حين سافر يحيى مع والدته وشقيقه الذي ما لبث أن عاد إلى صنعاء كي ينهي امتحانات الشهادة الثانوية العامة، وبقي يحيى مع والدته في العاصمة، يستكمل دراسة الطب في فرع جامعة “كنج كوليج” البريطانية هناك، يقول: “في الصومال تعرّفنا إلى أمي من جديد. كانت المفاجأة أن الزوجة المحبة الصابرة المتفانية انقلبت تماماً، “مارست علينا أشكال العذاب التي مارسها أبي عليها. شك، إهانات وتهديدات، كانت تصرفاتها تدلل على أنها تكرهنا، كنت أستشعر بغضها لنا“. 

انزعاج جندري

في هذا الجو المضطرب حدث ما لم يكن يتوقعه. اكتشف أن ما يعانيه هو أمر معروف، له اسم، وله علاج، والأهم من ذلك أنه لم يكن وحده. هناك غيره الكثير. “كنت حينها في الثامنة عشرة، قرأت مقالاً لشخص وصف نفسه بأنه عابر جنسي. كنت أشعر بأنه يحكي عني، يصف شعوري الذي ظل مبهماً لسنوات، حينها فقط فهمت كل شيء“. 

فهم يحيى أخيراً أن ما يعانيه يسمى “الانزعاج الجندري”، وأنه ذكر ولد في الجسد الخطأ، فقرر أن يتكلم. “لم أستطع النوم لفرط سعادتي. ذهبت إلى الجامعة وأنا أتحرّق للعودة للتكلم مع أمي، كنت أظن أنها ستفهمني، أننا سنتحدث وسنفكر معاً في حلول. لكنها بادرتني بالقول: (يا لشماتة الأعداء، ماذا سيقول الناس عنّا) شعرت حينها بالانكسار“

ألغت والدته فكرة السفر إلى أستراليا، لكن يحيى شرع في اتخاذ خطوات عملية وسريعة. تخلص أولاً من اسمه القديم، وأطلق على نفسه اسم يحيى، اتباعاً لتقليد عائلي في تسمية الابن البكر يحيى على اسم الجد. انتظم في جلسات علاجية مع أطباء نفسيين، تواصل مع منظمات عالمية تساعد على إعادة التوطين. إحدى المنظمات كانت متفاعلة للغاية، وكّلت لجنة محامين قالوا إن قضيته مؤكدة وستنتهي خلال أشهر قليلة على أكثر تقدير، وسيحصل على إعادة توطين في أحد البلدان الأوروبية و إنهاء الأوراق القانونية اللازمة. أدركت أمي أنني سأفلت من قبضتها، صارت تراقبني وتفتش هاتفي، تقيّد رجلي في الشباك عند النوم، عملتْ على إصدار تقارير طبية مزورة تفيد بأنني عدواني فاقد للأهلية، ثم أصدرت حكماً بالوصاية تمكّنت به من حبسي في مصحة الأمراض النفسية، تعرضتُ هناك لتحرشات من الأطباء، أجبروني على تعاطي الهرمونات الأنثوية، ومضادات الذهان والاكتئاب بكميات مهولة لدرجة أنني كنت أشعر بعقلي صفحة بيضاء، كنت طالب طب، أثر هذا في استيعابي، ورسبت للمرة الأولى في حياتي“. 

مضى عامان على هذا العذاب، فقرر يحيى أن يهرب…

الهروب إلى اليمن

خطط يحيى للهرب بمساعدة أصدقاء له. وصل إلى ميناء بربرة. لم يكن لديه إثبات هوية غير شهادة الميلاد فكان من الصعب أن تقبله أي سفينة على متنها. لكن رباناً يمنياً تعاطف معه ووافق على صعوده إلى سفينته. لاحقاً وصل القبطان إخطار يفيد بأن الشرطة تبحث عن فتاة هاربة تدعى “هبة الله”. انهار يحيى وطلب الاتصال بوالده. توسلت إلى أبي أن يعيدني إلى اليمن. وافق وتحدث مع الربان الذي وعده أن يحضرني إليه. غير أن واحداً من العاملين في المصحة النفسية التي كنتُ محتجزاً فيها لمحني على متن السفينة. وقعت مشادة وافتضح أمري، ما لبثت أمي أن وصلت إلى الميناء مع ابن عمها محافظ بربرة ترافقهما الشرطة، هددوا طاقم السفينة بالاعتقال والسجن في حال رفضوا تسليمي، فضّلت أن أذهب معهم، ودخلت بعدها في حالة انهيار عصبي“. تولّى أصدقاؤه إبلاغ والده بما حدث. حكوا له عما تعرض له من حبس وتعذيب، بدأ والده بالتواصل مع الجالية اليمنية هناك، ومع السفارة، ومع المستشفى حيث تعمل والدته التي خشيت على سمعتها وعملها، فسمحت له بالعودة إلى اليمن. عدت إلى صنعاء، لبعض الوقت كان أبي متفهماً إلى حد ما، يعطيني قدراً من الخصوصية والحرية. لكنه رضخ في ما بعد للضغوط، من أهله ومن أمي. حبسني ومنعني من الذهاب إلى الجامعة، ثم عاد إلى موضوع إرغامي على الزواج“.

 أمضى يحيى عاماً من الصدامات. داخله اليأس من إمكان الاستمرار بالعيش في اليمن، قرر أن يحكي قصته على حسابه في “تويتر”، علم والده بالأمر. حينها كانت النهاية. هددني والدي بالقتل، أحضر ساطوراً من المطبخ، كان يصيح ويدق على الجدران، (عاهرة جزاؤها القتل)، أقفلت على نفسي باب غرفتي، عشت واقعاً أقرب إلى فيلم رعب، أمضيت 3 أيام تحت الحصار، ساعدني أصدقاء على الهرب من المنزل، قفزت من الطبقة الثالثة، وكدت أكسر قدمي، بعدها وضعنا تدابير الهرب من اليمن“.

حياة على شفا هاوية

أتم يحيى عاماً على هروبه خارج اليمن. يتحفظ على ذكر بقية التفاصيل. فلا يزال في مكان غير آمن. ولا تزال حياته في خطر، تصله من حين لآخر رسائل تهديد. ثم أن التفاصيل قد تضر الأطراف التي ساعدته في هروبه. 

يعيش وضعاً مزرياً حيث يقيم. انقطع عن الدراسة، لا يستطيع العمل، فأوراقه الثبوتية تحمل هوية أنثى. يعتاش مما يحصل عليه من موقع التبرعات الذي أنشأه. إضافة إلى بعض المساعدات التي تصله من منظمات داعمة لـ”مجتمع الميم” أو LGBT. وهو بحاجة إلى إنقاذ عاجل قبل أن يتردّى في الهاوية. “أعيش على حافة الهاوية. مهدد بين لحظة وأخرى أن أجد نفسي ملقى في الشارع، أحاول الصمود لأطول مدة ممكنة، على رغم أن الوضع لا يبشر بخير”. 

يتأرجح بين اليأس والأمل، من جهة يتابع العلاج النفسي والهرموني، كما أتم أول عملية تصحيح جنس، على أمل أن يكمل باقي العمليات. يسير هذا بالتوازي مع أطوار اكتئاب مزمن أدخله في سلسلة متتالية من محاولات الانتحار. آخرها كان في شهر تموز/ يوليو من هذا العام. تعاطيت جرعة زائدة من الأدوية، وأنقذني أصدقائي، أشعر بالإنهاك، أريد أن أنام نوماً أبدياً“.

انقطع التواصل بينه وبين والديه. وقع الطلاق بينهما في العام 2018،، والدته ما تزال في الصومال، وما يزال والده يقيم في اليمن، تزوج من جديد وأنجب طفلاً، أما شقيقه فمنذ أن غادر الصومال وعاد إلى اليمن. واجه الكثير من الأزمات أدخلته في حالة اكتئاب حاد أدت به إلى عزل نفسه في قريته. أفتقد رفيق طفولتي، الشخص الوحيد الذي أشعر أنه يفهمني. حين اعترفت له بأنني يحيى ولست هبة الله لم يتفاجأ، قال بأنه كان يخمّن هذا منذ البداية، وكم يسعده أن يكون له أخ. أما الآن فقد عزل نفسه عن الدنيا، كل ما أعرفه عنه أنه ما يزال على قيد الحياة.

ماهو الانزعاج الجندري أو Gender Dysphoria؟

تعرّف الرابطة الأمريكية للطب النفسي “الانزعاج الجندري“ بأنه شعور الفرد بالانزعاج وعدم الراحة من جنسه المعيّن عند الولادة. ينتج هذا الشعور من انعدام حالة التوافق بين “الجنس البيولوجي” (مجموعة الخصائص العضوية من جينات وهرمونات وأعضاء تناسلية) الذي ولد عليه الشخص و”الجندر” الذي يعني الحالة النفسية التي تعكس شعور الشخص وإدراكه بأنه ذكر أو أنثى بصرف النظر عن تكوينه البيولوجي. حينها يتولّد لدى الشخص شعور بالصراع الداخلي الشديد وبأنه وُلد في جسد لا ينتمي إليه. 

أما الأسباب التي تؤدي إلى عدم التوافق هذا فلا تزال مجهولة، بعض الدراسات تشير إلى دور للهرمونات التي يتعرّض لها الجنين في الرحم قبل الولادة، بالتفاعل مع الظروف الأخرى (الأسرة، الأهل، التربية، المحيط الاجتماعي والبيئي) التي يتربى فيها الطفل. وتبدو علاماته عادة في سن مبكرة جداً، بحيث تظهر لدى الطفل رغبة قوية بأن ينتمي إلى الجنس الآخر، ويتبع وفقاً لذلك سلوكاً مغايراً للجنس الذي ولد به، من ناحية اللباس والألعاب والأنشطة. 

 “لم أستطع النوم لفرط سعادتي. ذهبت إلى الجامعة وأنا أتحرّق للعودة للتكلم مع أمي، كنت أظن أنها ستفهمني، أننا سنتحدث وسنفكر معاً في حلول. لكنها بادرتني بالقول: (يا لشماتة الأعداء، ماذا سيقول الناس عنّا) شعرت حينها بالانكسار“

ويؤثر ”الانزعاج الجندري“ في كل شخص بشكل مختلف. فهناك من يكتفي بالشعور بالانتماء إلى الجنس الآخر، ويفضّل أن يعيش حياة الجنس المخالف لجنسه دون الرغبة في تغيير أو تعديل جسده. وهناك من يرفض جسده الذي ولد به ويلجأ إلى عمليات تصحيح الجنس والعلاج الهرموني وهنا يسمّى العابر جنسياً. 

والأشخاص الذين يعانون من ”الانزعاج الجندري“ أكثر عرضة للتمييز والايذاء والاضطهاد من المجتمع. مما يعرضهم لخطر الانتحار. ويبقى الدور الأهم في جلسات العلاج النفسي والدعم الأسري الذي يخلق بيئة داعمة تساعدهم على فهم حالتهم والتكيّف معها. 

ومن المهم معرفة أن “الانزعاج الجندري” يختلف اختلافاً كلياً عن “الخنثى”، وهو الشخص الذي يحمل أعضاء تناسلية مشتركة بين الجنسين. ويختلف كذلك عن “المثلية”“ التي تعبّر عن الميول الجنسية للفرد وليس الإحساس الداخلي بالانتماء إلى الجنس الآخر.

فتاوى دينية في معزل عن الواقع

لا تزال الآراء الفقهية مقيّدة بالمحسوس، وتحرّم تحريماً قطعياً عمليات تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى وبالعكس إلا في حالات حصرها في وجود أعضاء ظاهرة ومستترة، من دون اعتبار للحالة النفسية والصراع الذي يمر فيه الشخص العابر جنسياً. 

فقرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي رقم 6 في دورته الحادية عشرة عام 1989، يذكر أن الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها، لا يجوز تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحق فاعلها العقوبة لأنه تغيير لخلق الله. أما من اجتمعت في أعضائه علامات النساء والرجال، فينظر فيه إلى الغالب من حاله. (قرارات المجمع الفقهي الإسلامي في دوراته العشرين، الصادر عن رابطة العالم الإسلامي، ص291).

ولم تختلف فتوى دار الإفتاء المصرية، وفتوى شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق عام 1981، الذي قصر جواز إجراء الجراحة، إذا وجدت الدواعي الخلقية في الجسد مثل علامات الأنوثة أو الرجولة المطمورة، باعتبار أن هذه الجراحة تظهر تلك الأعضاء، ولا تجوز الجراحة لمجرد الرغبة في التغيير من دون دواع جسدية صريحة غالبة. وإلا كان ذلك تغييراً لخلق الله. (موسوعة أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام، الجزء الخامس، الشيخ عطية صقر، ص 196-170) 

أما في اليمن وبسؤال أحد أساتذة الفقه المقارن في جامعة صنعاء، قال إنه لم يصل إلى علمه أي فتوى تخص حكم تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى والعكس صادرة عن “هيئة علماء اليمن” الجهة المخولة إصدار الفتاوى في اليمن، أما الحكم إجمالاً فهو معروف ولا يختلف عما ورد في فتاوى هيئة كبار العلماء في السعودية وفتاوى الأزهر، وهذا يقع ضمن تغيير خلق الله والتشبّه الذي يستجلب اللعن والطرد من رحمة الله. 

سجين المكان يغادره، فيتلاشى شعوره بالأسر. لكن ماذا يفعل سجين الجسد؟ كيف تغادر جسدك؟ ما يعيشه العابر الجنسي من معاناة نفسية تفوق قدرة العقل على التخيل، لكن هذا ليس كل شيء، ففوق العذاب الداخلي الذي يواجهه يحيى، هناك حرب مدمرة تستعر في بلده منذ سنوات، وهناك نبذ المجتمع، ويبقى الأمر الأكثر وجعاً، تخلّي أهله عنه، حُرم يحيى من دعم أهل يقولون له، نحن معك، ونحبك كما أنت. بدلاً من هذا تُرك وحده للوجع والغربة، يصارع واقعاً بائساً ومستقبلاً قاتماً. يحلم ببلد يستطيع الاستقرار فيه واستكمال دراسته، ويعمل ويعيش في أمان. ما يقاسيه يحيى لم يكن باختياره. لا يطلب من الناس سوى قدر يسير من اللطف، وقدر أكبر من التفهّم والقبول. نحن مختلفون، هكذا يُفترض أن نكون، وحق كل منا أن يختار حياته كما يشاء، وحق يحيى أن يحيا كما يريد.