fbpx

قصص شباب طرابلس… الهجرة غير الشرعية هرباً من “جهنّم” اللبنانية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لبنان لم يعد أرضاً مناسبة للحياة بالنسبة إلى أولاده المتعبين المنهكين من المحاولة، وأي مخاطرة، مهما كانت صعبة، أهون من شرّ البقاء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يترجل العائدون في المراكب وابتساماتهم تتلون بألوان الغروب. يحملون أمتعتهم وما توفّر في جعبتهم من صيد أسماك ثمينة. يتعلّق بعضهم بالحبال ليطأ أرض الكورنيش. يصرخ أحدهم إلى المعلم حسن: “عدنا كما وعدناك”، بينما ينهمك هو في تعدادهم واحداً واحداً ليتأكد من اكتمال العدد. 

“صرنا منخاف”، يردف متمتماً فيما يتابع العدّ والنقر بإصبعه في الهواء. العيون كلها شاخصة نحوه بانتظار النتيجة. يأخذ نفساً عميقاً ويلتفت نحو زملائه قائلاً: “سليمة. ما حدا ناقص”. 

بات المعلم حسن، الذي أمضى أكثر من 20 سنة من حياته في أحضان البحر شمال لبنان، ذهاباً وإياباً مع الركاب في رحلات نحو جُزر الميناء الشهيرة، يخاف مهنته. فراهناً، أوقف خفر السواحل في محلّة القلمون صديقه “م. ز.”، بعدما رصدوه عائداً من رحلة إلى جزيرة الأرانب فيما فرغ مركبه من معظم الركّاب. “راحت عليه فسدية”، يُردف العمّ ميلاد وهو منشغل بلفّ ورقة سيجارته. ينظر إليه المعلم حسن عاضاً على شفته  السُفلى، في محاولة بائسة لإسكاته. لكن العمّ ميلاد يضيف: “عندما يقرر الشباب الغاضبون القيام بشيء ما، لا يُمكن أن يمنعهم أحد. ونحن لا ذنب لنا. طول عمرنا مناخد ومنجيب من الزيرة (جزيرة في صيدا، جنوب لبنان). مسؤوليتنا تقتصر على أن ننقلهم ونرجعهم سالمين، لكن من يصرّ على عدم العودة لا يمكننا إرغامه”. 

ميناء طرابلس، لبنان

على طول كورنيش الميناء مئات القوارب السياحية التي تقل الناس في رحلات في عرض البحر. وبعد الصيد، تعتبر هذه من أكثر المهن انتشاراً في المدينة. ففي فترات سابقة، كانت “تدرّ ذهباً” وفق المعلم حسن، إذ لا يمكن أن يخرج سائح من طرابلس من دون المرور بالميناء والجزر. لكن اليوم، تحولت مهنة أصحاب القوارب إلى نقمة بحسب قوله: “طبعاً قضية الهجرة غير الشرعية هي السبب الأساس في معاناتنا اليومية، فعندما ينتشر خبر عن سفر مجموعة من الشبان عبر البحر، تكثر الشائعات، ومن يكون مركبه مركوناً في مكان قريب من الموقع الذي خرج منه هؤلاء، قد يخضع للتحقيق”. يضيف: “ولكن ليتني أفهم بماذا تفيد هذه التحقيقات! يملأون الورق بأقوال رواد البحر ولا شيء يتغيّر هنا”. يضحك ساخراً: “شو بدو يحكي الواحد”. يصمت برهة ثم يتابع: “اسمعي يا بنتي، هذه الحالة لن تتوقف مهما فعلوا. ادخلي إلى أحياء الميناء ستجدينها فارغة. اسألي من لا يزال موجوداً بماذا يفكر؟ ما الذي ينوي فعله؟ ستعرفين وحدك ما نحن مقبلون عليه. وهل تريدين رأيي؟ الحق معهم. ماذا سيفعل هؤلاء الشباب في بلد يقول رئيس جمهوريته إننا ذاهبون إلى جهنم؟! هل هكذا يُخاطب الرئيس شعبه؟ أصلاً هو غير مكترث بما يحدث هنا. لا هو ولا غيره”. 

قوارب تنقل السواح في مدينة طرابلس

تتداخل عبارات الحاضرين في المكان بعضها ببعض. الكل يريد أن يُعبّر عن الحسرة والغضب، وكأن المعلم حسن نطق بما يختلج نفوسهم جميعاً. الرجل “بق البحصة” وتتالت سُبحة “البحص” العالق في حناجر رواد البحر. نفث العمّ ميلاد دخان سيجارته وأردف: “أنا ما عارف شو فيها جهنم شي أقوى من يلي عايشينوا هلق”. يقاطعه مساعده بالقول: “الرحلة نحو الجزر لا تزال بثلاثة آلاف ليرة، على رغم أن سعر المازوت ارتفع وما عادت الرحلة ترد أتعابها. لكن لا خيارات أمامنا. هل نرفع التسعيرة على أبناء منطقتنا ونحن نعرف أن معظمهم يشكون العوز؟”. يعود المعلم حسن ليستلم دفة الحديث: “المشكلة ليست في ارتفاع سعر المازوت وحسب، بل في انقاطعه. الدولة اللبنانية ومعها المتحكمون بالسوق باتوا على علم بأن قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية آتٍ لا محالة، لذلك يلجأ المحتكرون إلى قطع المازوت والبنزين عن الناس لكي يبيعوه بعد رفع الدعم بأسعار خيالية”. ويتابع: “أنا خبأت بعض المازوت في المستودع لدي وكل من لديه القدرة على تخزين بعض الكميات سيفعل وإلا سيتوقف عملنا وسنستجدي اللقمة”. 

الفرار من جهنم

الشكوى نفسها تتردد على ألسنة الحاضرين. الأمل بعيش كريم ضئيل، ولا أحد يملك القدرة على مغادرة البلاد بأساليب “شرعية”، فلا يبقى أمام اليائسين إلا الفرار عبر البحر من “جهنم” اللبنانية إلى الجنة الأوروبية. ولكن موسم الهجرة غير الشرعية افتتح العام الماضي، على عكس ما يُشاع، إنما وتيرته لم تقوَ إلا مع اشتداد الأزمة الاقتصادية الخانقة والتي تظهر تجلياتها بوضوح في شمال لبنان حيث مناطق منسية ومهملة، لا سيما طرابلس ومحيطها حيث فقر مدقع. ووفق حسن العويك، الشاب الذي افتتح الموسم مع رفاقه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، فإن “مرارة التجربة في لبنان دافع نحو الانتحار وليس الهجرة غير الشرعية وحسب”. 

يروي الشاب العشريني ما حدث: “حينذاك بدأت أوضاعنا المادية تسوء، صُرفت من عملي في شركة نقل وتوزيع مياه بسبب أزمة مادية. في الوقت نفسه بدأنا نسمع عن شبان يغادرون إلى قبرص عبر البحر، فقررت أنا و11 شاباً أن نقدم على هذه الخطوة”. ويضيف: “اشترينا قارباً صغيراً حشرنا أجسادنا فيه وانطلقنا. كان البرد قارساً في المساء، والشمس حارقة في النهار. لكننا بقينا مصرين على التقدم. لم نخف للحظة من الضياع أو الغرق، فأبناء الميناء هم أبناء البحر، جميعنا نعرف اتجاهاته ونُتقن السباحة والغوص، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان”. 

الأمل بعيش كريم ضئيل، ولا أحد يملك القدرة على مغادرة البلاد بأساليب “شرعية”.

بالقرب من حسن كانت مجموعة من الشبان، بينهم محمد محيش الذي التزم الصمت لوقت طويل، وحين التفت نحوه رفاقه انتبهوا إلى أن عينيه تبللتا بالدمع. حاولوا التحفيف عنه ساخرين: “شو بك يا زلمة… بعدنا عايشين ما صار شي”. ليُجيبهم قائلاً: “تذكرت نفسي حين خضت غمار الرحلة أيضاً. كنت على وشك تحقيق الحلم”. يسود صمت في المكان، فالشباب غير آبهين لما حلّ بهم، إنهم فقط آسفون لكونهم لم ينجحوا بالمغادرة. 

يخرق حسن الصمت متابعاً سرد القصة: “الظلام كان أكثر ما أخافنا. الليل في عمق البحر مرعب. لم نكن قادرين على رؤية بعضنا بعضاً. اتفقنا على أن نتوالى على السهر كل ليلة، إذ يجب أن يبقى واحد منا ساهراً تحسباً لأي مكروه. وبعد ثلاث ليالي في البحر، هاجمتنا عاصفة قوية. لم نعد نعرف من أي جهة يطمرنا الموج. بدأنا نقع من المركب واحداً تلو الآخر. نصرخ ونبتلع المياه. استمر الوضع على هذه الحال لساعات. حاولنا أن نظل قرب بعضنا بعضاً، وأن نمسك أيادينا تحت الماء. انقضى الأمر على خير بعد عناء، وعندما بزغ الفجر وجدنا أنفسنا على السواحل القبرصية”. بعد نفس عميق تابع: “بمجرد أن وطأنا الأرض طوقتنا الشرطة القبرصية ووضعتنا في مخيم كبير. كنا جائعين فأطعمونا. لكنهم بعد وقت ساقونا إلى التحقيق، وهنا اكتشفنا أننا بلغنا قبرص التركية. أمضينا يومين في التحقيق ثم أخلوا سبيل رفاقي وأعادوهم إلى هنا بمركب ضخم. أما أنا فسُجنت ثلاثة أشهر بحجة أنني أقنعتهم بالسفر”. 

انتهت القصة لكنها فتحت سيلاً من الأسئلة. أشعل حسن سيجارة وقال: “ما بالكم تنظرون إلي، هل تسألون بينكم وبين أنفسكم إن تعرضت للضرب؟ طبعاً ولكن ما همني. كنت أنتظر أن أخرج لأبدأ حياة جديدة. اعتقدت أنهم سيتركونني ليوم أو يومين في البلد، وكنت أخطط في رأسي كيف سأهرب مجدداً نحو اليونان، لكنهم أعادوني إلى هنا مباشرة فور خروجي من السجن”. 

بدأ المجتمعون يرمون النكات على صديقهم. كما دائماً، يحوّل الموجوع تعبه إلى مادة للسخرية. هو تماماً المضحك المبكي. قطع محمد موجة الضحك حين بدأ سرد قصته. بعدما تشاور مع زوجته وقرّرا معاً الفرار نحو قبرص، ترك عمله في الديلفيري حيث كان يتقاضى 30 ألف ليرة شهرياً ( أقل من 5 دولارات)، وباع أثاث منزله كاملاً. ترك في جيبه مبلغاً بسيطاً من المال ودفع خمسة ملايين ليرة لبنانية (625 دولاراً) للمهرب الذي تكفل بنقله ورفاقه إلى شواطئ قبرص. يقول: “كانت رحلة ميسّرة لكنها لم تخل من المغامرات. طبعاً، عطشنا عطشاً شديداً وانقطعنا من الأكل، ولكن أملنا ببلوغ أرض الأحلام كان كفيلاً بحثنا على التحمّل. وبعد ثلاثة أيام تقريباً وصلنا. دخلنا إلى قبرص فانفرجت أساريرنا. أتذكر أنني حضنت زوجتي بقوة فانهمرت بالبكاء. أتذكر جيداً تلك اللحظة. بعد قليل حضرت الشرطة وحققت معنا ثم نقلتنا إلى مخيم. بتنا فيه نحو  8 ايام وتعرفنا إلى أشخاص من الجنسية السورية، فسروا لنا كيف يمكننا الانتقال إلى اليونان. كلهم سماسرة هناك وكنا سنضطر إلى دفع ما لا يقل عن ألفي دولار أميركي، على رغم أن الأمر غير مضمون النتائج. يمكن القول إنه أقرب إلى عمليات الإتجار بالبشر”. يقاطعه أحد الحاضرين: “ومن أين سنأتي بألفي دولار؟!”. فيجيب: “لا أدري… ولكن أعتقد أن هذا هو سبب بقاء الكثير من العرب في المخميات القبرصية فضمنياً الكل يتمنى الفرار من هناك”. يومئ الشاب برأسه موافقاً ثم يسأل: “وكيف عدت إلى هنا؟”. يتنهد محمد ثم يكمل: “قالوا لنا أنهم سيأخذوننا لإجراء فحوص فايروس كورونا. فتهيأنا لذلك لكن لم نلبث أن وجدنا أنفسنا على متن سفينة العودة إلى لبنان”. 

بكت زوجة محمد كثيراً وهي في طريق العودة، وبقيت تردد طوال الطريق: “أين سنعيش ومنزلنا فارغ حتى من فرشة صغيرة ووسادة للنوم؟”. 

حزن الشباب لمصاب صديقهم. كانوا يسمعون الحكاية للمرة الأولى. لقد تكتم محمد عنها طويلاً، فقد كان يجيب باختصار عندما يسأله أحدهم عمّا حصل. لكنه كسواه، على رغم ذلك لا ينفك يفكر بإعادة الكرّة. لبنان لم يعد أرضاً مناسبة للحياة بالنسبة إلى أولاده المتعبين المنهكين من المحاولة، وأي مخاطرة، مهما كانت صعبة، أهون من شرّ البقاء.