fbpx

“كورونا” تونس: مدارس تفتح أبوابها بلا مياه أو معقمات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حددت الوزارة خططاً لاعتماد العودة التدريجية إلى المدارس، ثم المناوبة لتخفيف الضغوط على أقسام الدراسة وضمان تطبيق البروتوكول الصحي. لكن التقيد بهذا البروتوكول قد يبدو مستحيلاً في ظل وضع مأزوم بخاصة في مدارس المناطق الداخلية المهمشة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبيل انطلاق العودة المدرسية، قام رئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي بجولة في بعض المدارس في مناطق مختلفة، أعرب خلالها عن دهشته واستغرب وضع المدارس المزري.

الزيارة لم تشمل المدارس المنسية حقاً في أرياف محافظات الشريط الغربي للبلاد، حيث التعليم مهمة شاقة على التلميذ والمربي على حد السواء، والمدارس تئن بلا صوت، ولا يراها أحد من أولئك الجالسين على مقاعدهم المريحة. ولهذا قوبلت تصريحات المشيشي بوابل من السخرية من التونسيين لاعتبارات عدة، أولاً لأن رد فعل الرجل لم يبد صادقاً، فليس خافياً على أحد واقع المدراس الكارثي في تونس. لكن المشيشي بدا وكأنه يواصل سياسة الدهشة التي دأب عليها أهل السلطة في تونس مع كل حكومة جديدة، تعليقاً على الأوضاع الصعبة في البلاد. ثانياً لأن المشيشي هو أحد أبناء محافظة جندوبة، أكثر المحافظات فقراً في البلاد، بالتالي فهو ليس بعيداً عن الوجه الآخر الأشد بؤساً للمدارس في تونس.

استؤنفت العودة المدرسية في تونس في 15 أيلول/ سبتمبر، وسط مخاوف الأهالي من مغبة تعرض أبنائهم للعدوى بفايروس “كورونا”، الذي دخل المرحلة الثالثة التي وفق الناطقة باسم وزارة الصحة والمديرة العامة للمرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة نصاف بن علية، تتصف بالانتشار السريع في حلقات العدوى، على رغم البرتوكولات الصحية التي وضعتها وزارة الصحة بمعية وزارة التربية ونقابة التعليم. 

وحددت الوزارة خططاً لاعتماد العودة التدريجية إلى المدارس، ثم المناوبة لتخفيف الضغوط على أقسام الدراسة وضمان تطبيق البروتوكول الصحي. لكن التقيد بهذا البروتوكول قد يبدو مستحيلاً في ظل وضع مأزوم بخاصة في مدارس المناطق الداخلية المهمشة.    

ويتوزع أكثر من مليوني تلميذ على 6 آلاف مؤسسة تربوية، حيث معدل الطاولات 17 طاولة تتسع الواحدة لتلميذين أي بمعدل 34 تلميذاً في القاعة الواحدة، ما يعني صعوبة تنفيذ مسألة التباعد الاجتماعي المنصوص عليها في البروتوكول الصحي ولا سيما في المدارس المنهكة.

يقول عادل (معلم بمدرسة بأحد أرياف محافظة سيدي بوزيد) لـ”درج”: “أنا أدرِّس في مكان بعيد كل البعد من مفهوم المدرسة وسأشرح كيف. فالمدرسة مكان يحمي التلميذ بدنياً ونفسياً واجتماعياً، ولهذا تحتاج لأن تتوفر فيها كل مقومات الحماية، وأعني حماية أبنائنا من الأمية ومن الأمراض، وأن تكون قادرة على أن تزرع فيهم مجموعة من القيم التي ترتقي بهم مع أنفسهم ومع المجتمع، أو لا تكون. باختصار شخصية الطفل تبنى في المدرسة وتهدم هناك أيضاً. لكن المكان الذي أعمل فيه، يفتقر لأبسط مقومات العيش الكريم حتى لا أقول مقومات التربية والتعليم في ظل انعدام الماء الصالح للشرب وعدم توفر قاعات لائقة ومؤهلة للتدريس، إضافة إلى عدم توفر دورات مياه مناسبة لا سيما في ظل كورونا”.  

يتوزع أكثر من مليوني تلميذ على 6 آلاف مؤسسة تربوية، حيث معدل الطاولات 17 طاولة تتسع الواحدة لتلميذين أي بمعدل 34 تلميذاً في القاعة الواحدة.

يؤكد عادل أن سلطات الإشراف في مدينته توصي بتركيز الاهتمام على المدارس المعروفة، مقابل تجاهل المدارس المنسية في الأرياف والأحياء المهمشة، ويقول نقلاً عن زميله في الصيانة في محافظة سيدي بوزيد “يوصوا فينا كان على المدارس إلي عليها العين، المدارس إلي عليها العين أعطوها 10 لترات جال مطهر والمدارس إلي بعيدة على العين اعطوها لترين من الكحول للشعول (لتشتعل)”. 

ويواصل ساخراً، “لا يزعجنا كثيراً عدم تمكيننا من مواد التنظيف والتعقيم لأننا ببساطة لا نملك الماء  أصلاً لتطبيق البروتوكول الصحي. كما أن المشكلة الأكبر التي تنسينا خطر الفايروس هي اهتراء البنية التحتية وتهديدها سلامة التلامذة والإطار التربوي. لدينا ثلاث قاعات آيلة للسقوط من مجموع خمس قاعات، كان يفترض أن تنطلق عملية ترميمها بداية حزيران/ يونيو 2020 لكن الحجر الصحي حال دون ذلك. كما تجاهلت الإدارة الجهوية الأمر كي تركز على المدارس التي تعتبرها مهمة”.

ونقلاً عن عادل فإن المدرسة كانت تلبي حاجياتها من المياه من مأجل (حوض) يتم ملؤه بين فترة وأخرى عبر عربات الجرارات، لكن حدث أن تفطن تلميذ لوجود فأر ميت وسط الماء في المأجل، كما سجلت إصابات بالبوصفير بين التلاميذ.

حينها أرسل المدير أكثر من تقرير إلى سلطة الاشراف ليطالب بضرورة التدخل، إنما من دون مجيب، فتقرر تنظيف المأجل وتعقيمه. لكن الطريف أنه منذ يوم التنظيف، لم تصل قطرة ماء إلى المدرسة لأن الزير (جرة كبيرة) الذي يُملأ بالماء للتلاميذ كسر، ولم يتم إصلاحه أو تغييره، ما دفع المعلمين هناك للعمل على تزويد التلاميذ يومياً بزجاجات ماء حجم نصف ليتر، ومطالبتهم بإحضار زجاجات أخرى معهم من بيوتهم. 

هذه الحلول البائسة، ربما كانت تنفع قبل الآن، إلا أن الأمور زادت تعقيداً في ظل “كورونا” فيما الجهات الرسمية لا تحرّك ساكناً.

ما قاله عادل وغيره من المعلّمين الذين التقاهم “درج”، توافق مع ما جاء على لسان الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي، الذي انتقد في تصريح إذاعي عدم التزام وزارة التربية بتعهداتها بشأن العودة المدرسية بتوفير الحد الأدنى من شروط السلامة الصحية. وأكد الغياب شبه الكلي لوسائل التنظيف والتعقيم في المؤسسات التربوية (90 في المئة من المؤسسات التربوية لم يتم تعقيمها ولا تتوفر الكمامات فيها)، واختزال وزارة التربية البروتوكول الصحي في مسألة التباعد الجسدي والتدريس بنظام الأفواج. 

محافظات الشريط الغربي تعج بمئات المدارس التي تعاني من عدم توفر أبسط المقومات، في ظل عدم وجود إحصاءات رسمية، إضافة إلى محاولات تنكر سلطات الإشراف وادعاءها الدائم أن الأمور على ما يرام، والترويج الكاذب لعمليات الإصلاح والترميم هنا وهناك التي تمر بعيداً من هذه المناطق التي لا صوت لها بين دوائر القرار، فتبقى منسية حتى في أحلك الظروف.

ومن سيدي بوزيد إلى الكاف، وتحديداً منطقة دار السلام حيث مدرسة الجهيني القديمة على مستوى العمر والأجيال التي مرت فيها، لكنها ظلت رهينة الإهمال واللامبالاة حتى مع تفشي أحد أخطر الأوبئة.

نقلاً عن عادل فإن المدرسة كانت تلبي حاجياتها من المياه من مأجل (حوض) يتم ملؤه بين فترة وأخرى عبر عربات الجرارات.

يقول عمر، ولي عهد أحد التلاميذ لـ”درج”: “يعيش الأهالي خوفاً كبيراً من عودة أبنائهم إلى الدراسة في ظل عدم توفير المدرسة مواد التعقيم والتطهير والنظافة المفروض، فضلاً عن انقطاع الماء بشكل كامل فيها منذ العودة المدرسية ما دفع أبناءنا إلى حمل قناني ماء معهم للشرب والتنظيف، وحتى دورات المياه باتت غير صالحة للاستخدام نظرا لتراكم الاوساخ بسبب عدم توفر الماء لتنظيفها، علماً أن انقطاع الماء ليس جديدا عن المدرسة لكنه مقلق في ظرف دقيق كالذي نواجهه. وكنا نتوقع تدارك الأمر وإصلاح المشكلات العالقة منذ زمن قبل عودة التلاميذ لكن لا يبدو أن سلامة أبنائنا لا تهم المعنيين في هذه البلاد”. 

ويضيف “عدم توفير الدولة مواد التنظيف والتعقيم والكمامات يثقل كاهل أولياء الأمر، الذين لا تسمح إمكاناتهم المادية بالمزيد من المصاريف لشراء هذه المواد بخاصة وما من موعد محدد لنهاية هذا الوباء. فبالكاد استطاع هؤلاء تأمين عودة أطفالهم إلى الدراسة وبالكاد يقدرون على توفير مصاريفهم اليومية القديمة حتى يتحملوا أعباء جديدة. لماذا تلتفت الدولة إلى المدارس المشمولة دائماً بالرعاية وتتجاهلنا نحن المهمشين المفقرين الواقعين بعيداً من مدى أبصارهم حتى في وقت الأوبئة؟ ألا يحق لنا أن نشعر بالطمأنينة على أبنائنا كما غيرنا في تلك المدارس التي ت أشملها الدولة برعايتها؟”.

ويعاني التلاميذ في هذه المدرسة وأولياءهم على أكثر من صعيد، فإلى جانب الوضع الكارثي السالف ذكره لا توفر الدولة وسيلة نقل تأخذهم من المدرسة إليها، على رغم أن المسافة تتجاوز 5 كلم ذهاباً ومثلها إياباً، فضلاً عن قساوة الطريق غير المهيأ والذي يمر بمرتفعات وأودية. وإزاء هذا الوضع يحاول الأولياء في بعض الأحيان استجداء أصحاب النقل الريفي أو بعض السيارات الخاصة لنقل أبنائهم. وغالباً، يكون المشي على الأقدام هو الوسيلة الوحيدة وتصبح هذه المهمة شاقة وخطيرة في فصل الشتاء. علماً أن هذا الوضع معلوم لدى سلطات الإشراف، ولكنها لا تبدي اهتماماً بالمسألة ولا رغبة في تغييره. كل ما تفعله هو “تزيين المكان وترتيبه بشكل جميل استقبالاً لأحد المسؤولين (يحدث مرة بعد سنوات طويلة) مع بعض الأكاذيب بشأن توفير كل ما يحتاجه التلاميذ، وهي وعود لا تتحقق طبعاً” يقول عمر. 

ويثير تزايد أعدد المصابين بفايروس “كورونا” المخاوف في تونس من خروج الوضع الوبائي عن السيطرة لا سيما في ظل غياب إستراتيجية حكومية واضحة لمواجهة الوضع ومع العودة المدرسية المرتبكة.

وسجلت تونس منذ أكثر من أسبوع معدل إصابات بالفايروس يفوق 300 إصابة يوميا بل تجاوزت في 15 أيلول/ سبتمبر الجاري 470 إصابة في 24 ساعة وهو رقم غير مسبوق منذ بداية تفشي الفيروس في البلاد.

وأصيب العدد الأكبر بعد قرار إعادة فتح الحدود أمام الرحلات الدولية في 27 حزيران الماضي، اثر فترة إغلاق ترافقت مع حجر صحي عام امتد أكثر من ثلاثة أشهر. ومنذ فتح الحدود تم تسجيل 7369 حالة مؤكدة حاملة لفيروس “كورونا”، منها 610 حالات وافدة و6663 حالة محلية (90.4 في المئة) و83 حالة وفاة (1 في المئة).

ويتم التكفل حالياً بـ144 (2.3 في المئة) مريضا ًفي المستشفيات من بينهم 47 (0.77 في المئة) مريضاً في أقسام العناية المركزة و13 تحت أجهزة التنفس الاصطناعي. ويبلغ عدد الحالات النشطة 6095 (82 في المئة) وعدد المرضى الحاملين للأعراض 768 (10.42 في المئة) بحسب بلاغ وزارة الصحة.

يشكل هذا النسق المتسارع للإصابات ضغطاً حقيقياً على المستشفيات العمومية التي تعاني أصلاً من نقص في التجهيزات والكوادر الطبية.

“يعيش الأهالي خوفاً كبيراً من عودة أبنائهم إلى الدراسة في ظل عدم توفير المدرسة مواد التعقيم والتطهير والنظافة المفروض”.

الدكتور جاد الهنشيري رئيس المنظمة التونسية للأطباء الشبان يؤكد أن قرار العودة المدرسية كان صائباً، لأن التعليم مهم وضروري بخاصة في ظل المؤشرات الأولية التي تبين مبدئياً أن مخاطر الفايروس أقل وطأة بالنسبة إلى الأطفال، لكن شرط أن توفر الدولة وسائل الوقاية اللازمة في كل المدارس.

يقول الهنشيري لـ”درج”: “صحيح أننا لم نسجل إصابات خطيرة بين الأطفال ولا حالات وفاة، ولكن يبقى خطر نقل حاملي الفايروس من الأطفال العدوى إلى المربين وأفراد عائلاتهم، في حال تهاون الدولة عن توفير مستلزمات الوقاية والنظافة والتعقيم وتخصيص ما يكفي من الاعتمادات لضمان عودة آمنة في المدارس كافة، من دون استثناء. عدا ذلك لا بد من تحميلها المسؤولية كاملة عن أي مخاطر تهدد سلامة التلاميذ أو العاملين في الإطار التربوي، بخاصة في ظل ما نسمعه عن نقص المياه في بعض المدارس، علما أن النظافة والوقاية ضروريان في هذا الفضاء للحفاظ على صحة الأطفال”.     

تتحمّل مدارس تونسية مأساة كبيرة، لا سيما تلك المنسية التي لم يزرها رئيس الحكومة ولو فعل لكانت دهشته تضاعفت، وربما كان يأسه سيترافق مع شيء من الخجل من المستوى البائس الذي وصلت إليه المدارس التونسية عام 2020. لكن حتى الآن لا شيء سوى الدهشة وبعض الأسف، أما الإجراءات المطلوبة لعودة آمنة إلى الصفوف، فمؤجلة إلى يوم آخر، إلى زمن آخر.