fbpx

كيف ننقذ جمال عبد الناصر من خصومه وأنصاره؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أنه من الصعب إنقاذ أي نقاش حول حكم الزعيم جمال عبد الناصر من أيدي أنصاره المحبين وخصومه الغاضبين عليه. لم تدخل سيرة الرجل مجال التأريخ والبحث وما زالت جزءاً لا يتجزأ من الجدل السياسي حول حاضر مصر وأحلام كثيرين من أبنائها وآمالهم وأوهامهم وإحباطاتهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل علينا أن ننتظر حتى يتغير حال مصر لتصبح فترة حكم رجل مضى على نهايته نصف قرن، محل حديث هادئ عاقل؟ وماذا نفهم من أن الحديث العلني عن عبد الناصر ما زال محصوراً في أغلبه بين فريقين متناقضين؟

هكذا ضاعت الذكرى الخمسين لوفاة عبد الناصر هذا العام. وبدلاً من فرصة ذهبية لعقد جلسات تاريخية ونشر كتب وأبحاث، كما يحدث مع أمثاله من الزعماء المؤثرين في القرن العشرين، تحول الأمر إلى سجالات ومزايدات بين خصومه وأنصاره.

لا أعرف سيرة واحدة نقدية منشورة بالعربية لعبد الناصر الذي كان مع الزعيم الهندي نهرو واليوغسلافي تيتو، أشهر زعماء العالم الثالث في قلب الحرب الباردة وأكثرهم براعة. هناك عشرات السير عن ستالين وهتلر ونهرو وشواين لاي وديغول، بل وبضعة كتب عن ملوك عرب، ولكن لا يوجد كتاب واحد منشور بالعربية يستحق القراءة عن الزعيم “الخالد” كما يسميه أنصاره. 

وهكذا نفتقر إلى المادة اللازمة والمدعومة بالوثائق والتحليلات والمقابلات والمصادر ومقارنة الكلام بالأفعال ووضعهم جميعاً في السياق التاريخي الموازي. ناهيك بأن الأرشيف الرسمي المصري شبه مغلق أمام من يود دراسة هذه السيرة بجدية وبالوثائق. 

وفي غياب الحجج والدراسات والتقصي والبحث ينقسم الناس الى معسكرين.

المعسكر الأول يقوده المخلصون من القوميين العرب على النسق الناصري وهم يصيرون أقلية مع مضي الوقت. هذا المعسكر يضم أيضاً فئات أخرى فيها المؤمنون بأسطورة المخلص الذي سيأتي ويأخذهم كما الراعي نحو حياة أفضل، ومنهم الذين يعيشون على ذكرى خطابات الكرامة والاستقلال، أو الذين يقارنون وضعهم الحالي البائس اقتصادياً وسياسياً بما يعتقدون أنه كان وضع أمثالهم الأفضل في خمسينات القرن الفائت وستينياته، ومنهم من يحزّ في أنفسهم أحياناً هوان امتداد أيديهم الى دول الخليج أو أوروبا. ويتذكرون أنه كان لهم رئيس لا يتورع عن شتم رئيس وزراء بريطانيا وملك السعودية في خطبه العلنية، بينما تعدهم صحفه بنفط لا ينتهي تحت الأرض وسفن فضاء وصواريخ طويلة المدى، ويتغنّى شعراؤه بتماثيل رخام ستقوم على الترعة ودور أوبرا وخمسة فدادين ارض لكل فلاح.

أما المعسكر الثاني ففيه كل الذين يربطون بين صعود عبد الناصر وانقلاب الضباط الأحرار، وبين نهاية الحياة الحزبية النشطة والفوران الاجتماعي الذي ميّز ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته، حتى أغلق ناصر وزملاؤه الساحة السياسية تماماً. وينضم إلى هذا المعسكر الإسلاميون وفي مقدمهم جماعة الإخوان التي انتقلت من مقعد الحليف المقرب، إلى السجون وسلخانات التعذيب بعد ان انفرط عقد الودّ السياسي بينهم وبين عبد الناصر في 1954، فصاروا خصوماً الداء، حيث سجن آلاف منهم ولاقوا تعذيباً مهيناً، وأًعدم بعضهم، ومنهم مفكر الجناح الاخواني المتشدد سيد قطب. وأخيراً يقف في نصف المعسكر من خسروا حقاً ممتلكات وأموالاً أو واقعاً اجتماعياً مريحاً في أروقة النخبة أو الذين ينتابهم الحنين إلى ذاك الزمن.

ستكون خسارة عظيمة أن يضمحل المعسكران تدريجاً لمصلحة عدد متزايد من الأجيال، التي ولدت في التسعينات والقرن الحالي ولا تبالي بكل هذه الجدالات ولا تشارك سوى بـ”ميمز” مختلفة لعبد الناصر تسخر منه وتسفّه هذه النقاشات.

لعل أعظم ما حققه عبد الناصر هو وجوده في حد ذاته، أعني وجوده على رأس السلطة بغض النظر عن أفعاله. هذا الوجود منح أغلبية المصريين في تلك الفترة وعلى الأقل في فترة الخمسينات شعوراً بالكرامة كان منتقصاً وحقاً في الحلم كان ضائعاً. ينسى الناس أن تلك البلاد حكمتها عائلات وسادتها نخب لا تتحدث لغة معظم “رعاياهم” والأهم أن هؤلاء القادة كانوا في حالة شبه قطيعة مع هموم معظم أفراد الشعب ومعاناتهم وتطلعاتهم وقيمهم ومبادئهم. وهكذا كان يكفي أن يوجد هناك مصري مثلهم، أسمر البشرة مثلهم، يتحدث مثلهم، ويلقي نكاتاً بالعامية، ويتحدى سادة الأمس من سكان القصر ومن جنود الإنكليز لكي يقعوا في غرامه. عزف عبد الناصر في خطاباته على أوتار الكرامة والعزة ببراعة، وبصدق.

لم تكن الآلة الإعلامية الناصرية (المصنوعة منه وجحافل المؤمنين به على حد سواء) تعمل بكفاءة بعد في بدايات حكمه، ولكن كان يكفي الرجل وقوفه الكاريزمي يصرخ في ميدان المنشية في خطبته الشهيرة في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1954، بعد أن يسمع الناس صوت الرصاص في الميدان في محاولة الاغتيال، وهو يصرخ حتى ينقطع صوته يطلب من الجماهير عدم ترك الساحات و”فليبق كل في مكانه أيها الرجال، فليبق كل في مكانه أيها الأحرار، دمي فداء لكم، حياتي فداء لكم، دمي فداء مصر، حياتي فداء مصر، أيها الرجال، أيها الأحرار. هذا جمال عبد الناصر يتكلم إليكم بعون الله بعدما حاول المغرضون أن يعتدوا عليه وعلى حياته. حياتي فداء لكم ودمي فداء لكم. أنا لست جباناً”. 

وهكذا صدح صوت جمال بمئات الخطب بلا مبالغة، من تأميم القناة في ميدان عام إلى وقوفه أعلى منبر الأزهر متحدّثاً عن كرامة الأمة واستقلال قرارها.

نجح عبد الناصر في أن يصبح رمز التحول الدرامي الخطير في مصر الخمسينات، من بلد كانت عاصمته تحترق ويفعل فيها الجيش الإنكليزي والمفوض السامي البريطاني ما يريدانه، ملكها ضعيف، وجيشها ضعيف، وأحزاب الأغلبية السياسية فيها عاجزة، إلى بلد يقف رئيسه متحدياً القوى العظمى وزعيماً لكتلة عالمية جديدة وينجح بالسياسة في ما فشل فيه الجيش عندما تمكن– بمساعدة أميركية – من دحر العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي عام 1956، وقهر كل أعدائه السياسيين من الإخوان وحتى الشيوعيين، ثم إغلاق باب السياسة والوصول إلى أوج مجده في نهاية الخمسينات. فكان عبد الناصر صداعاً في رأس القوى الامبريالية والممالك الخليجية والنظم المحافظة في المنطقة وحولها.

ومثلما لا ينبغي التقليل من مكانة عبد الناصر الهائلة في قلوب الناس آنذاك حتى حملوه بسيارته حملاً في مدن سوريا في أواخر الخمسينات، لا ينبغي التقليل من فشل نظامه السياسي والاقتصادي والعسكري والذي تجلت مظاهره في النصف الثاني من الستينات. 

مئات الأسئلة التي قد تساهم إجابات جادة عنها في تغيير الحديث السخيف المتكرر في كل مناسبة تذكرنا بهذا الرجل الفذّ في تاريخ مصر السياسي. وربما حتى لن تفيدنا الإجابات الجادة بمفردها! ربما سيتغير الأمر فقط عندما تتحول السياسة من عمل يقوم به الزعماء والمخلصون والجنرالات وآيات الله وممثلوه المزعومون في منطقتنا الحزينة، إلى أمر عادي روتيني يمارسه بشر عاديون.

كان أول قرارات الضباط الأحرار بعد شهور من استيلائهم على السلطة هو الإصلاح الزراعي، ولكن قبل الثورة كانت نسبة المعدمين الزراعيين 44 في المئة، ولم تنخفض سوى بنسبة بسيطة، لتصبح 40 في المئة عام 1965، بعد انتزاع نصف مليون فدان فقط. وكان الأداء الاقتصادي الفعلي مخيباً للأمال. فشلت الخطة الاولى (1957-1960) والخطة الخمسية الثانية (1961- 1965) في تحقيق نسب النمو المرجوة، فكانت أقل من 5 في المئة للأولى وأقل من 6 في المئة للثانية حتى الانهيار الاقتصادي في 1965، واندلعت مشاحنات بيروقراطية بين أجهزة ووزارات ومؤسسات التخطيط والصناعة والتجارة. فشلت سياسة إحلال الواردات وتضاءل النقد الأجنبي وزاد الاعتماد على القروض والمساعدات الخارجية بحلول 1965، عندما أصرت موسكو على أن تدفع القاهرة المتأخرات المستحقة عليها بينما أوقفت أميركا دعم شحنات القمح التي كانت تمد مصر بقسط هائل من احتياجاتها. 

وعام 1966، ظهرت بوادر الفشل في حرب اليمن التي كانت ثاني وآخر محاولة للوحدة العربية بعد فشل الوحدة مع سوريا. مات 10 آلاف جندي مصري في حرب اليمن بين عامي 1962 و1967 (مات 15 ألف جندي مصري على اقصى تقدير في الحرب مع إسرائيل في 1967). كل هذا ولم نتحدث بعد عن الهزيمة المروعة في حزيران/ يونيو 1967 والتي قلبت موازين المنطقة تماماً من دون عودة.

كيف ولماذا نجح عبد الناصر في الخمسينات؟ وهل نجح فعلاً، وبأي مقاييس؟ وكيف ولماذا فشل في الستينيات؟ وماذا يعني هذا الفشل؟ ما كانت نياته؟ وهل فعلاً كان متآمراً عظيماً كما يوحي خالد محي الدين رفيقه في الانقلاب في مذكراته؟ أم كان زعيماً ملهماً كما يصور لنا محمد حسنين هيكل في معظم كتاباته؟ أم كان مزيجاً من هذا وذاك كما هي الحقيقة في الأغلب؟ ما علاقته الحقيقية بالإخوان؟ بصديقه وخصمه اللدود عبد الحكيم عامر؟ لماذا قبل الوحدة مع سوريا بعدما تردد كثيراً؟ بماذا كان يشعر وهو يقبل الملك فيصل في الخرطوم بعدما كان يريد “نتف” شعر لحيته؟ ماذا قال لوزرائه في الاجتماعات الضيقة في النصف الثاني من 1967 بعد الهزيمة؟ 

مئات الأسئلة التي قد تساهم إجابات جادة عنها في تغيير الحديث السخيف المتكرر في كل مناسبة تذكرنا بهذا الرجل الفذّ في تاريخ مصر السياسي. وربما حتى لن تفيدنا الإجابات الجادة بمفردها! ربما سيتغير الأمر فقط عندما تتحول السياسة من عمل يقوم به الزعماء والمخلصون والجنرالات وآيات الله وممثلوه المزعومون في منطقتنا الحزينة، إلى أمر عادي روتيني يمارسه بشر عاديون. وقتها ربما يمكننا أن نتحدث بهدوء وتفهم عن هذا الضابط الصغير، الذي صار “حبيب الملايين” وخصم ملايين آخرين ومات وعمره 52 سنة في 28 أيلول/ سبتمبر 1970. عندها ربما قد نفهم عبد الناصر وعصره، وأنفسنا، بصورة أفضل.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.