fbpx

لبنان: ضوء شحيح آتٍ من سد بسري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سقط سد بسري لأن الناشطين لم يغمضوا أعينهم ثانية واحدة وبقوا هناك، رافضين السماح للآليات بالدخول وبدء العمل، ولأنهم قاتلوا من أجل مرجهم وصحة أولادهم ولأنهم حاربوا في سبيل الحياة كما يرغبونها، لا كما كان السدّ سيرسمها لهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

استطاع وقف مشروع سد بسري من البنك الدولي رسم شارة أمل صغيرة، امتدّت من مرج بسري إلى شوارع بيروت المحطّمة إثر انفجار 4 آب/ أغسطس. كانت أجواء الاحتفال بُعيد إعلان البنك الدولي قراره، صاخبة ووصل صداها إلى مختلف المناطق، فمئات الأشجار التي كانت مهددة بالقطع من أجل سدّ من التنفيعات والمصالح الخاصة، ضحكت لتوّها وضحك معها اللبنانيون المنتفضون منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر.

فهنا ناس هزمتهم سلطتهم ألف مرة وحاولت قمع انتفاضتهم وتسييسها وقتلها، هزمهم الجوع والبطالة والفساد والنهب والمشاريع المشبوهة والصفقات التي تُنفَّذ على حسابهم. هنا ناس ردّ لهم سد بسري الذي هوى وانتهى، شيئاً من اعتبارهم واستطاعوا تسجيل تسديدة مباشرة ضد السلطة التي ما كانت تأبه لأضرار السد البيئية والصحية والاجتماعية. هنا ناس يشعرون بشيء من السعادة أخيراً، فيما رجال السلطة يتخبطون في هزيمتهم، لأنّ صفقة مربحة طارت من أيديهم، ويتوعّدون الشعب بأنه سيعطش وسيعود نادماً ليطالب بالسد.

رجال تلك السلطة لم يكن في بالهم أنّ شعبهم سيرفض أن يشرب مياهاً ملوّثة ومسرطنة بفعل اختلاطها بمياه بحيرة القرعون، ولم يمرّ في بالهم أن نضال الشابات والشبان والخبراء في مرج بسري سيصل إلى مكان، وسيكون على البنك الدولي أو سواه أن ينصاع لرغبة المواطنين، لا رغبة حاكميهم الذين وصلت أخبار فسادهم إلى أقاصي الأرض.

تقول سعده علوه، ناشطة ورئيسة قسم الصحافة في المفكرة القانونية لـ”درج”، إن “وقف العمل في سد بسري ووقف تمويله انتصار للمقارعة العلمية في وجه المحاصصة والصفقات، فهناك خبراء عملوا جاهدين على توفير الأجوبة للناس على أي سؤال حول السد، ومقارعة كل حجة بحجة علمية، من نوعية المياه (المسرطنة والملوثة) إلى كمياتها غير الكافية، إضافة إلى الخطر الزلزالي والبيئي والتغير الاجتماعي الذي يفرضه السد، وغير ذلك من الأمور”.

تضيف علوه: “وسط هذه الانهيارات المتتالية لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت، أتى خبر وقف مشروع السد كبارقة أمل، بأن النضال والعمل العلمي والمتواصل، ينجحان على رغم هذه السلطة الوقحة والفاسدة ومتشابكة المصالح”.

البحث عن تمويل آخر للسد!

لكنّ تلك السلطة الوقحة حقاً، لم يعجبها أن تنتصر البيئة ومحبوها هذه المرة، وبدأ التفتيش عن مصادر أخرى لتمويل المشروع القاتل، الذي من شأنه القضاء على مئات آلاف الأشجار، إضافة إلى تعريض المنطقة إلى خطر زلزالي واضح. والأهم أنّ مياه السد التي كانت السلطة، ولا سيما “التيار الوطني الحر” المدافع الأول عن المشروع، في صدد تقديمها إلى أهل بيروت، هي في الواقع مياه مسرطنة، وتبيّن وفق الدراسات أن كميات المياه التي وُعِد بها الناس، لم تكن واقعية.

“وقف العمل في سد بسري ووقف تمويله انتصار للمقارعة العلمية في وجه المحاصصة والصفقات”.

في هذا السياق تقول علوه: “نحنا الآن نفكّر بالخطة (ب)، لأننا نعرف أن أحزاب السلطة ستحاول الحصول على تمويل من مكان آخر. ولكن يبدو أن الأمر صعب، فمن هي هذه الجهة التي ستموّل مشروعاً أوقف البنك الدولي تنفيذه؟”.

السؤال الآن، ماذا عن مستقبل مرج بسري؟ تقول علوه: “لا نريد أن يتحوّل المرج إلى مجرد محمية طبيعية، نريد أن ندافع عنه كمرفق حيوي يستفيد أهل المنطقة منه، ويساهم في تحقيق الأمن الغذائي”.

كيف ستشرب بيروت؟

“سيأتي يوم تطالب فيه الدولة اللبنانية ومعها كل أهالي بيروت وجزين وصيدا والشوف وبعبدا وعاليه بتمويل سد بسري”، “ستظهر الحاجة للمياه، عندها لن ينفع البكاء، ولن يجدي إلا تأمين قرض جديد لنعود إلى نفس السد”، هكذا هدد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل اللبنانيين بعد إعلان وقف التمويل.

تغريدة باسيل وغيرها من التصريحات التي رافقت قرار البنك الدولي، لا تدلّ سوى على رغبة هذه السلطة في الاستمرار في المواربة وأخذ النقاش إلى مكان آخر. مصادر المياه التي يمكن أن تصل إلى بيروت وغيرها من المناطق ليست مستحيلة ويمكن أن تتأمّن من دون اللجوء إلى تدمير البيئة وتعريض حياة الناس وصحتهم للخطر. ومن تلك المصادر: ينابيع بيروت الكبرى، المياه الجوفية، وإعادة تغذيتها، إعادة تأهيل الشبكة المهترئة ووقف التعديات، إضافة إلى إمكان استغلال مياه الأمطار التي تغرق فيها المدينة وأهلها كل شتاء من دون أي استفادة منها.

في مقال منشور في المفكرة القانونية، يشير الناشط والمهندس رولان نصور إلى دراسة أجراها المعهد الفدرالي الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعيّة (BGR) حول حماية مستجمع جعيتا المائي. هذا المستجمع يغذّي بيروت الكبرى بأكثر من 70 في المئة من مياهها عبر نبعي جعيتا والقشقوش وبعض الآبار. ويتمّ جرّ قسم من مياه تلك المصادر مع قسم من مياه نبع أنطلياس إلى محطّة ضبيّة للمعالجة قبل توزيعها على مناطق بيروت الكبرى. وقدّرت تقارير المعهد الألماني معدّل تصريف نبع جعيتا بـ172 مليون م/ سنة، ونبع القشقوش بـ70 مليون م/ سنة، ونبع أنطلياس بنحو 9 مليون م/ سنة. ويناهز معدّل تصريف هذه الينابيع مجتمعة 251 مليون م/ سنة، فيما يتراوح معدّل تصريفها اليومي بين 250 ألفاً، ومليون و540 ألف م3 بحسب المواسم.

إلآ أنّ الدراسة أظهرت أن الهدر الحاصل في استثمار تلك الينابيع كبير جداً. واقترح المعهد الألماني تطوير منشآت نبع جعيتا لتفعيل التقاط المياه منه، وإنشاء ناقل جديد لمياه نبعي جعيتا والقشقوش بسعة 7 م/ ث، وذلك بكلفة إجماليّة تتراوح بين ثلاثين وخمسين مليون دولار أميركي، وهي كلفة بسيطة مقارنةً بتكاليف مشروع جرّ مياه الأوّلي إلى بيروت التي تصل إلى مليار ومئتي مليون دولار أميركي. وذكرت تقارير المعهد أنّ “باستطاعة مستجمع جعيتا تأمين ما يكفي من مياه لبيروت الكبرى، وهي تتميّز بنوعيّة ممتازة من مصدرها”، مضيفةً أنّ “الاستثمار يكون أكثر استدامة لو توجّه إلى حماية مصادر مياه نبع جعيتا، بدل جرّ المياه من مصادر أخرى بعيدة عن بيروت وأكثر تلوّثاً”.

ووفق نصور أيضاً، تعاني أجزاء كبيرة من شبكة المياه في لبنان من الاهتراء والتعديات، إذ وصل معدّل الهدر فيها إلى 48 في المئة في لبنان عامّةً و40 في المئة في بيروت الكبرى خاصّة (أي نحو 42 مليون م3/سنة) بحسب أرقام وزارة الطاقة والمياه الصادرة سنة 2010. ويعود عمر بعض التمديدات في بيروت إلى عهد الانتداب الفرنسي وهي مصنوعة من الرصاص غير المناسب لنقل مياه الشرب. وفي ظلّ غياب الرقابة وطغيان المحسوبيّات، يقوم بعض الأفراد والشركات باستغلال الشبكة العامّة فيسرقون المياه لأهدافٍ تجاريّة. لذلك، يتوجّب إعادة تأهيل الشبكة ووقف التعديات عليها لزيادة فعاليتها وتقليل الحاجة لمشاريع إضافية غير ضروريّة.

بدائل سد بسري واضحة وممكنة وهي طبعاً أقل كلفة من السدود والمشاريع المشبوهة، لكنها بطبيعة الحال لا تعجب السلطة الحاكمة لأنها لا تدرّ عليها أموالاً خارجية ولا تستطيع بالتالي إخضاعها للمحاصصة والتقسيم الطائفي والحزبي والمذهبي، لذلك يتم اللجوء إلى السدود والطرائق المواربة وغير السوية، والتي غالباً ما تنتج مشاريع لا تُنجز، وفي حال أُنجزت لا يستفيد منها الناس، بل فقط السياسيون الذين كانوا عرابيها.

يقول نصور لـ”درج”: “سقوط سد بسري دليل إضافي على انهيار المحاصصة، سد بسري يمثل ما كنا نحاول محاربتة من محاصصة وزبائنية على حساب المجتمع والبيئة. وسد بسري هو من أكبر المشاريع التي كانت مطروحة، وهو يستجلب أكبر قرض، وبالتالي سقوطه له معنى ورمزية، في رفض المشاريع التي لا تضع الحيز البيئي والاجتماعي والصحي أولوية”.

يضيف: “سقوط سد بسري يمنحنا أملاً بأنّ إرادة الناس تستطيع إسقاط مشاريع هذه السلطة الوقحة. فقد رأينا فشل السدود، التي وضعتها وزارة الطاقة ضمن الخطة الوطنية لإدارة المياه، والتي أقرها مجلس الوزراء عام 2012، واليوم نرى فشل هذه السدود من سد بريصا إلى سد المسيلحة وغيرهما، هذا يجعلنا أكثر تشدداً في رفض هذه السياسات وهذه المشاريع والنضال من أجلها”.

ما هو السد؟

كان يفترض أن يصبح سد بسري ثاني أكبر سدود لبنان، وكان وفق ما قاله مريدوه سيؤمن المياه لأهل بيروت، لكنها افتراضات تبيّن أنها غير دقيقة.

تبلغ كلفة مشروع السد 617 مليون دولار، بينها 474 مليوناً من البنك الدولي، وتصل قدرة استيعابه إلى 125 مليون متر مكعب ستتجمع في بحيرة تقارب مساحتها 450 هكتاراً. لكن هذه البحيرة كانت ستحل محل الأراضي الزراعية.

وكان أهالي المنطقة وناشطون وخبراء من مختلف المناطق اللبنانية نفذوا تحركات متواصلة منذ سنوات، اتخذت حيزاً أكبر مع انطلاقة انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر في لبنان. وبذلك أعلنوا رفضهم المشروع برمّته، مستندين إلى دراسات وآراء خبراء أكّدوا أن المشروع من شأنه القضاء على منطقة زراعية وحيوية، إضافة إلى تهديده صحة الناس بالمياه المسرطنة والملوثة. كما أبدوا خشيتهم من أن يحرك السدّ الصدع الزلزالي الذي يمر من المنطقة، والذي كان تسبب عام 1956 بزلزال بقوة ست درجات على مقياس ريختر.

“لا نريد أن يتحوّل المرج إلى مجرد محمية طبيعية، نريد أن ندافع عنه كمرفق حيوي يستفيد أهل المنطقة منه، ويساهم في تحقيق الأمن الغذائي”.

وعلق البنك الدولي في حزيران/ يونيو الماضي المشروع جزئياً، وكانت الهيئة المالية الدولية في انتظار رد من الحكومة اللبنانية حيال مسائل أثارت “قلقه” واعتبرها شروطاً مسبقة تتضمن الانتهاء “من وضع خطة التعويض الإيكولوجي” كجزء من التقييم البيئي والاجتماعي للمشروع.

وتتضمن تلك الشروط إعادة التشجير والحد من مخاطر الحرائق، والانتهاء “من وضع ترتيبات التشغيل والصيانة” و”وجود المقاول في موقع العمل” في الرابع من أيلول/ سبتمبر 2020.

وكان قرض تمويل المشروع أقر في 2014، وكان من المقرر بناء السد في منطقة وادي بسري، على بعد ثلاثين كلم جنوب العاصمة لتأمين مياه الشرب لـ1.6 مليون نسمة في منطقة بيروت الكبرى.

لكنّ المهلة انتهت ولم تستطع الدولة اللبنانية الالتزام بالشروط، فأعلن البنك الدولي أنه أبلغ الحكومة اللبنانية “قراره بإلغاء المبالغ غير المصروفة من مشروع زيادة إمدادات المياه (مشروع سد بسري) نتيجة لعدم إنجاز البنود التي تشكل شروطا مسبقة للبدء بأعمال بناء السد”.

وأوضح البنك أن “قيمة الجزء الملغى من القرض تبلغ 244 مليون دولار أميركي، ويدخل الإلغاء حيز التنفيذ فوراً”.

سقط سد بسري، ليمنحنا أملاً بأنّ سقوطه سيكون نهاية أبدية له وللسدود الأخرى والمشاريع الرديفة التي تدّعي حلّ مشكلات الناس، إنما لا تنصاع إلا لما يناسب الطبقة السياسية وفسادها، بغض النظر عن الضرر الصحي أو البيئي أو الاجتماعي… سقط سد بسري لأن الناشطين لم يغمضوا أعينهم ثانية واحدة وبقوا هناك، رافضين السماح للآليات بالدخول وبدء العمل، ولأنهم قاتلوا من أجل مرجهم وصحة أولادهم ولأنهم حاربوا في سبيل الحياة كما يرغبونها، لا كما كان السدّ سيرسمها لهم.