fbpx

عن الفرضيات “الشريرة” الكامنة خلف انفجار مرفأ بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتعيَّن على تحليل مماثل أنْ يكمّل مزيداً من الفرضيّات “الشريرة” حول انفجار المرفأ، لكن النظر في السجل المؤسسي المزري للميناء خلال 30 سنة الماضية وجشع الطبقة السياسية وتشاحنها للسيطرة على الميناء خير دليل على أن الإنفجار كان مسألة وقت لا غير.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في العام الماضي، تجمَّع عشرات المحتجّين أمام مرفأ بيروت بعد ظهيرة يوم سبت من شهر كانون الأوّل/ديسمبر. اختار المحتجّون المرفأ لأنّه في رأيهم تجسيد لآفة الفساد التي تضرب بجذورها عميقاً في البلاد، والتي أدانوها بشدّة، مثلما فعل عشرات الآلاف من قبلهم منذ اندلاع “ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر” عام 2019. طالب المحتجّون بإجراء تغييرات جذريّة ورحيل الطبقة السياسيّة الحاكمة ذات الاختلال الوظيفيّ الملحوظ، وذلك بعدما سئموا من الجشع وحالة الجمود السياسيّ التي تسود البلاد. ردّد المحتجّون: “كلّن يعني كلّن”. فقد انهار الاقتصاد اللبنانيّ، وتشكّلت حكومة جديدة يُفترَض أنّها إصلاحيّة، بقيادة حسّان دياب، مع وعودٍ بإجراء إصلاحات؛ لكنّ شيئاً لم يتحقّق، وكان كلّ ما رأيناه هو انزلاق الاقتصاد نحو الإفلاس بوتيرة أسرع. 

غير أنّه بينما ترتفع معدّلات الفقر بصورة مذهلة، وفيما يواصل المحتجّون مطالبتهم برحيل الطبقة السياسيّة، حدَث ما لا يخطر على بال في 4 آب/أغسطس: انفجار هائل في مرفأ بيروت نتيجة اشتعال النيران في جزء ما يزال مجهولاً من حمولة موادّ متفجّرة تحتوي على كمّيّة تصل إلى 2750 طنّاً من نترات الأمونيوم التي خُزّنت وتُرِكت من دون حراسة في عنبر رقم 12 طيلة 6 سنوات على الأقل، ممّا أودى بحياة أكثر من 200 شخصٍ وجرح 6500 آخرين مع خسائر مادّيّة نتيجة الدمار الهائل الذي عمّ جميع أنحاء المدينة تتراوح تكلفته من 3.8 إلى 4.6 مليار دولار.  

قدَّمت حكومة دياب استقالتها عقب الانفجار، ورُشِّح رئيس وزراء جديد لمحاولة تشكيل حكومة أخرى جديدة في ظلّ وعود جديدة بالإصلاح، واعتذر الأخير بدوره، بعد تعرقل مساعي التأليف.

منذ ذلك الحين كَشفت معلومات قليلة بعضَ التفاصيل عن كيفيّة وصول المتفجّرات إلى المرفأ، وعن مالكها المحتمَل، وكيف أخفق كبار الساسة والمسؤولين والقضاة في حماية الأمن العامّ خلال استجابتهم لتلك الكارثة. لكنْ لم يتبيَّن بعد كيف -أو حتّى ما إذا كانت- ستُسهِم كلّ هذه الخيوط في تكوين قصّة حاسمة حول ما ومَن -تحديداً- قد تسبّب في الانفجار. لكنْ، بغضّ النظر عن ماهيّة التفاصيل التي ستتكشّف، ينبغي من أجل تحديد مجرى الأحداث الحقيقيّ أنْ نأخذ في الحسبان سجلَّ المرفأ المؤسَّسيّ المزري والأسبابَ الهيكليّة الجذريّة التي تتضمّن 30 عاماً في ظلّ نظام سياسيّ فاشل وطبقة سياسيّة جشعة تفتقد للكفاءة. 

أنْ يكون لتنظيم “حزب الله” يد في الحصول على نترات الأمونيوم أو الاحتفاظ بها في مستودع المرفأ، أو شروع إسرائيل في إحدى عمليّاتها السرّيّة بالتسبُّب في تفجيرها، أو كلا الأمرين. ليس أيّ من هذه النظريّات مدعوماً بأدلّة راسخة حتّى الآن. غير أنّها إذا ظهرت، سوف تكون منطقيّة في سياق الفوضى المنتشرة في المرفأ وهياكل السلطة الفاشلة، ممّا يمنح فرصة كبيرة لمثل هذه المخطّطات المتهوِّرة وتقديم بيئة مثاليّة لها كي تمر من دون ردع أو كشف. 

مرّ الآن ما يقارب شهرين على الانفجار، وتبدو الرواية التي كُشِف عنها حول أسبابه شديدةَ الالتباس وغيرَ مقنعة. في كانون الثاني/يناير من عام 2020، أصدرت المديريّة العامّة لأمن الدولة، وهي واحدة من الهيئات الأمنيّة الكثيرة المتواجدة في المرفأ، تقريراً ذكرت فيه أنّ تخزين الحمولة المتفجّرة بجانب موادّ قابلة للاشتعال في العنبر رقم 12 يهدِّد باندلاع حريق “سيُسبِّب انفجاراً ضخماً وستكون نتائجه شبه مدمِّرة لمرفأ بيروت”. وبعد مُضيّ بضعة أشهر، أرسلت المديريّة العامّة لأمن الدولة في 20 تموز/يوليو رسالةً إلى الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء حسّان دياب محذّرةً مجدّداً من مخاطر تخزين الموادّ المتفجّرة في المرفأ.

ادّعى عون بعد الانفجار أنّه أمر المجلس الأعلى للدفاع (وهو هيئة تنسيقيّة لأجهزة الأمن والدفاع في البلاد ويرأسه رئيس الجمهوريّة) بضرورة “إجراء اللازم”. وقال لاحقاً، في معرض دفاعه عن نفسه، إنّه لم يكن على علم بالحمولة ومدى خطورتها، وإنّ “صلاحياتي لا تسمح لي بالتعاطي المباشر مع المرفأ”. وفي تغيير جديد لروايته، ادّعى عون أنّه كان على علمٍ بوُجود الموادّ المتفجّرة والخطر الذي تمثّله، ولكنْ كان الوقت حينها قد فات بالنسبة له للقيام بشيء حيالها.

فيما بعد، ظهرت معلومات تفيد أنّه قُبَيل الانفجار بأيّام كان القاضي غسّان عويدات قد أمر بتأمين أبواب العنبر استجابةً لطلبٍ من المديريّة العامّة لأمن الدولة، مشيراً إلى مخاوف من احتماليّة سرقة كمّيّة من نترات الأمونيوم أو اختفاء جزء منها بالفعل؛ فقد اكتُشِفت فتحة في أحد جدران العنبر. تجاهل عويدات تحذيرات المديريّة العامّة لأمن الدولة بشأن المخاطر الكبيرة لتلك الحمولة المتفجّرة على المرفأ -التي كان ينبغي أنْ يحثّ على نقلها من المرفأ- وانصبّ اهتمامه بدلاً من ذلك على مخاطر سرقة المادّة واستخدامها لصناعة متفجّرات. لذا فقد أُرسِل عمّالٌ لإصلاح حائط العنبر، وربّما تسبَّبوا في إشعال حريق من دون قصد. ويبدو أنّ هذا قد أشعل النيران في مادّة قابلة للاشتعال، ربّما تكون ألعاباً ناريّة، وهو ما تسبَّب بدوره في انفجار نترات الأمونيوم.

يجري حاليّاً تحقيق رسميّ لمعرفة ما أدّى تحديداً إلى الانفجار، برئاسة القاضي اللبنانيّ فادي صوان وبالتعاون مع مكتب التحقيقات الفيدراليّ وخبراء جنائيّين فرنسيّين. تطول قائمة الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة؛ لكنّ أغلبها يتعلّق بمسألة جوهريّة واحدة: لماذا لم يتحرّك أيّ شخص على مدار 6 سنوات لمنع وقوع كارثة يبدو أنّ حدوثَها كان متوقّعاً؟ 

تاريخ من الفساد

يرجع الإطار المؤسَّسيّ الحاليّ للمرفأ إلى 30 عاماً، حين شهدت البلاد الجولات الأخيرة من حربها الأهليّة الشرسة. ومنذ عام 1960 وحتّى عام 1990، كان المرفأ يدار بموجب امتياز خاصّ مُنح لشركة مساهمة اسمها “شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت”. كان من بين المساهمين فيها بعض أكثر رجال الأعمال والمصرفيّين ثراءً في البلاد، ومنهم هنري فرعون، وسامي مارون، والإخوة بدوي، وعائلة البلتاجي، وجميعهم ينتمون إلى الطائفة المسيحيّة المارونيّة، ويرتبطون ارتباطاً وثيقاً بزعمائها السياسيّين، ويدعمهم رأس المال الفرنسيّ. وفي أثناء الحرب، كانت “القوّات اللبنانيّة” بقيادة سمير جعجع تمارس سيطرتها الفعليّة على جزء كبير من المرفأ، وكانت تدير حوضه الخامس. وقد أمدَّ ذلك تلك المنظومة العسكريّة بمصدر قوّة بالغ الأهمّيّة في ظلّ اقتصاد حرب ازدهر اعتماداً على التهريب والاتجار بالأسلحة والترويج للمخدِّرات. 

في أعقاب اتّفاق الطائف أواخر عام 1989 كانت واحدة من المهام العمليّة المطروحة على الطبقة السياسية التي انتجها الاتفاق إيجاد خلف لـ”شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت” التي أوشكت مدّة امتيازها طيلة ثلاثين عاماً على الانتهاء في 31 كانون الأوّل/ديسمبر عام 1990. طالب المساهمون الرئيسيّون الأصليّون في الشركة بتجديد الامتياز، بوصفه شكلاً من أشكال التعويض عن الأضرار التي زعموا أنّهم تكبَّدوها أثناء الحرب. في البداية انضمّ جعجع إلى المساعي التي تبذلها الشركة لتجديد الامتياز، ولكنّه تصادَم مع منافسه إيلي حبيقة، وهو أيضاً أحد القادة السابقين في ميليشيا “القوّات اللبنانيّة” خلال الحرب الأهليّة، وقد أصبح آنذاك وزيراً في الحكومة بدعم من نظام حافظ الأسد في سوريا. أصرّ حبيقة على تنفيذ مخطّطه من خلال تعيين مندوب في “مجلس مؤقّت” أُنشِئ على عجل ليمثّل مجلس إدارة “شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت” الذي حُلَّ رسميّاً. ولكنْ حين اشتَبَه أمراء الحرب الآخرون في أنّ حبيقة يحاول السيطرة على المرفأ، طالبوا بوجوب إضفاء الصبغة القانونيّة الكاملة على موانئهم على أساس “تعزيز التنمية الإقليميّة” و”اللامركزيّة الاقتصاديّة”؛ وهي أهداف نبيلة بمثابة قناع رقيق لإخفاء جشعهم الممزوج بالمنافسة الطائفيّة.

خلال الحرب الأهليّة، وصف تقرير رُفعت عنه السرّيّة لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (CIA)، بأنّه “المجموعة الرئيسيّة الوحيدة من السكّان الأصليّين، التي ليس لديها منفذ إلى البحر”. غير أنّه منذ تسعينيّات القرن الماضي، نما الدور الذي يضطلع به تنظيم “حزب الله” في مرفأ بيروت عبر علاقاته مع القادة السياسيّين والأحزاب المُمثَّلة في “اللجنة المؤقّتة”، مثل “حركة أمل” التي يتزعّمها نبيه بِرّي، إضافة إلى “التيّار الوطنيّ الحرّ” بدءاً من عام 2005 وما تلاه.

شكّل ذلك عقبة أمام رئيس الوزراء آنذاك عمر كرامي الذي أعلن مع الجيش اللبنانيّ والقوات السورية أنّ حلّ جميع الميليشيات يُعَدّ أولويّة بالنسبة لحكومته، بالإضافة إلى إغلاق الموانئ غير القانونيّة التي تُسيطر عليها الميليشيات والتي تنتشر على طول الساحل.

مع عودة مرفأ بيروت فعليّاً إلى الدولة، تحوّلت المشاحنات السياسيّة إلى التساؤل حول الكيفيّة التي يتعيَّن بها دمج إدارته في القطاع العامّ، وبالتالي ما هي الوزارة التي يجب منحها السلطة أو المخولة بـ”الإشراف” و”الوصاية” على المرفأ. وحين وصل الراحل رفيق الحريري إلى منصب رئيس الوزراء عام 1993، لم يكن سراً انه كان لديه طموحاته الخاصّة بشأن المرفأ، الذي عدَّه مصدر قوّة أساسيّ في رؤيته للبنان بوصفه ملاذاً للمؤسَّسات والتجارة الخاصّة. 

كان مرفأ بيروت أوّل مؤسَّسة خضعت لنظام المحاصصة بموجب الهيئة الثلاثيّة في أعقاب اتّفاق الطائف والتي سميت بـ”الترويكا” (أنْ يتولّى الرئاسة مسيحيّ مارونيّ، مقابل أنْ يكون رئيس الوزراء مسلماً سنّيّاً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعيّاً)؛ تمهيداً لتقسيم أجهزة ومؤسَّسات الدولة بالكامل تقريباً منذ منتصف التسعينيّات فصاعداً. وهذا يعني ضمناً أنّ إدارة المرفأ أصبحت معتمدة على صراعات السلطة المتواصلة داخل الهيئة الثلاثيّة، الأمر الذي أدّى إلى إعاقة عمليّة اتّخاذ القرار الاعتياديّة والحكم الرشيد. وبما أنّ إدارة المرفأ لم تُحدَّد بعد، فقد أصبحت عمليّاً جزءاً من الدولة ولكنْ لم يُوضع إطارٌ مؤسَّسيّ لإضفاء طابع رسمي على وضعها. ولقد أفضى ذلك فعليّاً إلى حدوث فراغ في الأمور المتعلّقة بالسلطة والتدقيق والتفتيش والشفافيّة والمساءلة، في الوقت الذي أصبح فيه المرفأ جزءاً أساسيّاً من البنية التحتيّة للدولة وعنصراً رئيسيّاً في اقتصاد البلاد. وبحلول عام 2019، كان المرفأ يستقبل سنويّاً أكثر من 70% من واردات البلاد، ويجمع ما يقرب من 1.2 إلى 1.4 مليار دولار أميركيّ من الرسوم الجمركيّة (أو نحو 10% من إجمالي إيرادات الدولة)، وما بين 200 إلى 230 مليون دولار أميركيّ من عائدات رسوم المناوَلة. بالإضافة إلى ذلك، وظّف المرفأ 450 شخصاً يعملون في “اللجنة المؤقّتة”، واستضاف أكثر من 600 شركة خاصّة يعمل بها آلاف آخرون. ولقد دفع هذا الوضع صحيفة “الديار” اللبنانيّة إلى وصف مرفأ بيروت بحقّ بأنّه “الابن غير الشرعيّ للدولة”، لأنّ الطبقة السياسيّة فشلت باستمرار في تسوية وضعه.

فوضى إدارية

من عجيب المفارقات أنّ القوّة الاقتصاديّة والماليّة التي يتمتّع بها المرفأ سمحت لوزراء الأشغال العامّة والنقل المتعاقبين ورؤساء “اللجنة المؤقّتة” التي تُدير المرفأ بتجاهل المخاوف بشأن وضع المرفأ الفوضويّ، بل وحتّى تصوير ذلك بوصفه سبباً لنجاحه. ففي عام 2013، قال غازي العريضي، وزير الأشغال العامّة والنقل السابق وعضو الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ الذي يتزعّمه وليد جنبلاط: “إنّ نجاح المرفأ يُعزَى إلى الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ، وهو ما يجعل العمل فيه يسير على أحسن وجه”. وقبل ما يقرب من عقد من الزمان، علَّق حسن قريطم، رئيس “اللجنة المؤقّتة” لإدارة المرفأ، وهو أحد المقرَّبين من الحريري، قائلاً: “من موقعي هذا، أسعى إلى تعظيم فرص الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ: فأنا أحاول أنْ أفكّر في المرفأ بوصفه شركة خاصّة تابعة للدولة”.

غير أنّ إدارة المرفأ قد انهارَت، وذلك لكونها ليست جهة حكوميّة تابعة للدولة ولا هي شركة خاصّة. وقد خلقَت بنيتها الإداريّة المضطربة بيئةً ازدهرت فيها التدخّلات السياسيّة وتفكّك السلطة والعجز السياسيّ والفساد، لمدّةَ ثلاثين عاماً. طوال معظم سنوات التسعينيّات من القرن الماضي، احتفظَت “اللجنة المؤقّتة” للمرفأ بحسابها المصرفيّ الخاصّ، على الرغم من كونها جزءاً جوهريّاً من الدولة، ولم يكن متاحاً لأحدٍ سوى أعضاء “اللجنة” الوصولُ إلى ذلك الحساب. استمرّت عائداتُها الضخمة في التدفّق بشكلٍ جزئيّ فقط إلى خزينة الدولة التي كانت تعاني ضائقةً ماليّة، ومرّت سنوات لم يتمّ خلالها إيداعُ أيٍّ من ايراداتها في الخزينة. ومّما فاقَمَ افتقارها إلى الشفافيّة أنّ هيئات الرقابة في الدولة -ديوان المحاسبة، وهيئة التفتيش المركزيّ، ومجلس الخدمة المدنيّة- تغاضَت عن المرفأ، لمجرّد أنّه لم يُدرَج في قائمة جرد أجهزة الدولة لفحصها وإخضاعها للرقابة.

ظلّ موظّفو المرفأ خاضعين للقانون الخاصّ، حتّى وهم يتلقّون رواتبهم من الموارد العامّة. جرَت، من حينٍ لآخَر، عمليّات تدقيق لسجلّات “اللجنة المؤقّتة” من قِبَل شركة خاصّة، ولكنّ نتائج التدقيق لم تكشف إلّا لأعضاء اللجنة في المداولات الداخليّة وكان يتمّ -وبشكلٍ منهجيّ- تجاهُل العديد من الشكاوى المتعلّقة بالاختلاس والمخالَفات الإداريّة. 

“أشرفت” وزارة الأشغال العامّة والنقل على المرفأ، كسلطة “وصاية”، ولكنّها لم تمتلك السلطة الحقيقيّة اللازمة لفرض سيطرة فعّالة عليه. واجهت تعامُلات المرفأ مع القطاع الخاصّ مشكلاتٍ قانونيّة، وذلك لافتقارها إلى سلطات قانونيّة واضحة لا تمتلك حقّ ممارستها سوى هيئة حكوميّة كاملة الأهليّة. ولأنّ المرفأ لم يظهر في أيّ مخطَّط تنظيميّ ينصّ على السلطات السياسيّة والإداريّة المنوط بها الإشراف عليه، فإنّ تعامُلاته مع الكيانات الأخرى في الدولة -كمصلحة الجمارك والأجهزة الأمنيّة والوزارات- قد تُرِكَت لتقديرات وأهواء السياسيّين والمسؤولين المعنيّين به. أدّى غموض وضع المرفأ قانونيّاً إلى إرباك القضاة المكلَّفين بالتدخّل في النزاعات القانونيّة المتّصلة به، وقد دفعهم هذا في كثير من الأحيان إلى إعلان افتقارِهم إلى السلطة القضائيّة أو إلى تمرير قضايا المرفأ المعقّدة، دونما نهاية، إلى فروع قضائيّة أخرى أو إلى أجهزة أخرى في الدولة. حتّى في بعض القضايا التي اتّخذ القضاة موقفاً فيها (وكانوا غالباً من القضاة في “قضاء الأمور المستعجلة”)، تجاهل مسؤولو المرفأ المدعومون سياسيّاً الأحكام أو قاموا بنقضها.

حزب الله يشق طريقه نحو المرفأ

تمركز الخلاف السياسيّ الحادّ بشكلٍ أساسيّ حول العديد من مقترحات ومحاولات خصخصة المرفأ. فقد عقدَ رفيق الحريري آمالاً كبيرة على أنّ الأمر لم يكن سوى مسألة وقت حتّى تسود رؤيته حول الاقتصاد الليبراليّ؛ وذلك تماماً مثلما نجح في نقل ملكيّة وسط مدينة بيروت إلى شركة “سوليدير”، وهي شركة مساهمة خاصّة أسّسها الحريري. غير أنّه واجه مقاومةً شرسة في المرفأ من طرف خصومه السياسيّين الذين لم يكن لديهم النفوذ الماليّ الكافي لتلبية متطلّبات رأس المال من أجل المشاركة في عمليّة الخصخصة. وواجهَت مقترحات الخصخصة، مراراً وتكراراً، رفضاً قاطعاً في الحكومات الائتلافيّة صعبة المراس التي قادها رفيق الحريري.

وفيما كانت الأطراف السياسيّة المختلفة تسير بخطى ثقيلة تماشّياً مع “اللجنة المؤقّتة”، انضمّت إليهم على نحو متزايد رفقةٌ من تنظيم “حزب الله”. يمكن القول إنّ تنظيم “حزب الله” شقّ طريقه عنوةً نحو المرفأ؛ وتحديداً لأنّه لم يكن هناك أحدٌ قادر أو عازم على إيقافه، في ظلّ التشرذم السياسيّ وتفكّك سلطات “اللجنة المؤقّتة”. المثير للاهتمام أنّ تنظيم “حزب الله” ليس لديه خبرة سابقة في الشؤون البحريّة. خلال الحرب الأهليّة، وصف تقرير رُفعت عنه السرّيّة لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (CIA)، بأنّه “المجموعة الرئيسيّة الوحيدة من السكّان الأصليّين، التي ليس لديها منفذ إلى البحر”. غير أنّه منذ تسعينيّات القرن الماضي، نما الدور الذي يضطلع به تنظيم “حزب الله” في مرفأ بيروت عبر علاقاته مع القادة السياسيّين والأحزاب المُمثَّلة في “اللجنة المؤقّتة”، مثل “حركة أمل” التي يتزعّمها نبيه بِرّي، إضافة إلى “التيّار الوطنيّ الحرّ” بدءاً من عام 2005 وما تلاه. ولديه أيضاً روابط قويّة مع وزراء رئيسيّين ذوي نفوذ على المرفأ. شغل يوسف فينيانوس منصب وزير الأشغال العامّة والنقل في لبنان بين عام 2016 وكانون الثاني/يناير 2020، وقد فرضت عليه حكومة الولايات المتّحدة عقوبات في 8 أَيلول/سبتمبر لاتهامه بـ”تمكين (تنظيم) حزب الله” والزعم بأنّه استفاد من الفساد الذي يتورّط فيه التنظيم.

 كان تنظيم “حزب الله” نشطاً للغاية في نقابات المرفأ، التي احتشدت في أكثر من مناسبة للتصدّي لخطط الخصخصة التي هدّدت المصالح التجاريّة لحلفاء التنظيم. وبحسب رياض القبيسي، وهو صحفيّ استقصائيّ لدى قناة “الجديد”، نجح التنظيم أيضاً في اختراق مصلحة الجمارك والقوّات الأمنيّة في المرفأ، ولا سِيَّما مع بداية العقد الثاني من القرن الحاليّ. أثار هذا شائعات بأنّ التنظيم استخدم المرفأ لتهريب الأسلحة والتجارة غير المشروعة للمساعدة في تمويل نفسه، مع أنّه يمكن افتراض أنّ عمل مفتّشي المرفأ من فرقة العمل البحريّة التابعة لليونيفيل يصعّب مثل هذه الاحتماليّة. صودرت في المرفأ كميات كبيرة من القنب، التي زرعت في مناطق يسيطر عليها تنظيم “حزب الله”، وكان أحدثها في أبريل/نيسان 2020. يبدو أنّ هذه المصادرة أكّدت على الاستخدام المزعوم للمرفأ في التجارة غير المشروعة من جانب تنظيم “حزب الله”. فيما يمكن لهذا الأمر أن يشير على السواء إلى أنّ سيطرة التنظيم على المرفأ كانت محدودة. 

لم يُبالِ المانحون الأجانب والمنظّمات الدوليّة ووكالات الإغاثة بالفوضى المؤسَّسيّة المشهودة في المرفأ وأسبابها الجذريّة في المشاحنات السياسيّة والجشع. وبينما مرّ الاتّحاد الأوروبّيّ ووكالات الأمم المتّحدة والمانحون من الغرب عبر بيروت بلائحة طويلة من “الإصلاحات” من أجل الإفراج عن مساعداتهم الماليّة، ولا سِيَّما بداية من مطلع الألفيّة الجديدة، كان قليلون هم من كلّفوا أنفسهم عناء معالجة الهيكل المؤسَّسيّ المزري للمرفأ. إذ إنّ عدداً كبيراً من المؤتمرات الدوليّة المعنيّة بالمعونات لمساعدة لبنان خصّت بالذكر جميع المؤسَّسات الحكوميّة اللبنانيّة تقريباً بأنّها في حاجة إلى إصلاحات عاجلة. بيد أنّ أحداً لم يأتِ على ذِكر المرفأ. وفي مناسبة نادرة، طالب البنك الدوليّ في 2018 بـ”إصلاح الهيكل الحكوميّ للمرافئ الرئيسيّة”، ووصف إدارة مرفأ بيروت بأنّها “فريدة من نوعها”. وبعد عام، أوصى البنك الدوليّ بضم المرفأ إلى عمليّات الإصلاح لضمان “المحاسبة والتقارير الشفافة حول الإيرادات والتكاليف والاحتياجات الاستثماريّة”. 

كان مرفأ بيروت أوّل مؤسَّسة خضعت لنظام المحاصصة بموجب الهيئة الثلاثيّة في أعقاب اتّفاق الطائف والتي سميت بـ”الترويكا” (أنْ يتولّى الرئاسة مسيحيّ مارونيّ، مقابل أنْ يكون رئيس الوزراء مسلماً سنّيّاً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعيّاً)؛ تمهيداً لتقسيم أجهزة ومؤسَّسات الدولة بالكامل تقريباً منذ منتصف التسعينيّات فصاعداً. وهذا يعني ضمناً أنّ إدارة المرفأ أصبحت معتمدة على صراعات السلطة

صياغات مبهمة للإصلاح

في تقييم أضرار الانفجار الذي تعرض له، كرَّر البنك الدوليّ الخطاب مبهم الصياغة نفسه عن الإصلاحات، مضيفاً أنّ عمليّات المرفأ يجب أنْ تكون مفتوحة بدرجة أكبر للقطاع الخاصّ. لا يبدو أنّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون أدرَج نوعاً من الإصلاح لهيئة المرفأ في “خارطة طريق الإصلاح” التي وضعها، حتّى عندما أعلن عن خارطة الطريق بينما كان يقف فوق ركام المرفأ خلال زيارته الثانية إلى البلاد منذ وقوع الانفجار، التي كانت في 1 أيلول/سبتمبر. ويظهر أنّه ليس هناك مطلب بإخضاع سجلّات “اللجنة المؤقّتة” لتدقيق دوليّ، مثلما هو الحال الآن مع مصرف لبنان المركزيّ.

ربّما يكمُن السبب في أنّ المرفأ موَّل عمليّاته ومشروعاته تمويلاً ذاتيّاً، ممّا جعل قافلة إصلاح منظّمات الإغاثة والمانحين تتجاوزه دون كثيرٍ من الاهتمام أو التأثير. تشير تقارير إلى أنّ المستثمرين الأجانب، ومن بينهم مجموعة فرنسيّة لبنانيّة لنقل الحاويات وشحنها، تُدعَى “سي إم إيه سي جي إم” (CMA CGM)، يتطلعون للحصول على عقد لتولّي عمليّات “الشركة المشغّلة لمحطّة الحاويات في مرفأ بيروت” (BCTC)، وربّما يريدون عدم تعرض فرصهم في هذه المساعي للخطر عن طريق تنفير “اللجنة المؤقّتة”، وبغضّ النظر عن السبب الكامن، من خلال تجاوز المرفأ في حملة الإصلاح التي يضطلعون بها، أتاح المانحون الدوليّون ومنظّمات الإغاثة عن قصد أو عن غير قصد، للطبقة السياسيّة-التجاريّة في لبنان بأنْ يتعاملوا مع المرفأ كما لو أنّه فناؤهم الخلفيّ، على حساب الإدارة القويّة والمسؤولة.

بكلّ تأكيد، لا يمكن لأحد أنْ يرسم خطّاً مستقيماً واحداً يربط بين الفشل المؤسَّسيّ للمرفأ والمشاحنات السياسيّة وبين الانفجار الذي وقع في 4 آب/أغسطس. فإذا كان انعدام الكفاءة والإهمال والجمود البيروقراطيّ هي وحسب ما سبَّبت الانفجار، فإنّ السجلّ المؤسَّسيّ المزري للمرفأ وفشل الرقابة السياسيّة والجشع ستكون هي التي هيّأت له المجال. 

يتعيَّن على تحليل مماثل أنْ يكمّل مزيداً من الفرضيّات “الشريرة”، بما فيها فرضيّة أنْ يكون لتنظيم “حزب الله” يد في الحصول على نترات الأمونيوم أو الاحتفاظ بها في مستودع المرفأ، أو شروع إسرائيل في إحدى عمليّاتها السرّيّة بالتسبُّب في تفجيرها، أو كلا الأمرين. ليس أيّ من هذه النظريّات مدعوماً بأدلّة راسخة حتّى الآن. غير أنّها إذا ظهرت، سوف تكون منطقيّة في سياق الفوضى المنتشرة في المرفأ وهياكل السلطة الفاشلة، ممّا يمنح فرصة كبيرة لمثل هذه المخطّطات المتهوِّرة وتقديم بيئة مثاليّة لها كي تمر من دون ردع أو كشف.