fbpx

قضيّة “الفيرمونت”: العنف الجنسي v/s الحصانة الطبقيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حفلات الشواذ” التي احتلّت بغضون أيّام مكان “الاغتصاب” في عناوين إخباريّة كثيرة، تسميةٌ، إضافة إلى ما تضمره من أحكامٍ محافِظة ومتزمّتة، يُخشى بها ترسيخُ الترابط بين سمات الانفلات والجموح من جهة، والطبقات العليا والنافذة من جهة أخرى

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يُخفى على الشاكية في قضيّة “الفيرمونت” أنّ قضيّتها شديدة الصعوبة والتعقيد. فبلاغُها جاء بعد 6 أعوام ونيّف من جريمة الاغتصاب التي تناوب على ارتكابها عددٌ من الشبّان في فندق “الفيرمونت نايل سيتي”، وسط القاهرة. تخديرُها واغتصابها وكتابة المعتدين الأحرف الأولى من أسمائهم على جسدها وتداول فيديو الجريمة على سبيل التباهي، تفاصيل سيتعسّر على الناجية تصوّرها وترتيبها بالكامل. ظروف الاعتداء لا تستوفي شروط “القصّة المثاليّة” بنظر المجتمع، ذلك أنّها اتّخذت من فندق فخم ارتبط اسمه بالحفلات الجنسيّة مسرحاً لها، لا شارع مظلم خلف طريق عام أو دكّانة صغيرة في الحيّ. 

تتكوّم الأحمال وتتراكم، لكنّها لا تضاهي، في وجدان الشاكية وغيرها من الناجيات، هولَ الانتهاك السافر. 

العنف الجنسي بأبعاده الطبقيّة

غالباً ما تقف العراقيل القانونيّة والاجتماعيّة بين أي ناجية من العنف الجنسي والعدالة التي تتوخّاها. وفي قضيّة “الفيرمونت” تحديداً، تجاوزت الشاكية معظم المطبّات، ومضت قدماً ببلاغ تقدّمت به أمام النيابة العامّة المصريّة عبر المجلس القومي للمرأة مطلع آب/ أغسطس 2020، وكرّت على الإثر سبحةُ الروايات والشهادات والإجراءات القضائيّة. 

ولكن، هل بإمكان الناجية الفوز على الحصانة الطبقيّة التي يتمتّع بها المتّهمون، علماً أنّ معظمهم فرّوا من البلاد وتواروا عن الأنظار فور نشر صورهم على حسابات متخصّصة بتعقّب جرائم العنف الجنسي على السوشيل ميديا؟ فالقضيّة التي استعارت اسمَها من الفندق الشهير الواقع على ضفاف النيل، لا تُورّط رجالاً أثرياء فحسب، كما هي الحال في قضيّة أحمد بسام زكي مثلاً، الشاب الثري المتّهم بالتحرّش بعددٍ من النساء –ومنهنّ ثريّات أيضاً- والذي كان من الأسهل نسبيّاً القبض عليه؛ إنّما تورّط أفراداً يحظون بنفوذٍ متغلغل داخل إدارات الدولة المصريّة وتطاول الأكثر احتماءً بأركان المنظومة الحاكمة بوجهَيها السياسي والاقتصادي. 

“لطالما أثّر الانتماء الطبقي في مجريات أي واقعة في بلادٍ تحكمها فوارق طبقيّة حادّة، كمصر، لكن الجدير بالذكر أنّ الطبقة العليا هنا ليست كتلةً واحدة متجانسة بل تحكمها مستوياتٌ عدّة”، تقول الكاتبة النسويّة المصريّة رنيم العفيفي لـ”درج”. 

وتتابع، “الحال أنّ واقعة “الفيرمونت” تستهدف “كريمة” المجتمع، ما يفسّر الضبابيّة التي تلفّ بعض الإجراءات المتعلّقة بهذه القضيّة، والحراك الإعلامي الخجول الذي تسدّ حاليّاً فراغاته الحملات الإلكترونيّة الداعمة للضحايا والشهود، ومن بينهم نازلي كريم، التي تحوّلت من شاهدة إلى متّهمة. 

من شهود إلى متّهمين… النيابة العامة المصريّة تكبّل المُبلّغين

تتخوّف ناشطة مصريّة تحدّث إليها “درج” فضّلت عدم ذكر اسمها من أنّ تحويل الشهود في القضيّة إلى متّهمين بجرائم مخلّة بما يُسمّى “الآداب” أو جرائم “الحضّ على الفجور” و”إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي”، من شأنه أن يلغي صدقية شهاداتهم ضدّ المتّهمين الأصليّين، فلا يعود يُعتد بها في التحقيقات. وهو ما أشارت إليه أيضاً الحقوقيّة عزّة سليمان حين قالت، “حاجات غريبة بتحصل من امبارح، أغلب الشهود في قضية فندق فيرومونت اتقبض عليهم أو اتخطفوا بطريقة غريبة، ومحدش عارف حاجة”. 

وبتغييب الشهادات وترهيب الشهود، تنحرف القضيّة عن مسارها، فيُحمى المتّهمون من أبناء كبار رجال الأعمال النافذين في مصر، ويُظلم شهود ويُستبعد آخرون شجّعتهم في البداية السلطات على الإدلاء بشهاداتهم ليصبحوا هم المتّهمين “بالسلوك الجنسي المثلي بالتراضي، والحض على الفجور، وتعاطي المخدّرات”، بحسب ما قالت منظّمة “هيومن رايتس ووتش” في بيان أصدرته في 11 أيلول/ سبتمبر 2020، أضاءات فيه أيضاً على تعرّض بعض الشهود لفحوص عذريّة وفحوص شرجيّة قسريّة و”إطلاق النعوت والإذلال”، مطالبةً بإسقاط التهم الموجّهة إلى الشهود الستّة. 

وهذا بعض ما يحصل مع نازلي كريم التي سُرّب لها فيديو يوثّق حضورها في إحدى الحفلات “الجنسيّة” في “الفيرمونت”، علماً أنّ المسؤول عن التسريب، بحسب مصدر “درج”، يمكن أن يكون زوجها المتّهم أيضاً باغتصاب الشاكية الرئيسة في القضيّة، أو حتّى أحد عناصر الأمن الذين من غير المُستغرب أن يكونوا عمدوا إلى تسريب فيديوات تخدم سرديّة النافذين وأبنائهم، وتطمر التعاطف المجتمعي مع ضحايا ما صوّرته عناوين صحف مصريّة كمجرّد “حفلات شواذ وشذوذ”، لا جرائم عنف وابتزاز.  

بتغييب الشهادات وترهيب الشهود، تنحرف القضيّة عن مسارها، فيُحمى المتّهمون من أبناء كبار رجال الأعمال النافذين في مصر، ويُظلم شهود ويُستبعد آخرون شجّعتهم في البداية السلطات على الإدلاء بشهاداتهم ليصبحوا هم المتّهمين

“حفلات الشواذ”… شأن الطبقات العليا

“حفلات الشواذ” التي احتلّت بغضون أيّام مكان “الاغتصاب” في عناوين إخباريّة كثيرة، تسميةٌ، إضافة إلى ما تضمره من أحكامٍ محافِظة ومتزمّتة، يُخشى بها ترسيخُ الترابط بين سمات الانفلات والجموح من جهة، والطبقات العليا والنافذة من جهة أخرى، في أذهان مختلف شرائح الشعب المصري المُتابِعة للاغتصاب/ الحدث. فتغدو وقائع الحفلات، حتّى العنيفة منها، كجزءٍ من ظواهر استثنائيّة لصيقة بأسلوب عيش تلك الطبقات. وبذلك، يريح بعض المتابعين “العاديّين” أنفسهم عبر القول إنّ هذه الحوادث لا تعبّر عن عموم الطبقات الوسطى في البلاد التي يُنظر إليها ككتلة متجانسة وممثِّلة أمينة للأسر المصريّة الأصيلة وقيمها، ولا تمتّ لها ولعاداتها الحميدة بأيّ صلة. 

تُستحضر أسماءُ فنّانين أغنياء إلى تلك الحفلات بصرف النظر عن حضورهم من عدمه- كهيفاء وهبي التي أدانت زجّ اسمها في القضيّة- وأسماء رياضيّين ورجال أعمال ومتعهّدي حفلات أثرياء، فتُعمَّق الهوّة والمسافة أكثر فأكثر بين تلك الفئات المجتمعيّة ذات العادات “الإكزوتيكيّة” الدخيلة على المجتمع، و”عموم الشعب المصري” الوسطي غير المعني “برذائل” الطبقات العليا، لتُطمر، مرّةً أخرى، بذور التعاطف مع الضحايا عن طريق التطبيع مع هذا الاختلاف كفارق مجتمعي- طبقي حتميّ، حتّى وإن كانت ضحيّة العنف المعنيّة شابّةً كان عمرها 17 سنة حين اغُتصبت وحملت من جرّاء الاغتصاب، كما أكّد وكيلها المحامي الشهير محمد حمودة.

اختيار المحامي محمد حمّودة: ضرورة أم عبء؟

لا شكّ في أنّ المحامي محمد حمودة من أشهر المحامين المصريّين المختصّين في القانون الجنائي ومحط جدل بصفته شخصيّة قانونيّة وإعلاميّة سبق أن ترشّحت لعضويّة مجلس الشعب في مصر. لكنّه، علاوةً على ذلك، أقربهم إلى أصحاب النفوذ وذيول أنظمة الاستبداد. فهو الذي دافع عن رموز نظام مبارك في محاكمات الفساد التي قاضتهم، ومن بينهم رجل الأعمال أحمد عزّ. وهو الذي دافع أيضاً عن المتّهمين ضمن ملفّ جريمة قتل الفنّانة اللبنانيّة سوزان تميم. 

“فكيف يختار المجلس القومي للمرأة محامياً مثل محمد حمودة، البعيد بحاضره وتاريخه من القيم التي نناضل لأجلها والمحاميات والمحامين الذين نثق بهم؟ لماذا يبعدون القضيّة منّا؟ وأين المجلس ممّا يحصل مع نازلي كريم؟”، تتساءل الناشطة والكاتبة التي تحدّث إليها “درج”. 

في هذا السياق، يُبرَّر تساؤلها حين يؤكّد المحامي حمودة أنّه “لم ولن يكون لي علاقة بنازلي ولا بأي فرد من المتّهمين الشواذ ولا بأي قضايا جنس جماعي”، ليعود ويفصل بين ما هو اعتداء فاضح ضد امرأة وممارسة “شاذة” من بين شواذات الطبقة المعنيّة، وذلك، على الأرجح، خدمةً لقضيّة موكّلته. غير أنّه بذلك يغفل أنّ هذا الفصل، على غرار طريقة تعامل النيابة العامّة مع الشهود، من شأنه أن يضرّ بناجيات أخريات محتملات وشهود آخرين كانوا حضروا، لسبب أو آخر، تلك اللقاءات والحفلات. 

حتّى الآن، لا موقف علنياً للمجلس القومي للمرأة في مصر حول قضيّة الشهود الذين استحالوا ثلّة مُدانين أخلاقياً وقضائيّاً، ومن بينهم نازلي كريم التي لم يعد واضحاً سبب الاستمرار في توقيفها في عنبر الآداب في سجن النساء في القناطر، هي التي حضرت كشاهدة، بعد أن شجّع المجلس الشهود على الإدلاء بما لديهم، فأصبحت ضمن قائمة تتألّف من 16 متّهماً في القضيّة.

المجلس القومي للمرأة في مصر: وسيط بين المبلِّغات والدولة

حاول “درج” استيضاح المجلس القومي للمرأة عبر مكتبه الإعلامي، دون أن يتلقّى حتّى الساعة أي إجابة. وبالتواصل مع المحامية هبة عادل، إحدى أبرز الحقوقيّات المصريّات، وهي رئيسة مجلس الأمناء في مؤسّسة مبادرة المحاميات لحقوق المرأة وعضو لجنة مناهضة العنف ضد النساء في المجلس القومي للمرأة، يُفهم أنّ اختيار المحامي فعل حرّ وحق للجهة المدّعية التي تمارسه وفقاً لما يخدم مصلحتها، ويستجيب لسياق الوقائع الراهن، ويشي باقتراب الإدانة للطرف المُتّهم. 

تؤكّد عادل لـ”درج” أنّ المجلس القومي للمرأة يدعم النساء ويتقدّم ببلاغات عنهنّ للنيابة العامة التي صارت تتحرّك بشكل أسرع لتشجيع النساء على الإبلاغ، وبضبط الشبّان المتّهمين الموجودين على الأراضي المصريّة ومنع سفرهم– وقد أوقف اثنان منهم حتّى الآن- والقبض على الهاربين من البلاد عبر الطلب إلى منظّمة الشرطة الجنائيّة الدوليّة، الإنتربول، ملاحقتهم، الأمر الذي استجابت له قوى الأمن اللبنانيّة التي أعلنت في 29 آب/ أغسطس عن توقيف جهاز شعبة المعلومات 3 متّهمين في القضيّة كانوا يختبئون في منطقة فتقا، بانتظار الإجراءات الإداريّة القضائيّة التي ستتبع قرار طلب استلامهم من قبل السلطات المصريّة. 

تتخوّف حقوقيّات مصريّات من مفاعيل الدور المتنامي للمجلس القومي للمرأة كجهة مُعتمدة بشكل شبه حصري، لتحريك البلاغات أو “الخطابات”. فبتأديته دوراً وسيطاً بين المبلِّغات والنيابة العامّة، يُخشى أن تصبح النساء المبلِّغات من خارج قنوات المجلس، “يتيمات”

وبحسب المحامية هبة عادل، هناك بالفعل تطوّرات إيجابيّة يؤمل أن تشجّع الشهود والنساء المعرّضات للتحرّش والاعتداء على التبليغ، يتمثّل أبرزها بإقرار البرلمان المصري “اقتراح تعديل مادّتين في أصول المحاكمات الجنائيّة لحماية المبلّغات والشهود في جرائم العنف الجنسي، وهو يُراجع حاليّاً في مجلس الدولة قبل أن يصدّق عليه رئيس الدولة المصريّة ويُنشر في جريدة الوقائع ويدخل خيّز التنفيذ”. وتؤكّد عادل أن “ما من مادّة قانونيّة واحدة اليوم تحمي النساء الشاهدات أو المبلّغات من تسريبات وبيانات إلكترونيّة، ويبقى أن عليهنّ إثبات وجود جرم تهديد واضح وشتم وسبّ وغيرها من الجرائم المنصوص عليها في القانون مع توفّر العلنيّة للتمكّن من معالجة ما يتعرّضن له”. 

ما زال العنصر الأخطر، بنظر عادل، يكمن في “استمرار تعامل المجتمع المصري مع التحرّش الجنسي كتصرّف اجتماعي سيئ وانفلات أخلاقي صغير وليس جريمة”، لذا، “المطلوب سرعة أكبر في إصدار قانون حماية خصوصيّة المبلّغات والشهود وإقرار القانون الموحّد لمناهضة العنف ضد النساء في مصر الذي لا ينظر إليه المسؤولون كأولويّة تشريعيّة”.

على المقلب الآخر، تتخوّف حقوقيّات مصريّات من مفاعيل الدور المتنامي للمجلس القومي للمرأة كجهة مُعتمدة بشكل شبه حصري، لتحريك البلاغات أو “الخطابات”. فبتأديته دوراً وسيطاً بين المبلِّغات والنيابة العامّة، يُخشى أن تصبح النساء المبلِّغات من خارج قنوات المجلس، “يتيمات”، فلا تعود السلطات الأمنيّة تأخذ شهاداتهنّ بالدرجة ذاتها من الجديّة حين لا تصلها عبر المجلس، وتبتلع الدولة هذا الأخير تحت مسمّى “الشراكة”، فتقوّض قدرته على اتّخاذ موقف صارم ضد تدخّلات النافذين وإضعاف الشهود، أو ضد الخطابات الذكوريّة في توصيف الجرائم والتعامل معها، أو ضد الاستنسابيّة في سرعة تحريك الشكاوى والملاحقة التي غالباً ما تحكمها الفوارق الطبقيّة الممزوجة بالنفوذ السياسي. فكيف بالحري حين تطاول القضيّة متّهمين هم من “جبلة الدولة وطينتها”، اجتمع ذووهم أخيراً للاتّفاق على رواية رسميّة لجبهة متنفّذين موحَّدين، يقصفون بها جبهة ناجيات مُبعثرات.