fbpx

من الثائر إلى الأناركي… كيف انتصر “الجوكر” على الرجل الوطواط؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اشتهرت شخصية “الجوكر” بالفوضى البنّاءة، ودخل قناع هذه الشخصية إلى تظاهرات بيروت وبغداد وباريس… للدلالة على أيديولوجيا جديدة بدأت تصعد في الشارع الغاضب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يسبق الفن الواقع ويتنبأ به. 

كانت السردية التقليدية للصراع بين الجوكر والرجل الوطواط تنتهي بانتصار الأخير وتحقيق العدالة. لكن مع فيلم 2008The Dark Knight ، مرت الشخصيتان بتحولات مهمة نقلت الجوكر من مجرم دموي إلى بطل “أناركي” ذي فلسفة سياسية ستجذب الجمهور وتجعله يتداول عباراته كفلسفات حياتية.

إن التحول الذي طرأ على الشخصيتين كان تنبؤاً فنياً مبكراً بحالة الانتقال السياسي التي ستشهده شوارع العالم الغاضبة، بعد الأزمة المالية العالمية 2007، إلى مرحلة جديدة لا تكتفي فيها الشعارات السياسية بإصلاح السلطة ولا بتغييرها إنما برفض فكرة السلطة من الأساس.

ظهرت الأناركية (التي تترجم أحياناً بالفوضوية أو اللاسلطوية) كحركة سياسية ترفض الدولة وأي نوع من أنواع السلطة المركزية أو التنظيم وتدعو إلى “مجتمع بلا سلطة”. 

أطلق “الفوضويون” الموجة العالمية الأولى للإرهاب بين عامي 1881-1912 واستطاعوا فيها اغتيال رئيسيين أميركيين، وقيصر روسيا (الكسندر الثاني)، ورئيس فرنسا، وامبراطورة النمسا وهنغاريا. وبلغت الحركة نقطة صعودها وانهيارها باغتيال الدوق فرانز فرديناند وزوجته وهو الحدث الذي أشعل الحرب العالمية الأولى. 

اختفت الأناركية زمناً ثم عادت اليوم مستفيدة من الحركات الاجتماعية، كالربيع العربي، و”حركة احتلوا وول ستريت”، واحتدشت تظاهرات السترات الصفر وحياة السود مهمة، لتنتقل (الأناركية) إلى التركيز على التظاهر والعنف المتمثل في إحراق الممتلكات العامة ومهاجمة رجال الشرطة.

ظهرت شخصيه الجوكر عام 1940 كمجرم عادي سيقع خلال إحدى مواجهاته مع الرجل الوطواط في برميل مملوء بغاز الضحك، وبسبب التأثير الكيماوي على أعصابه ستصبح الضحكة الهستيرية علامة دائمة للقاتل المتسلسل الذي لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم.

لكن في فيلم Batman- 1989، سينتصر الجوكر فنياً على الرجل الوطواط لأن من سيمثل شخصيته هو النجم الكبير جاك نيكلسون. سيفوز نيكلسون بجائزة الأوسكار عن دوره، لكن الأهم من هذا أن الجوكر سيتحول إلى البطل الرئيس وسيتوارى الرجل الوطواط إلى خلفية الأحداث.

ظهرت شخصيه الجوكر عام 1940 كمجرم عادي سيقع خلال إحدى مواجهاته مع الرجل الوطواط في برميل مملوء بغاز الضحك.

كانت مشكله الرجل الوطواط أنها أصبحت شخصية باهتة غير قابلة للتطور. وظل القناع الذي يخفي وجه الرجل الوطواط كاملاً يكبل الشخصية ويجعلها عاجزة عن كسب تعاطف المشاهدين. وكان العمل على شخصية الجوكر أحد الحلول الدرامية التي يمكن من خلالها إنقاذ سلسلة الرجل الوطواط. فإذا كان البطل عاجزاً عن حمل الفيلم، لماذا لا يحمل الفيلم على أكتاف المجرم؟ ولماذا لا يصبح المجرم هو البطل الفني بينما يظل الوطواط في النهايه هو البطل الأخلاقي؟

بعد ذلك ستعتمد أفلام الرجل الوطواط التناقض بين البطل الفني والبطل الأخلاقي عبر استقدام نجوم هوليووديين من العيار الثقيل، ليقوموا بدور الشرير (البطريق، ذو الوجهين…) ويتراجع الرجل الوطواط إلى الصف الثاني.

لم يكن منتجو سلسلة الرجل الوطوط يفكرون في السياسة حينها. لكن مصادفات القدر أن اللحظة تزامنت مع تحول سياسي عالمي بدأت فيه وعود العولمة بعالم جديد من الحريات والرفاه تتساقط، وبدأت الرأسمالية تنتج تفاوتاً ضخماً بين الفئات الاجتماعية حتى في العالم الغني، وبدأت الديموقراطية تضعف، فيما تسيطر على الساحات قوى اليمين المتطرف أو اليميني العنصري أو الأحزاب الدينية السياسية.

في ظل تلك الظروف، ستعجز الايديولوجيات السياسية عن تقديم بديل جذاب لجيل جديد من الشباب والجماهير، يمارس نشاطه من خلال السوشيل ميديا، وستصبح اللحظة مناسبة لصعود الأناركية.

ستصبح رباعية الرأسمالية والديموقراطية الليبرالية ودولة القانون والامتياز الأبيض الهدف الذي سيتشكل ضد الأناركية الجديدة. فهي كلها من وجهة نظرها عبارة عن أعضاء تحالف واحد يسيطر على عقول الفقراء والملونين ويستغلهم ويستعبدهم.

بعد عام من الأزمة المالية العالمية ظهر فيلم The Dark Knight 2008 مقدماً النقلة الأخطر في سيرة البطل الأناركي. سيتحول الوطواط إلى مجرم في نظر الجماهير بعد أن يورطه الجوكر في مواقف تصوره أمام الرأي العام مسؤولاً عن عمليات القتل والتفجير. لكن هذا ليس كل شيء… لم يعد الجوكر مجرماًK بل صار شخصية سياسية وفيلسوفاً أناركياً كسب قلوب الجماهير.

أعلن الجوكر فلسفته الأناركية بعبارة بسيطة صارت من أشهر عبارات الحوار الهوليوودية: “أدخل القليل من الأناركية/ الفوضوية وأقلق النظام القائم، كل شيء، بعد ذلك، سيتحول إلى فوضى. أنا عميل للفوضى، أتعرف شيئاً عن الفوضى؟ إنها عادلة”.

في الفيلم التالي Dark Knight Rising، الذي يبث عام 2012 والعالم يموج بانتفاضات الربيع العربي وأميركا تصارع حركة “احتلوا وول ستريت” دارت قصة الفيلم حول الصراع بين المهمشين والفقراء من ناحية، وممثلي النظام القائم من ناحية أخرى، بما فيهم الشركة والقضاء والمسؤولين الرسميين لتتحول أفلام الرجل الوطواط إلى رؤية هوليوودية مسطحة للنظرة الأناركية للعالم، كحالة صراع صفري بين مجموعتين، النخبة والجماهير، صراع لا تقف فيه المؤسسات السياسية والقانونية إلا في صف النخبة المستغلة.

“أدخل القليل من الأناركية/ الفوضوية وأقلق النظام القائم، كل شيء، بعد ذلك، سيتحول إلى فوضى. أنا عميل للفوضى، أتعرف شيئاً عن الفوضى؟ إنها عادلة”.

في الفترة ذاتها، كانت الدراما الكولومبية والهوليوودية بدأت تصنيع سيرة بطل أناركي آخر هو تاجر المخدرات الدموي بابلو إسكوبار. إنه قاتل ومهرب مخدرات لكنه نصير للفقراء! مجرم خارج عن القانون لكن ذلك سيتحول إلى بطولة درامية لأنه خروج على مؤسسات فاسدة وقانون يقف في صف الأغنياء! كانت الصورة الدرامية بعيدة كل البعد من حقيقة إسكوبار الدموية البشعة، لكن الزمن كان زمن روبين هود وعلي الزيبق، لا زمن البطل الخارق الذي يساند المؤسسات الرسمية لتحقيق العدالة.

كان زمن البطل الذي يعمل من داخل المؤسسة وداخل القانون لتحقيق العدالة يتراجع، ليظهر بدلاً منه زمن البطل المضاد الذي يعمل ضد المؤسسة وضد القانون وضد العدالة لأن العدالة أيضاً تصب في مصلحة القوي.

مع ظهور فيلم “الجوكر 2019″، كانت حلقة تصنيع البطل الأناركي سينمائياً اكتملت مترافقة مع صعود أناركي سريع في العالم شرقاً وغرباً عبر حركات الاحتجاج التي ضربت العالم من بيروت وبغداد إلى باريس وأميركا اللاتينية.

تدور قصة فيلم الجوكر الأخير (بطولة خوان فونيكس) على خلفية تظاهرات عارمة في مدينة غوثام الخيالية، احتجاجاً على تراكم المخلفات في الشوارع، وسوء الأحوال المعيشية. سيتورط الجوكر المسالم في مقتل ثلاثة رجال بيض أغنياء ليتحول إلى بطل شعبي. مقتل “ثلاثة رجال بيض وأغنياء” كنقطة تحول للجوكر ليست مصادفة. فالرجال الثلاثة رمز للرأسمالية والذكورية والليبرالية الجديدة التي جعلتها الأناركية الجديدة هدفها وخصمها اللدود.

انتقل قناع الجوكر إلى تظاهرات بيروت وبغداد وباريس. اخترع العراقيون مصطلح “الجوكرية” كتسمية شعبية ذات دلالة للايديولوجيا الجديدة التي بدأت تصعد في الشارع الغاضب.

هل كانت الأناركية حاضرة في الربيع العربي جنباً إلى جنب مع الايديولوجيات الأخرى؟ بدأت بعض الأبحاث محاولة دراسة الربيع العريي من مدخل الأناركية.

مع فيلم “الجوكر” 2019، كان الرجل الوطواط مات درامياً. لم يعد له أي ضرورة درامية ليظهر في الفيلم. وحتى لو ظهر في الجزء الثاني (المزمع إنتاجه) فإنه سيظهر كعدو للجماهير لا كنصير للعدالة. في المشهد الأخير من الفيلم، خرج المتظاهرون ليرفعوا الجوكر على الأعناق تكريساً له كبطل لمرحلة جديدة، ستظهر المرحلة الجديدة في 2020 في تظاهرات “حياة السود مهمة”، التي ستتجاوز مطالب مواجهة العنصرية إلى المطالبة بإسقاط جذري لتاريخ العبودية ورموز التفوق الأبيض، حتى إلغاء جهاز الشرطة والأمن وإدارة الأمن إدارة ذاتية من قبل المواطنين، وهذه واحدة من أهم يوتوبيات الحركة الأناركية منذ انتشارها الجماهيري في القرن التاسع عشر.