fbpx

التلوث في نهر دجلة: لا جدوى من محطات التنقية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

توقفت محطات تنقية المياه عن العمل بسبب أضرار هائلة لحقت بها جراء العمليات العسكرية، بينما توقف الكثير منها بسبب نقص الوقود أو المواد الأولية اللازمة لصيانتها وتشغليها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان عمر حسين (30 سنة) يعمل خلال مرحلة احتلال “داعش” مدينة الموصل 

(2014- 2018) ،في بيع المياه، يجوب بشاحنة صغيرة تحمل “جليكانات” (غالونات) بسعة 20 ليتراً يعبئها من نهر دجلة، ويبيعها إلى المواطنين بين أزقة المدينة القديمة. لم يخش حسين الموت بقذائف الهاون ورصاص القوات الأمنية أو “داعش”، أكثر من خوفه من العطش. “كان علي تأمين مياه الشرب لعائلتي، مهما كانت نوعية تلك المياه، ولأبيع أيضاً ما يفيض عن حاجة عائلتي لشراء بعض الطعام، لم يكن لدينا خيار آخر، كان انقطاع المياه يستمر أياماً”. 

توقفت محطات تنقية المياه عن العمل في تلك الفترة، وذلك بسبب أضرار هائلة لحقت بها جراء العمليات العسكرية، بينما توقف الكثير منها بسبب نقص الوقود أو المواد الأولية اللازمة لصيانتها وتشغليها. لم تتغير أحوال المدينة بعد تحريرها من قبضة “داعش” وإعادة تشغيل تلك المحطات، ذلك أن نهر دجلة تحول إلى مكب للنفايات ومصب لمياه المجاري والصرف الصحي، ناهيك بوجود جثث القتلى فيه، وأنقاض المئات من البيوت المدمرة التي غطت ضفاف النهر. 

إلى جانب الملوثات التي تحملها مياه الصرف الصحي العضوية، والتي تأتي من مناطق عدة على امتداد النهر مختلطة بمياه المجاري، تعاني مياه النهر من ملوثات معدنية كبريتية بحسب أبحاث أجراها مختصون بيئيون في المدينة. يتابع الأكاديمي المختص بالبئية وعميد كلية البيئة الأسبق في جامعة الموصل، د.معاذ حامد، أحوال النهر منذ أكثر من 5 عقود، لكن ما وصل إليه الآن من ترد وتلوث، يشكّل فارقة بالنسبة إليه طيلة تلك السنوات. 

يسرد حامد كيف كانت المياه تتموج في النهر سابقاً وتتسابق الأسماك على فتات الخبز، إضافة إلى منظر زوارق الصيادين، وأسراب النوارس المحلقة فوق النهر والأشجار الوارفة على ضفتيه. “ضاعت تلك الصور ومرت سريعاً كأنها حلم، لقد تحول النهر إلى مصدر للتلوث بسبب 13 مصباً فرعياً لمياه الصرف على ضفتيه من نقطة دخوله إلى الموصل حتى خروجه”، يقول حامد. 

بحسب دراسة أعدها عن تلوث النهر قبل سيطرة “داعش” على الموصل، فإن حجم المياه الملوثة المطروحة من هذه المصبات يقدر بنحو 500000 م3 في اليوم، آتية من 183 حياً سكنياً في جانبي المدينة التي يزيد سكانها عن مليوني نسمة، بحسب دائرة الإحصاء. وينبه حامد إلى أن هذه المياه الملوثة تستخدم لري مئات الحقول الزراعية والخضرة وتشكل خطراً على الصحة العامة. وكانت المياه الملوثة ذاتها مصدراً لمياه الشرب في المدينة ومن دون أي معالجة تذكر إبان حكم “داعش” وتسببت بأمراض كثيرة بين السكان.

وتعد مياه الأنهر الجارية وبخاصة الكبيرة منها، مياهاً خاماً، كونها تأتي من مصبات لم تختلط مع الملوثات الكيماوية والعضوية، أو اختلطت معها بنسب محدودة جداً تمكن معالجتها في محطات التنقية، لكن وضع نهر دجلة مختلف. ويقول حامد، “تحمل مياه دجلة قبل دخول الموصل 3 إلى 5 ملليغرامات من الملوثات العضوية لكل ليتر، وتغادرها بمقدار يفوق الـ100 ملليغرام لكل ليتر”. يذكر أن نسبة التلوث العالمية تقدر بـ5 ملليغرامات لليتر كحد أقصى، وإذا زادت النسبة عن هذا الرقم يتحول تصنيف المياه إلى مياه ملوثة. 

د. نزار النعيمي أستاذ التربة في جامعة الموصل، ينبّه إلى أن المياه التي تحمل ملوثات عضوية تؤذي التربة الزراعية وتحولها إلى “تربة ملحية”. وبحسب مخطط لمجاري محافظة نينوى تم الاطلاع عليه، فإن أكثر من 20 مصباً فرعياً وثانوياً لمياه المجاري على ضفتي نهر دجلة تصب مباشرة في النهر من دون المعالجة.

نهر دجلة لم يعد صالحاً للسباحة

يقول عبدالرحمن (35 سنة) الذي اعتاد السباحة عند الضفة اليمنى لنهر دجلة، أن “الملوثات تتراكم على الضفاف محملة بمواد صلبة كالبلاستك والأكياس وانوع مختلفة من الفضلات التي تطفو على السطح، فيصبح لون المياه داكناً ورائحتها  كريهة، كأنها مياه مجاري”.

لا ينفي المسؤول عن صيانة مجاري الجانب الأيسر للمدينة عمر منذر، حقيقة التلوث، على  رغم تأكيده أن شبكة الصرف الصحي “ليست ملوثة كونها مخصصة للاستعمال المنزلي فقط”، لكنه يستدرك قائلاً، “شبكتنا هي لتصريف مياه الأمطار وليست شبكة صرف صحي. مدينة بحجم الموصل يعيش فيها أكثر من مليوني نسمة تفتقر إلى اليوم لشبكات المجاري بمواصفات عالمية، فالشبكة الحالية تعود إلى ثمانينات القرن الماضي وسبعيناته، وكانت أنشئت للتخلص من مياه الأمطار بالأساس، لكنها تحولت إلى شبكة لمياه المجاري وبالتالي فهي تطرح مياهها مباشرة في النهر، أما شبكة تصريف المياه الصحية فلا وجود لها أصلاً”. 

تختلف نسبة التلوث وحجم مطروحات المصبات العشرين من مصب إلى آخر، بحسب مصادر مياهه والأماكن التي تمر فيها، وصولاً إلى المجرى الرئيس الذي يصب في النهر كما يقول د.عبدالمحسن سعدالله، أستاذ هندسة البيئة في جامعة الموصل. وهو من السباحة في دجلة وبخاصة تحت الجسور، ذلك أن المياه ملوثة وتسبب أمراضاً، كما جاء في دراسة أعدت في الجامعة ذاتها.

وتؤكد طبيبة الأمراض الجلدية فاطمة مبارك أن السباحة في مياه ملوثة، تحديداً مياه حواف الأنهر قد تسبب أمراضاً معوية وجلدية، ناهيك بأنها مصدر للإصابة بالتيفوئيد والدودة الشريطية أو التهاب الكبد الفايروسي نوع A.

ففيما لا يقلق حجم التلوث مدير إعلام مديرية بيئة نينوى، نشوان شاكر، الذي يشير إلى أن النهر يتعافى من الملوثات من خلال جريانه المستمر بخاصة في مواسم الأمطار، يرى الدكتور طه احمد من جامعة الموصل، أن النهر في الموصل “لا يتعافى بسبب كثرة الملوثات وتنوعها بين عضوية وكيماوية وصلبة، إضافة إلى انخفاض نسب تصريف المياه بعد بناء السدود”.

مصادر أخرى للتلوث

تعد فضلات الحيوانات لا سيما فضلات الجاموس الذي تنتشر تربيته في أطراف الموصل، مصدراً آخر لتلوث مياه النهر. ويقول أستاذ التربة في جامعة الموصل د.نزار النعيمي بهذا الشأن، “يمرّ النهر قبل دخول الموصل في مناطق تنتشر فيها تربية الجواميس ويلقي مربوها في ظل انعدام الرقابة والثقافة البيئية، نفايات حظائرهم في النهر وهي في الأغلب مواد عضوية”. وتظهر دراسة أعدها د. معاذ حامد أن فضلات الجواميس التي تطرح في النهر تزيد عن 12 طنا يومياً في قصبة بادوش وحدها.

وأدى توقف عمليات الكري وبخاصة مع انخفاض معدلات تصريف المياه في سد الموصل، إلى تهديد بيئي آخر يتمثل بالأعشاب النهرية، إذ تمكن رؤيتها ملتصقة بطوافات الجسر العائم وملتفةً على الأسلاك التي تثبت الطوافات وتغوص في المياه. ومن شأن هذه الأعشاب النهرية إضفاء المزيد من التلوث العضوي في المياه نتيجة تحللها، بحسب حامد.

مدينة بحجم الموصل يعيش فيها أكثر من مليوني نسمة تفتقر إلى اليوم لشبكات المجاري بمواصفات عالمية، فالشبكة” الحالية تعود إلى ثمانينات القرن الماضي وسبعيناته”.

يضاف إلى ذلك، محال تصليح السيارات وتغيير الزيوت وصيانة البطاريات في الحي الصناعي في الجانب الأيسر المدينة، إذ يتم تفريغ محتويات بطاريات السيارات من مواد كيماوية خطرة في المجرى الخارجي، وكذلك الأمر مع زيوت السيارات التي تنتهي إلى نهر دجلة بعد مرورها بأنابيب المجاري. وتوصلت دراسة سابقة أعدها باحثون من جامعة الموصل وهم عادل علي بلال ومصعب عبد الجبار التمر ومحمد أحمد سعید، إلى أن مصب وادي عكاب يصرف مطروحاته مباشرة إلى نهر دجلة. وتمثل مزيجاً من مياه الفضلات الصناعية والمنزلية. وتجاوز تركيز المواد العالقة فيها عن 122 في المئة، وبقية الشوائب بمقدار 16-29 في المئة.

البناء العشوائي

ازدادت مشكلة التلوث، مع تزايد إنشاء الأحياء السكنية العشوائية، فالبناء خارج التخطيط البلدي ومن دون شبكات صرف صحي، حول الوديان موسمية الجريان إلى دائمة الجريان، ومعها أصبحت تلك المناطق بؤراً للتلوث. وفي ظل غياب التخطيط، والتوسع العمراني العشوائي، تحول نهر الخوصر وسط الموصل، وهو مجرى موسمي لمياه الأمطار أنشأه السومريون قبل آلاف السنين، إلى مجرى دائم بعدما أضيفت إليه مياه مجاري بعض الأحياء الجديدة، ليصبح أكبر ملوث مائي يصب في دجلة من دون معالجة. 

يقول العامل الفني في مجاري المحافظة عمر منذر: “إن شبكات تصريف مياه المجاري في الموصل فقيرة جداً، لذا تصرف المياه إلى المجاري المائية، لا حل آخر أمامنا”. ويشير في السياق نفسه، إلى أن نظام تصريف مياه المجاري قديم جداً ويعتمد على انحدار الأرض، وبالتالي، تم تحويل عدد من الوديان إلى مجارٍ لتصريف المياه الثقيلة أيضاً وبهذه العملية أصبحت تلك الوديان، التي كانت تجري المياه فيها خلال الشتاء والربيع، دائمة الجريان. والمثال الأوضح في هذا الخصوص هو وادي الدانفلي في جانب المدينة الأيسر، إذ أصبح مجرى لتصريف المياه الثقيلة لأحياء سكنية مجاورة، فضلاً عن مخلفات المنطقة الصناعية من زيوت وسوائل بطاريات. ويتم ري 14 حقلاً زراعياً في هذا الوادي قبل أن تصب مياهه الملوثة في دجلة. 

المياه الثقيلة 

نظام تصريف المياه الثقيلة في معظم الأحياء السكنية البالغ عددها 183 حياً، موزع في جانبي المدينة الموصل، وعبارة عن تشكيل مكعب من الخرسانة (الكونكرت) بأرضية طينية تترسب منها المياه إلى العمق، فيما تمكث الفضلات الصلبة وتتجمع فوق بعضها إلى أن تستدعي الحاجة إزالتها بواسطة صهاريج خاصة تفرغها في مناطق خارج المدينة. وبما أنها وسيلة مكلفة لمحدودي الدخل، يستخدم البعض نظاماً يعرّفه العاملون في قنوات الصرف الصحي بـ”الأوفر فلو”، وذلك عبر أنبوب ينتهي في المجاري خارج المنزل، تمرر عبره نضوحات المياه الثقيلة. ويعد هذا الأمر مخالفاً للقانون بسبب أضراره البيئية، بحسب عمر منذر، لكن لا أحد يُحاسَب. في جولة قصيرة رصد معد هذا التقرير في حي الجزائر، سبعة منازل تستخدم الطريقة ذاتها للتخلص من المياه الثقيلة.

تعد فضلات الحيوانات لا سيما فضلات الجاموس الذي تنتشر تربيته في أطراف الموصل، مصدراً آخر لتلوث مياه النهر.

معظم المواطنين في المدينة لا يدركون خطورة الأمر، ويساهمون في زيادة تلوث نهر الدجلة، مصدرهم الوحيد لمياه الشرب، ويرجع الناشط المدني ابراهيم الطائي هذه الظاهرة إلى انعدام التوعية في مجال التلوث والحفاظ على البيئة.

وجاء رد قسم الإعلام في مجاري نينوى على أسئلتنا بأن “شبكة الصرف الصحي تتعرض لانتهاكات من المواطنين، فيتم رمي المخلفات فيها، فزادت نسبة التلوث بعد تحللها وتأكسدها، ناهيك بتدفق المياه الثقيلة في المجاري ذاتها”. ويشير إعلام دائرة المداري إلى أن ما بين 4 و9 أطنان من النفايات تقريباً تستخرج يومياً من شبكة المجاري في الجانب الأيسر من المدينة فقط، مؤكداً أن هذه النفايات عند تعرضها للضغط تنتج عصارة سامة جداً، تخرج من تحلل المواد في بيئة لا هوائية.

حلول لا ترى النور

تحدث المهندس الإنشائي سلام عبد الله عن مشروعٍ رائد أدرج للنقاش في مجلس محافظة نينوى عام 2009، وتمثل بإنشاء سد غاطس في نهر دجلة وتحديداً في الجزء الجنوبي المار منه في مدينة الموصل. 

وقال إن المشروع كان سيوفر كميات هائلة من المياه وبعمق كبير يسهل عمل محطات التنقية التي تستمد مياهها من النهر. مع تقليل أثر ما تفرغه المصبات حتى إنشاء شبكات تصريف ومعالجة متكاملة. فضلاً عن زيادة الثروة السمكية ومد المزارع باحتياجاته خلال موسم الجفاف وإنعاش المدينة اقتصادياً، من خلال إنشاء مرافق سياحية على الضفتين في الجانبين.

معظم المواطنين في المدينة لا يدركون خطورة الأمر، ويساهمون في زيادة تلوث نهر الدجلة، مصدرهم الوحيد لمياه الشرب.

ولفت سلام إلى أن المشروع لم يكن يتطلب إمكانات ضخمة أو ميزانية كبيرة لتنفيذه، بل كل ما في الأمر هو حفر مجرى النهر لعمق يزيد عن 40 متراً لا غير.

لم يحصل تصويت على مشروع سد غاطس في دجلة في مجلس محافظة نينوى بسبب اعتراض ممثلي محافظات أخرى، يمر فيها دجلة جنوب نينوى، لخشيتهم من أن يؤدي ذلك إلى تقليل حصص محافظاتهم من المياه، بخاصة أن النهر يعاني أصلاً من تناقص بسبب مشاريع السدود التي أقامتها تركيا في مناطق قريبة من منبعه على أراضيها.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية