fbpx

الحرب الأخرى
مدينة الموصل: العيش مع الجثث والكلاب السائبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أشهر طويلة مرت على انتهاء الحرب في الموصل، لكن معارك أخرى بدأت. يخوض أهل المدينة العائدون معارك مع الفقر والمرض ومع الجثث المجهولة التي تملأ الأحياء المدمرة حتى اللحظة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في العاشر من تموز/ يوليو 2017 أعلن رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، رسمياً الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في مدينة الموصل. 9 أشهر من المعارك الطاحنة (16 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 – 20 تموز 2017)، انتهت عندما رفع حيدر العبادي العلم العراقي في المدينة، معلناً طيَّ صفحة الحرب، وهزيمة التنظيم الذي حكمها ثلاث سنوات، متخذاً إياها عاصمةً لخلافته التي أعلن قيامها أبو بكر البغدادي من جامع النوري الكبير فيها.

انتهت الحرب في مدينة الموصل، لكنَّ معارك أخرى بدأت. ففي المدينة القديمة يخوض العائدون معارك مع الفقر والأمراض، ومع الجثث مجهولة الهوية التي تملأ الأحياء المدمرة، والتي ترقد تحت أنقاض المباني المهدمة والملغمة حتى هذه اللحظة، حتى بات انتشال الجثث في الموصل حدثاً يومياً، وعادةً لا تستدعي تداولها على محمل الخبر.

البيت المدمر، الجانب الأيمن في مدينة الموصل

الدخول إلى المدينة القديمة

عند دخولنا إلى الجانب الأيمن من مدينة الموصل وخلال توجهنا إلى حيِّ الشهوان، أحد أحياء المدينة القديمة، لفت انتباهنا بيت مدمر، فسقفه المتداعي وجدرانه التي تحولت إلى ركام، تشي بأن وراء هذا الدمار قصة ما، وبالفعل؛ عند اقترابنا من البيت أو أنقاضه وقد تحوَّل جانب منه إلى مكب للنفايات، خرج الأهالي من البيوت المحيطة، ليسردوا الرواية الكاملة.

يقول محمد (33 سنة) إنه كان شاهداً على لحظة قصف البيت بصاروخين خلال معركة استعادة الموصل من تنظيم “داعش” (16 تشرين الأول 2016 – 20 تموز 2017). ويضيف: “مالك هذا المنزل المدمر كان أحد قادة “داعش” الكبار في الموصل، وفي فترة سيطرة التنظيم على المدينة تحول البيت إلى ديوان للزكاة. وخلال عمليات تحرير الموصل جاءت عائلات تابعة للتنظيم للسكن في البيت، ولم يمرّ أسبوع حتى قُصِف البيت بمن فيه من نساء وأطفال”.

البيت المدمر وتظهر النفايات التي يرميها الأهالي الذين يسكنون بالقرب منه

محمد يسكن في الشارع الذي يقع فيه البيت، روى لنا تفاصيل أكثر عمَّا حدث:

“كان البيت يحتوي براميل نفط، إضافة إلى سرداب تحت البيت، وعندما قُصِف في الثالثة فجراً، تقريباً، كنا نسمع صراخ الأطفال والنساء الذين احترقوا، استمرَّ الصراخ ساعتين لأنَّ نساء وأطفالاً كانوا يختبئون في السرداب، ظلوا يصرخون حتى الخامسة فجراً، وبعدها حلَّ الصمت”.

يقف محمد على بعد أمتارٍ قليلة من البيت المدمر، ويومئُ بيده نحو أكوام الأنقاض:

“المصابون جاء تنظيم داعش وأجلاهم من المكان، لكنَّ القتلى ظلوا بين الركام، وما زالت عشرات الجثث داخل البيت لم تُنتشل حتى هذه اللحظة”.

خالد عزت (58 سنة) أحد الشهود أيضاً على قصف البيت، يسكن قريباً منه، وخلال استماعنا إلى روايته كان أطفال المنازل المجاورة يأتون لرمي أكياس النفايات داخل البيت. يتحدث عزت عن امرأة نجت من القصف حينذاك:

“قالت لنا الناجية إن أموال السكان كلها داخل البيت، وأن عددهم 64 شخصاً، أُجليَ 14 منهم بين قتيل ومصاب، وبقيت جثث الخمسين الآخرين تحت الأنقاض”.

بحذر شديد تجولنا حول البيت وتوغلنا إلى بعض أجزائه، الأهالي هناك حذرونا من وجود عبوات ناسفة بداخله، وخلال تفحصنا البيت لاحظنا وجود بعض العظام البشرية بين الأنقاض، وأجزاء من بقايا حزام ناسف.

يتفق الأهالي هناك على الضرر النفسي والجسدي الذي لحق بهم جراء بقاء الجثث في البيت المدمر، ويؤكدون أن البيت صار مرتعاً للكلاب السائبة، ووكراً للأفاعي والعقارب والحشرات، التي تشكل خطراً على حياة السكان.

رائحة الموت

انطلقنا إلى حيّ الشهوان، الذي يقع على ضفاف نهر دجلة، في الجانب الأيمن لمدينة الموصل (465 كلم شمال غربي العاصمة العراقية بغداد)، الجانب الذي شهد معارك عنيفة وشرسة بين قوات الأمن العراقية المدعومة بغطاء جوي للتحالف الدولي وبين تنظيم “داعش”، الذي استمات من أجل البقاء في المدينة، التي أعلن منها زعيمه أبو بكر البغدادي خلافة الدولة الإسلامية في تموز 2014 خلال أول ظهور له على منبر الجمعة في الجامع الكبير.

الجانب الأيمن | المدينة القديمة، حي الشهوان، مدينة الموصل

حي الشهوان من أكثر الأحياء التي تعرضت للدمار في مدينة الموصل، فبحسب ما كشفه لنا قائمقام مدينة الموصل، زهير الأعرجي، فإنَّ 80 في المئة من المدينة القديمة (الجزء الغربي للموصل) تعرض للدمار، فمن مجموع 54 حياً سكنياً تعرض 16 حياً إلى ضرر “بسيط”، وهنالك 23 حياً تعرض نصف المباني فيها للدمار بشكل كامل، بينما هنالك 15 حياً غير قابل للسكن على الإطلاق (دُمرت بنسبة 100 في المئة) وحي الشهوان واحد من تلك الأحياء.

يشعر الداخل إلى حي الشهوان بأنه في فيلم سينمائي عن الحرب العالمية الثانية، فالدمار هناك مفزع، والسيارات المحترقة تتكدس فوق أطنان من الركام وأنقاض البيوت المدمرة، والسائر بمحاذاة ذلك الخراب حتماً سيلمح بقايا عظام بشرية، أو هياكل عظمية لأناس قضوا في المعركة.

أم محمد (64 سنة) واحدةٌ من بين سكان حي الشهوان القليلين الذين عادوا إليه بعد انتهاء معركة طرد تنظيم “داعش”. عند وصولنا إلى منزلها لم نكن بحاجة إلى قرع الباب، فهي تجلس غالباً على العتبة وتحمل بيديها مسبحة بيضاء طويلة، تحصي الخسارات التي تعرض لها سكان الموصل، وتتذكر جيرانها الذين قتلوا، أو نزحوا ولم يعودوا.

أم محمد تجلس أمام باب بيتها في الشهوان، مدينة الموصل

“كنا في الجنة… تراب حي الشهوان يعدل عندي الدنيا” تقول أم محمد وهي تتلفت إلى الخراب الشاخص حولها، فمنزلها من بين منازل قليلة جداً أُعيد ترميمه بتبرعات من قالت إنهم “أهل الخير”. وتضيف: “بعد انتهاء المعارك عدنا إلى حي الشهوان وكان تراباً، لكنَّ الخيّرين تبرعوا لي بالمال من أجل إعادة ترميم البيت” تحرك خرز مسبحتها ثم تستدرك: “لكن الرائحة تقتلنا كل يوم، والأفاعي والعقارب والحشرات” رائحة ماذا؟ سألنا أم محمد. فردت: “رائحة الجثث… انتشار الأفاعي والعقارب والحشرات هنا سببه الجثث، هنالك تلال من الجثث هنا”.

أخذتنا أم محمد في جولة بين ركام حي الشهوان، وخلال مرورنا في بعض الأزقة كنا نقرأ على بعض الجدران

الآيلة للسقوط عبارة: “هنا توجد عائلة” ثم يشير سهمٌ إلى اتجاه وجود تلك العائلة التي تسكن وسط الأنقاض مع الجثث والأفاعي والحشرات.

رصدنا أثناء توثيقنا الدمار في أحد المنازل، وجود هياكل عظمية لنساء وأطفال ورجال، ففي أحد الغرف كانت هنالك هياكل عظمية وأشلاء مغطاة ببطانيات وقطع قماش وملابس وأحذية، ولاحظنا وجود أحزمة ناسفة في بعض زوايا البيت.

الدخول إلى البيوت المدمرة في حي الشهوان وبقية أحياء المدينة القديمة في الموصل يمثل مجازفة خطيرة، بسبب وجود ألغام وقنابل غير منفجرة، وكذلك أحزمة ناسفة على هياكل مقاتلي تنظيم “داعش” الذين قُتلوا قبل أن ينفجروا.

قـبـل وبـعـد

المدينة المفخخة

دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (أونماس) تقدر وجود آلاف الأطنان من المتفجرات التي ما زالت مبعثرة في جميع أنحاء مدينة الموصل، وكشفت في 3 نيسان/ أبريل 2019 أن تطهير المدينة من الألغام والمتفجرات بالكامل قد يستغرق أكثر من 10 سنوات.

وبحسب بول هيسلوب، مدير البرامج في دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام؛ فإنه وقبل بدء القتال لتحرير الموصل من تنظيم “داعش”، كان لدى مقاتلي التنظيم عامان كاملان لتفخيخ المباني وتأزيرها بالمتفجرات والعبوات الناسفة: “كانت هنالك مبان قد انهارت على الأجساد، وأخرى مفخخة أو مزودة بمتفجرات لمنع الناس من العودة إلى بيوتهم، ثم هناك ذخيرة غير منفجرة مما تبقى من القتال الفعلي، كان كل شيء خطراً محتملاً، ربما تكون الثلاجة مفخخة، وتنفجر إن فتحتها، أو تدير مفتاح الضوء فتلقاك قنبلة في الانتظار، وكان الكثير من المباني نفسها غير ثابت أبداً، ولو حرَّك فريق الباحثين القطعة الخطأ من الأنقاض، للبحث عن المتفجرات، قد ينهار المبنى بأكمله عليهم”.

جثث تحت الأغطية، الجانب الأيمن | المدينة القديمة، حي الشهوان، مدينة الموصل

توغلنا مع أم محمد أكثر في الدمار المنتشر في حي الشهوان، وكانت بعض العظام البشرية مثل عظام الفخذ أو الذراع ناتئةً من الركام، لتدل على وجود جثة هناك: “ننام مع الجثث” تقول أم محمد وتصرُّ على البقاء في منزلها، رافضة فكرة المغادرة مرة أخرى، يكفي أنَّها جربت أبشع صور الحرب والنزوح: “هنا أرض أبي وجدي، أين نذهب؟ لا نريد شيئاً من الحكومة سوى تعويضنا عن دمار منازلنا، ومقتل أبنائنا”.

تومئُ أم محمد بيدها إلى تلة قريبة: “انظر إلى تلك التلة، هذه ليست تلة، إنها بيوت سويت بالأرض، وكل من فيها قتلوا ودُفنوا في الركام، أما هنا في البيعة (منطقة قريبة من بيتها) فقد قتلتنا رائحة الجثث، وجدران البيوت قد تسقط في أيّ لحظة على الأطفال، قبل أيام سقط أحد الأطفال في سرداب بيت مدمر”.

حدثتنا أم محمد عن زوجها الذي مات بالسرطان، وعن أبنائها الذين هددهم تنظيم “داعش” بالقتل، لأنهم يعملون في سلك الشرطة، ثم هربوا من الموصل ولم يرجعوا، وسردت لنا كفاحها الذي يمتدُّ منذ أيام الحصار الدولي على العراق عام 1990، حين كانت تبيع الخبز والخضار على الرصيف أمام منزلها، مروراً بكل ما حدث في الموصل، وصولاً إلى الخراب الشاسع الذي يحيط ببيتها الآن، واعتمادها على تبرعات الآخرين للبقاء على قيد الحياة.

الجانب الأيمن | المدينة القديمة، على ضفاف نهر دجلة، مدينة الموصل

“هل تصدق أن هذه الأرض كانت يوماً ما بيوتاً يسكنها أناس أبرياء؟” تشير بيدها إلى أرض جرداء تحيط ببيتها وتؤدي إلى ضفاف نهر دجلة الذي يمر في مدينة الموصل ويشطرها إلى شطرين، ثم تواصل السير وهي تستذكر جيرانها بأسمائهم ومواقع بيوتهم التي محتها الحرب تماماً: “هذا بيت كنعان، قُتل خلال المعركة، وهذا بيت زوجة عمي، لا تزال مدفونة تحت الأنقاض، لم تنتشل جثتها حتى الآن، وهذا بيت الحاج شكري، وهنا بيت وعد، ابن عمي، هذه البيوت كلها اختفت، انظر، هنا بيت صلاح، هناك بيت خال زوجي، كان لديه ولدان قُتلا أيضاً. أحدهما كان مسعفاً خلال المعركة، وعندما حاول إسعاف صديقه المصاب اخترقت جسده رصاصة وسقط ميتاً. هذا بيت خضوري، وهنا بيت رياض، الذي كان يساعدنا كثيراً”. ثمَّ تختنق بالبكاء.

خلال تجوالنا مع أم محمد اقتربنا من فتحة في الأرض، قالت لنا إنها تؤدي إلى سرداب بيت أحد مقاتلي “داعش”، واسمه حسين، وكان التنظيم يستخدم السرداب لأغراض عسكرية. ثم تواصل سيرها وهي تشير بيدها: “انظر، هذه ليست أرضاً جرداء، إنها بيوت، لقد دُفنت البيوت وأصحابها هنا” ثمَّ تغص بعبرتها وتجهش بالبكاء: “الشباب الحلوة راحت، أين شبابنا الحلوين؟ أين الناس؟ الناس الجيدون قُتِلوا، لقد انطفأ الحيّ، الشهوان انطفأ، كنا نعيش هنا على قلبٍ واحد، أحدنا يُطعم الآخر، ونساعد بعضنا، عندما مات زوجي بالسرطان بقي العزاء سبعة أيام، لقد ساهم جميع أهل الحي في العزاء، الناس هنا كانوا طيبين وجميلين، لقد رحلوا، ومن لم يُقتل منهم فقد نزح ولم يعد”.

معركة انتشال الجثث

عندما انتهت معركة الموصل (20 تموز 2017)، أعلنت الحكومة العراقية أنَّ حصيلة الضحايا بلغت 3176 قتيلاً، منهم 1429 مدنياً، كما قالت وقتها خلية الإعلام الحربي المخولة بإصدار بيانات وإحصاءات الحرب ضد تنظيم “داعش”. لكنَّ قوائم الجثث المعلومة ومجهولة الهوية التي كانت -وما زالت- تُنتشل من المدينة القديمة تشي بأنَّ العدد المعلن غير حقيقي، وأن فاتورة الموتى أكبر بكثير من ثلاثة آلاف ومئة وبضع عشرات.

في مدينة الموصل، قابلنا العميد حسام خليل مدير الدفاع المدني في نينوى، وكشف لنا الأرقام التي بحوزة المديرية عن أعداد الجثث المنتشلة من مدينة الموصل، قال: “إنَّ الدفاع المدني انتشل 2600 جثة معلومة الهوية، وهي لمواطنين أبرياء قتلوا خلال معركة استعادة الموصل، منها 750 جثة تعود لنساء و850 جثة تعود لأطفال لم يستطيعوا الخروج من المدينة، وهناك أيضاً 2200 جثة مجهولة الهوية تعود لمقاتلي تنظيم داعش، وبذلك يكون العدد الكلي للجثث المنتشلة من مدينة الموصل هو 4800 جثة”.

الأرقام التي كشفها لنا خليل أكبر من حصيلة القتلى التي أعلنتها خلية الإعلام الحربي التابعة للحكومة العراقية، وأكبر من الحصيلة الخاصة بانتشال الجثث التي أعلنتها المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، وهي مؤسسة حكومية تابعة للبرلمان العراقي، أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر 2018 أن العدد الكلي للجثث المنتشلة من مدينة الموصل بلغ 4720 جثة، وهذا الرقم يمثل مجموع الجثث المعلومة والمجهولة الهوية على حدٍ سواء.

تحدث خليل عن إنجاز 98 في المئة من ملف الجثث المنتشرة في مدينة الموصل، وذكر أنَّ عمل فرق الدفاع المدني حالياً (في ما يخص انتشال الجثث) يعتمد على الإخباريات التي تتلقاها المديرية من المواطنين أو الدوائر الخدمية المكلفة برفع الأنقاض وإنجاز المشاريع الخدمية، فبين الحين والآخر تصل معلومات عن وجود جثث أو أشلاء لجثث، فتخرج فرق الدفاع المدني لانتشالها.

مدير الدفاع المدني في نينوى ذكر لنا أيضاً الصعوبات التي واجهتها فرق الدفاع خلال عمليات انتشال الجثث: “عملية انتشال الجثث كانت مضنية جداً، بسبب طبيعة المنطقة التي كانت تعمل فيها، حيث وبسبب ضيق أزقة المدينة القديمة وانتشار الدمار فيها، لا تستطيع المعدات الثقيلة الدخول إلى هناك والتنقيب عن الجثث وسط الركام، إضافة إلى هذا كانت هنالك الكثير من المخلفات الحربية مع الجثث كالأحزمة الناسفة والأسلحة التي كان مقاتلو “داعش” مدججين بها. وما جعل المهمة أصعب هو انعدام الإمكانات والمعدات اللازمة لانتشال الجثث، فبعد تحرير الموصل لم تكن مديرية الدفاع المدني تمتلك آليات أو معدات”.

أرقام أخرى للجثث

بعد انتهاء معركة الموصل، شُكلت لجنة سُميت “لجنة انتشال الجثث” ترأسها المهندس دريد حازم، ومن أجل معرفة المزيد عن هذا الملف قابلناه لتوثيق شهادته في هذا التحقيق. حازم كشف لنا رقماً مغايراً لما كشفه مدير الدفاع المدني في نينوى العميد حسام خليل، وهو أكبر من أرقام خلية الإعلام الحربي والمفوضية العليا لحقوق الإنسان، وكذلك الدفاع المدني في نينوى، فبحسب المهندس دريد حازم، منذ انتهاء معركة الموصل وحتى نهاية عام 2019 بلغ مجموع الجثث المنتشلة 5524 جثة، منها 2872 جثة مجهولة الهوية، و2652 جثة معلومة الهوية.

يؤكد حازم أن ملف الجثث لم يُغلق؛ فطالما هنالك أنقاض ومنازل مدمرة في مدينة الموصل فهذا يعني أن الجثث لا تزال موجودة، ويضيف: “المنطقة الواقعة بين سوق الشعَّارين والجسر الخامس في المدينة القديمة هي المنطقة التي شهدت آخر المعارك بين القوات الأمنية وتنظيم داعش، فكان هناك قتال عنيف، وقصف بالطائرات، وهي أكثر المناطق المدمرة، ولا تزال الجثث فيها تحت الأنقاض”.

الجانب الأيمن | المدينة القديمة، الموصل

حازم يقرّ بأن الدولة لا تملك إمكانات لإزالة الكميات الهائلة من الأنقاض والركام في مدينة الموصل: “عملنا كلجنة انتشال الجثث وبالتعاون مع بلدية الموصل والدفاع المدني ودائرة الطب العدلي، كان يرتكز على انتشال الجثث الظاهرة، وبسبب قلة الإمكانات وعدم القدرة على إزالة الأنقاض فإن الجثث غير الظاهرة لم نستطع انتشالها بعد”.

منطقة القليعات، أقدم مناطق مدينة الموصل، سَكَنها الآشوريون بعد سقوط إمبراطورتيهم (عام 612 ق.م) على يد الميديين والكلدانيين، وأسسوا فيها ملكهم الصغير، بعدما خسروا ممالكهم وزعامة العالم القديم. حدثت في هذه المنطقة الأثرية الواقعة على ضفاف نهر دجلة الذي يشطر الموصل إلى جانبين، آخر معركة بين التشكيلات العسكرية العراقية (جيش وشرطة) وتنظيم “داعش”، في معركة طاحنة تُعرف عند الأهالي باسم “معركة الميل الأخير” هناك حيث تجمَّع من بقي من مقاتلي التنظيم وعائلاتهم، إضافة إلى المدنيين من سكان تلك المنطقة الذين لم يستطيعوا الخروج وظلوا محاصرين، واستخدمهم “داعش” دروعاً بشرية في معركته من أجل البقاء في المدينة.

500

عدد الجثث التي انتشلها الدفاع المدني وتعود بغالبيتها لنساء وأطفال

القليعات اليوم أصبحت أثراً بعد عين، دُمرت بالكامل، سواء بالقصف المدفعي لقوات الأمن العراقية، أو بغارات قوات التحالف الدولي، الذي كان يدعم العراق في حربه ضد “داعش”، أو بالألغام والقنابل التي غرسها التنظيم في المنازل والشوارع. 

من المنطقة الأثرية وحدها انتشل الدفاع المدني 500 جثة غالبيتها لنساء وأطفال، لكنّ تَوقُف البحث وانتشال الجثث جعل القليعات مقبرة جماعية كبيرة لمئات أو ربما لآلاف الجثث التي ما زالت هناك، ولا تستطيع فرق الدفاع المدني وبلدية الموصل انتشالها بسبب الركام الهائل في المدينة القديمة.

من القرارات التي اتخذها محافظ نينوى الأسبق نوفل العاقوب، الذي أُقيل من منصبه بتهم فساد وسوء إدارة، كان طمر القليعات وتسويتها بالأرض، وعرضها لاحقاً للاستثمار. وبالفعل توجهت الجرافات والمعدات الثقيلة إلى هناك، وطحنت رفات الموتى وطمرتها مع التاريخ الممتد بعيداً في أرض الموصل.

جثة منتشلة من الركام في مدينة الموصل

ذهبنا إلى أربيل حيث يقيم محافظ نينوى الأسبق نوفل العاقوب للقائه وأخذ شهادته عن قرار طمر منطقة القليعات الأثرية بما فيها من جثث، لكنه رفض مقابلتنا، وامتنع عن الرد على اتصالاتنا. لذا توجهنا بأسئلتنا إلى حازم، الذي برر قرار طمر القليعات بتوجيهات من الحكومة المحلية في نينوى بإعادة الحياة إلى المدينة وفتح الطرق، وأضاف: “كانت المدينة القديمة على ضفاف نهر دجلة، وكان يمر فيها شارع وسطي، وبسبب الدمار الكبير لم تكن معالم هذا الشارع واضحة، لذا جاءت التوجيهات من السلطة المحلية في المحافظة بفتح هذا الشارع وبالتالي كان لا بد من ردم تلك المنطقة”.

ولدى سؤالنا عمَّن يتحمل مسؤولية ردم تلك المنطقة، قال حازم: “إن المدينة قديمة ومتهالكة والأزقة ضيقة جداً، بعضها يبلغ عرضه متراً أو مترين أو ثلاثة أمتار على أكثر تقدير، لذا لم يكن أمام الآليات والجرافات سوى الدخول وبالتالي حدثت عمليات الردم في تلك المنطقة”.

تحدثنا مع رئيس لجنة انتشال الجثث المهندس دريد حازم عن شكاوى الناس ومعاناتهم التي ما زالت قائمة حتى الآن، مع انتشار الجثث والهياكل العظمية والأشلاء في الأحياء السكنية، لكنَّه قلل من تأثير وجود الجثث قائلاً: “بالمعنى الصحيح لا وجود للجثث، هنالك هياكل عظمية وأشلاء، أما الجثث فقد تحللت بمرور الوقت، وتأثيرها ليس كما يدَّعي المواطن، أما انتشالها فيتطلب جهداً كبيراً جداً، فالمدينة القديمة دُمرت بنسبة 95 في المئة وتحولت إلى ركام وأنقاض، لذا رفعها وانتشال الأشلاء منها والهياكل العظمية ليس بالسهولة التي يظنها المواطن”.

سوق السرج خانة، الجانب الأيمن | المدينة القديمة، الموصل

عند خروجنا من مكتب رئيس لجنة انتشال الجثث، تجولنا لبعض الوقت في شوارع المدينة القديمة في الموصل، وتحدثنا بشكل عشوائي مع شخصين اثنين، أحدهما عمر محمد (35 سنة) يسكن في منطقة المكاوي في المدينة القديمة. سألناه عن انتشار الجثث فرد: “المدينة القديمة مملوءة بالجثث، رائحة كريهة، وأمراض، والدفاع المدني من واجبه انتشال هذه الجثث، عليه أن يُكمل واجبه، هنالك مناطق مثل المكاوي والحضيرة ورأس الكور والميدان والقليعات، كلها مملوءة بالجثث، هنالك جثث مغطاة بالبطانيات ورائحتها كريهة”.

صامد صالح (43 سنة) سألناه إن كان من سكان المدينة القديمة فأجاب: “كنت أسكن في المدينة القديمة، وأريد العودة، لكن كيف لي أن أعود؟ هناك جثث متفسخة ورائحة كريهة، وأمراض، ماذا يفعلون؟ ينتشلون جثة؟ أو جثتين؟ أو مئة؟ المدينة القديمة ما زالت تعج بالجثث، كلها تحت الأنقاض، هذه جريمة، وحتى من يريد العودة إلى بيته فكيف يعود؟ هل يعود ليعيش فوق الركام؟ على الحكومة أن تتحرك وبأقصى سرعة، لانتشال الجثث وإعادة الناس إلى منازلهم”. سألنا صامد عن رأيه بما قاله مدير الدفاع المدني عن أن ملف الجثث في مدينة الموصل قد أغلق وأنجز بالكامل، فقال: “لا، غير صحيح، الآن مررت من إحدى المناطق وكانت رائحة الجثث قاتلة لشدتها”.

27 ألف جثة في مدينة الموصل

هناك تكتم كبير على أعداد الضحايا في معركة الموصل، سواء من قبل الحكومة الاتحادية ومؤسساتها في بغداد أو من قبل الحكومة المحلية ودوائرها في محافظة نينوى، فلم نستطع الحصول على أرقام دقيقة حول أعداد الضحايا في مدينة الموصل، سواء أعداد القتلى أو الجرحى أو المفقودين، أو جميعهم. وفي كل دائرة ندخلها، أو عند لقاء مسؤول كبير على صلة بملف الجثث والخسائر لنسأل إن كان هنالك أي قاعدة بيانات للضحايا والخسائر يمكن تزويدنا بها، يكون الجواب في كل مرة: للأسف، لا نمتلك قاعدة بيانات.

بعكس التكتم على أعداد الضحايا من المدنيين، لم تتردد خلية الإعلام الحربي التابعة للحكومة العراقية في إعلان عدد القتلى في صفوف تنظيم “داعش” خلال معركة الموصل، وكشفت أن القوات الأمنية العراقية بصنوفها وتشكيلاتها كافة، قتلت 30 ألف مقاتل من “داعش” في معركة الموصل التي استمرت 9 أشهر.

لافتة مكتوب عليها “هنا مقبرة داعش” في مدينة الموصل

وفقاً للأرقام الرسمية التي أعلنتها السلطات العراقية -سواءٌ المركزية في بغداد أو المحلية في محافظة نينوى- وبحسابات رياضية بسيطة فإنَّ 5524 جثة منتشلة من المدينة (بحسب ما كشفه لنا رئيس لجنة انتشال الجثث المهندس دريد حازم) ضمنها 2872 جثة تعود لتنظيم “داعش”، فحين نطرح 2872 جثة من 30 ألف مقاتل من “داعش” قتلتهم القوات الأمنية العراقية (بحسب ما أعلنته خلية الإعلام الحربي) نجد أن هناك 27128 جثة لمقاتلي تنظيم “داعش” ما زالت لم تنتشل في مدينة الموصل.

في 19 تموز 2017، حصلت صحيفة “الاندبندنت البريطانية” على تقرير سري للاستخبارات الكردية في إقليم كردستان العراق، وكان يتضمن حصيلة غير معلنة للضحايا المدنيين في معركة الموصل. وبحسب التقرير السري فإنَّ عدد القتلى في صفوف المدنيين بلغ أكثر من 40 ألف قتيل، وهو أعلى بكثير من الأرقام التي أعلنتها الحكومة العراقية.

التقرير الذي نشرته الصحيفة تضمن مقابلة خاصة مع وزير المالية العراقي الأسبق (2014-2016) والقيادي الكردي هوشيار زيباري، الذي أكد الرقم الذي أعلنته الاستخبارات الكردية، وذكر أنَّ “سقوط أكثر من 40 ألف مدني قتيلاً كان نتيجة للقوة النارية الضخمة التي استخدمت ضدهم أثناء تحرير المدينة، لا سيما من جانب قوات الشرطة الاتحادية العراقية، والغارات الجوية، ومقاتلي داعش أنفسهم”. 

زيباري، هو أحد أبناء مدينة الموصل، وشغل أيضاً منصب وزير الخارجية (2004-2014) قال إنَّ القصف المدفعي المستمر من قبل وحدات الشرطة الاتحادية، التي هي من الناحية العملية إحدى الوحدات العسكرية عالية التسليح، قد أسفر عن دمار هائل في المدينة وخسائر فادحة في الأرواح بخاصة في الجانب الأيمن (المدينة القديمة) للموصل.

حكايا المفقودين

إضافة إلى الدمار الهائل في مدينة الموصل، وانتشار الجثث، هنالك معركة المفقودين، فبحسب مجلس محافظة نينوى (المُلغى) هناك 5000 مفقود بسبب معركة استعادة المدينة من تنظيم “داعش”. وما يجعل الأمر في غاية الصعوبة والتعقيد في هذا الملف، هو أنَّ الحكومة المحلية لا تمتلك قاعدة بيانات خاصة بالمفقودين، ولا يُعرف مصيرهم؛ سواء كانوا مختطفين ومغيبين قسراً لدى تنظيم “داعش”، أو “ميليشيات الحشد الشعبي” التي شاركت في المعركة، أو معتقلين لدى القوات الأمنية العراقية، أو قد يكونون بين الجثث المنتشرة في الأزقة وتحت ركام المنازل.

في المرة الثانية التي زرنا فيها أم محمد في حيِّ الشهوان، حدثتنا عن رجل اسمه رياض، وكان بيته آخر بيت أشارت إليه قبل أن تدخل بنوبة بكاء حزناً على جيرانها الذين قتلوا وتحوَّلت منازلهم إلى كومة من الركام ثم سويت بالأرض. “هذا بيت رياض” ثم أشارت إلى أرض كأنْ لم يمرَّ عليها إنسان من قبل: “أبو عبيدة الورد، والله لا يوجد مثله في الموصل كلها، كان أبو عبيدة يعدل الدنيا كلها، لكن هذا هو حال الدينا”. سألنا أم محمد عن مصير رياض فقالت: “خلال معركة التحرير جاءهُ مقاتلو داعش، أخذوه لأنه منتسب في الشرطة ولا نعرف مصيره حتى الآن”.

من خلال أم محمد تتبعنا عائلة رياض، وبعد أيام من البحث استطعنا الوصول إلى العائلة، التي لم تعد إلى حيِّ الشهوان منذ نزوحها خلال معركة استعادة الموصل من تنظيم “داعش”. عائلة رياض تسكن الآن في بيت صغير مستأجر في الجانب الأيسر لمدينة الموصل، ولا تمتلك سوى الأمل الذي يصغر كلما كبر أبناء رياض وهم ينتظرون العثور على والدهم حياً أو ميتاً.

عبيدة رياض (25 سنة) الابن البكر لرياض، لا ينفك يقلب عشرات الصور التي ما زال أفراد العائلة يحتفظون بها، صور لوالدهم رياض مع أصدقائه، وصور له معهم وهم أطفال، يتذكر عبيدة تفاصيل اختطاف والده من تنظيم “داعش”: “والدي المفقود رياض فوزي، اختطفته عصابات داعش الإرهابية بتاريخ 12-4-2017 الساعة الثامنة مساءً، كان والدي ينتظر القوات الأمنية يوماً بعد آخر، ويتمنى تحرير مدينة الموصل، لكي يلتحق بالقوات الأمنية”.

عبيدة رياض يؤشر على صورة أبيه الذي اختطفه تنظيم “داعش”

يتحدث عبيدة عن لحظة اختطاف مقاتلي “داعش” والده: “جاءت عصابات داعش إلى بيتنا، وسألوني عن والدي فقلت لهم أبي غير موجود في البيت، لكنهم دخلوا إلى البيت وكان أبي هناك، وأخبروه أنهم يعرفون أنه في الشرطة، فطلبوا منه إعلان توبته، وضغطوا عليه للحصول على شريحة الاتصال الخاصة بجهازه المحمول، ومن ثم فتشوا البيت بحثاً عن الشريحة، وعندما لم يعثروا عليها أخذوه وقالوا له سنأخذك للاستفسار منك وحسب، ومنذ تلك اللحظة لم يعد أبي، ولا نعرف أي معلومة عنه”.

“كان أبي يفعل الخير دائماً للمنطقة التي نسكن فيها، الجميع يعرفونه ويحبونه، الآن إذا سألت أي شخص من حيِّ الشهوان عن رياض، عنصر الشرطة وصاحب سيارة الكورولا البيضاء، سيعرفونه على الفور ويثنون عليه” يقول عبيدة، ثم يبتهل بالدعاء من أجل أن يعود والده.

لا يعرف عبيدة وإخوته ووالدتهم شيئاً عن والدهم. يروي الابنت المفجوع  أخباراً يسمعها مفادها أنَّ بعض المختطفين لدى تنظيم داعش حررتهم القوات الأمنية وأخذتهم إلى مطار المثنى في بغداد، أو إلى سجن الحوت في مدينة الناصرية جنوب العراق، أو ربما لا يزال المختطفون في السراديب التي كان يضعهم فيها التنظيم خلال اختطافهم، وتأمل العائلة بأن يكون رياض واحداً من أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة.

تعيش العائلة المكونة من خمسة أشخاص وضعاً معيشياً صعباً، فعبيدة اضطر إلى ترك الدراسة، وعمل حداداً في تسليح البناء لإعالة والدته وإخوته، ويشكو عبيدة من تردي الوضع الاقتصادي في مدينة الموصل، والركود الذي يجتاح المدينة الخارجة من الحرب، فهو يتقاضى كل أسبوع 30 ألف دينار عراقي (25 دولاراً أميركياً) أي في اليوم الواحد 3.5 دولار. وما زاد الأمر سوءاً على عائلة رياض، هو أنهم فقدوا كل شيء خلال معركة الموصل، يقول عبيدة: “أبي اختطفه داعش، وبيتنا دُمر ولم يعد موجوداً أصلاً، وخسرنا سيارتنا أيضاً، وعندما خرجنا من حي الشهوان لم نكن نمتلك سوى ملابسنا التي نرتديها، لكن ذلك يهون مقابل أن يعود أبي، ونعرف مصيره”.

عبيدة لم يخرج سالماً من الحرب، فخلال حديثنا معه عن المصاعب التي يواجهها قال: “إضافة إلى أنني تركت الدراسة وأعمل لإعالة أسرتي، فأنا أيضاً مصاب، لقد أُصبت في بطني وقدميَّ بالقصف خلال معركة الموصل، وعندما أمشي أشعر بأن قدميَّ تصبحان ثقيلتين”.

عبيدة وأحمد يقلِّبان صور أبيهما على الهاتف

أحمد (12 سنة) هو الابن الأصغر لرياض، عندما اختطف مقاتلو “داعش” والده كان عمره 8 سنوات، وهو يتذكر ويفتقد وجود أبيه الذي يقول عنه: “كان يأخذني معه في السيارة إلى مدينة الألعاب، وغابات الموصل السياحية، ويشتري لي كل ما أريده، إنني أفتقده عندما أرى الآباء يأخذون أبناءهم إلى المدرسة، وأنا أذهب وحدي، وأفتقد وجوده وحضنه، لو كان أبي معنا لم أكن أتردد بطلب المال منه لشراء بعض الأشياء. أما أخي عبيدة فلا أستطيع أن أطلب منه لأنني أعرف أنه لا يمتلك المال الكافي لإعالتنا، ولا أريده أن يحزن عندما أطلب منه ولا يستطيع توفير المال لي”.

بعد استعادة مدينة الموصل من “داعش”، حاولت عائلة رياض الذهاب إلى حيَّ الشهوان بحثاً عنه بين الجثث التي كانت تملأ شوارع المدينة القديمة، يقول عبيدة: “لم تسمح لنا القوات الأمنية بالدخول إلى حي الشهوان إلا بعد 6 أشهر من تحريره. كانت الجثث تملأ المكان، وكلها كانت متفسخة، لا نعرف لمن تعود هذه الجثة، لذلك كان من الصعب العثور على شيء يخص أبي”.

الجثث في كل مكان

في الفترة التي كان أبناء رياض يبحثون عنه بين الجثث في المدينة القديمة في الموصل، كانت سرور الحسيني تقود فريقاً من 6 أشخاص، مهمتهم البحث عن الجثث وانتشالها من بين الركام، كان الفريق الذي تقوده الحسيني هو الفريق الوحيد التطوعي، والمكون من نشطاء مدنيين أخذوا على عاتقهم المخاطرة بحياتهم لإزالة آثار الموت عن وجه المدينة.

قابلنا سرور الحسيني في مدينة الموصل، وحدثتنا عن بداية عملها في انتشال الجثث، تقول الحسيني: “في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 كانت لدينا زيارة إلى المدينة القديمة في الموصل، ورأينا الجثث بأعداد كبيرة، فبدأنا على الفور إطلاق مناشدات إلى دوائر البلدية والصحة والدفاع المدني، واستغرق الحصول على موافقات رسمية لانتشال الجثث مدة شهرين، وبدأنا في كانون الثاني/ يناير 2018”.

تقول الحسيني إن الخوف على المدينة وأهلها هو ما دفعهم إلى خوض هذه التجربة الصعبة، وتضيف: “عندما رأينا آلاف الجثث في الشوارع وتحت الركام، خشينا من وباء محتوم قد يضرب المدينة، فمن لم يمت بسبب داعش قد يموت بسبب هذا الوباء، وكان على الناس العودة إلى المدينة أولاً وأخيراً، ولكن يجب ألا يعودوا مع وجود هذه الجثث”.

كشفت لنا سرور الحسيني أنها وفريقها انتشلوا أكثر من 1000 جثة، وزودتنا بفيديو تظهر فيه مع فريقها خلال انتشالهم الجثث من المدينة القديمة في الموصل، وذكرت الحسيني أن بعض الجثث المنتشلة لم تكن كاملة، بل كانت عبارة عن أشلاء، أجزاء من اليد أو الرأس أو بقية الجسد، وكانت الصعوبة بحسب الحسيني تكمن بتقييد هذه الأشلاء؛ هل تُسجَّل جثة كاملة أم جزءاً من جثة.

فريق سرور الحسيني ينتشلون الجثث من مدينة الموصل

سألنا الحسيني عن مصير تلك الجثث التي انتشلها فريقها، وإن قاموا بدفنها، وأين، لكن الحسيني أكدت لنا أن عملهم كان يقتصر على انتشال الجثث وتسليمها: “لم تكن مهمتنا دفن الجثث، عملنا في البداية كان مع دائرة بلدية الموصل، ثم بعدها صار التعاون مع دائرتي البلدية والطب العدلي، وكنا ننتشل الجثث من تحت الركام ومن السراديب والشوارع والأماكن التي نستطيع انتشال الجثث منها من دون آليات، ثم نضعها في أكياس خاصة، ونغلق تلك الأكياس ونخرجها من تلك المناطق إلى الشوارع، وتحديداً إلى منطقة تستطيع المركبات الدخول إليها، بسبب كثرة الركام، ثم بعد هذه العمليات تأتي دائرة البلدية لاستلام الجثث التي انتشلناها، لإتمام إجراءات الدفن”.

عن آليات انتشال الجثث التي كان الفريق يتبعها تقول الحسيني: “أكبر ثلاثة أشخاص عمراً في الفريق، وهم أنا وزوجي وصديقنا مهند، كنا ندخل إلى البيوت التي فيها الجثث، من خلال شم الرائحة، أو يدلنا أحد السكان على مكان الجثث، كذلك كان معنا جنود من الفوج السابع في الجيش العراقي، وأحيانا كان يأتي معنا جنود من قيادة عمليات نينوى، وكان جهاز الاستخبارات يرافقنا باستمرار، كنا ندخل البيت أو المكان نحن الثلاثة الأكبر عمراً لتأمين الطريق من المتفجرات، لأن العائق الكبير الذي كنا نواجهه هي الجثث المفخخة، لذا عندما نجد جثة مفخخة لا ندع الفريق يقترب منها، لأن بقية أعضاء الفريق كانوا صغاراً في السن. وبعد معالجة الأمر، نتواصل مع الآخرين من خلال جهاز إرسال لاسلكي، ثم يأتون ومعهم الأكياس إلى مكان الجثث، وبعد وضع الجثث في الأكياس وإقفالها تُخرَج الجثث إلى الشارع ثم تأتي مركبات البلدية لأخذها”.

سرور الحسيني خلال انتشالها الجثث من مدينة الموصل

إضافة إلى معركة انتشال الجثث، خاضت سرور الحسيني معركة قضائية مع محافظ نينوى حينها نوفل العاقوب، وكان سبب الخلاف الأساس هو الجثث غير المنتشلة في المدينة القديمة في الموصل، حيث كان ينفي المحافظ الأسبق وجود أي جثث هناك.

سرور الحسيني حدثتنا عن لحظة الاحتكاك الأولى مع المحافظ الأسبق نوفل العاقوب: “في إحدى المرات حين كنا ننتشل الجثث، رافقنا فريق من قناة DW الألمانية لمدة يوم كامل، وبعدها اتصل بي جعفر (مقدم برنامج شباب توك على القناة نفسها) وقال لي نريد استضافتك للحديث عن الجثث، فوافقت على ذلك وذهبت. وقبل تصوير الحلقة بدأ جعفر تعريفنا ببعضنا بعضاً، كان من بين الضيوف نوفل العاقوب، وعندما عرفه جعفر إليَّ وقال إن لديَّ فريقاً لانتشال الجثث، غضب المحافظ الأسبق واتهمني بأنني كاذبة ونفى وجود أي جثث في الموصل”.

الحسيني ذكرت لنا أنه وبعد المشادة الكلامية بينها وبين العاقوب خلال تصوير الحلقة التلفزيونية، استدعتها قيادة عمليات نينوى (أكبر تشكيل عسكري للجيش العراقي في محافظة نينوى) لإجراء تحقيق معها حول ملابسات ما حدث مع العاقوب. وأضافت: “بعد التحقيق برّأنا قائد عمليات نينوى اللواء نجم الجبوري (محافظ نينوى الحالي) بعدما عرف طبيعة عملنا التطوعي ومساندة بلدية الموصل والطب العدلي في انتشال الجثث”.

تقول الحسيني أنها فوجئت لاحقاً بأن العاقوب رفع ضدها قضية في محكمة تحقيق الموصل، وتواصل سرد حكايتها: “تأجلت محاكمتي أكثر من مرة، وأُحلتُ إلى محكمة الجُنح وخرجت بكفالة قدرها 5 ملايين دينار عراقي (4200 دولار أميركي)، ثم وبعد مرور سنة على الدعوى القضائية هذه وعلى هامش معرض أربيل للكتاب، الذي كنت ضيفة فيه لتسليط الضوء على عملي في انتشال الجثث، فتحت الصحافة ملف الدعوى القضائية المقامة ضدي من قبل المحافظ. وانطلقت حملة تواقيع من صحافيين وإعلاميين للإفراج عني وأصبحت قضيتي هذه، قضية رأي عام في العراق، وبعدما تقدمت للمحاكمة أفرج القاضي عني لعدم كفاية الأدلة”.

استطعنا الحصول من سرور الحسيني على وثيقة المحكمة وقرار القاضي بالإفراج عنها، وأخبرتنا الحسيني أن فريقها بدأ بستة أشخاص لكنه توسع ليصبح 40 متطوعاً من شباب وفتيات مدينة الموصل، ساهموا جميعهم في انتشال الجثث من أحياء المدينة القديمة.

بحسب الحسيني، فإن أحياء القليعات والميدان كانت تحتوي على العدد الأكبر من الجثث، وتؤكد: “حي القليعات كان مدمراً بالكامل، وهو كان آخر معاقل داعش وهناك حدثت المعركة الأخيرة، كان القصف على تلك المنطقة شديداً، وكانت العمليات العسكرية عنيفة، لذا كانت جثث القتلى بأعداد كبيرة هناك”.

الحسيني توضح لنا أيضاً أنه لم تزل هناك جثث بأعداد كبيرة لم تنتشل حتى الآن، وهي لا تزال تحت الركام، وتضيف: “قبل شهر من الآن كنا في زيارة إلى المدينة القديمة (الجانب الأيمن لمدينة الموصل) وكانت العظام والأشلاء البشرية ما زالت منتشرة هناك، لا أمتلك رقماً دقيقاً للجثث المتبقية في المدينة، لكنها كثيرة، ولا نملك المعدات اللازمة أو الوسائل التي تمكننا من معرفة العدد الحقيقي للجثث غير المنتشلة من الموصل”.

معركة أخرى… 40 ألف كلب سائب في الموصل

زيادةً في المأساة، يخوض الأهالي في الموصل معركةً إضافية على جبهة أخرى داخل المدينة. إنها معركة مع الكلاب السائبة. ففي الموصل قرابة 40 ألف كلب سائب، بحسب ما كشفه لنا الدكتور عدي شهاب العبادي مدير المستشفى البيطري في مدينة الموصل، هذه الكلاب تتجول في جانبي المدينة الأيمن والأيسر، ناشرةً الخوف والأمراض معاً.

الدكتور العبادي ذكر لنا أيضاً أن الموصل تسجل ما متوسطه 1000 عضة كلب شهرياً، وقال إنَّ أول حملة لمكافحة الكلاب السائبة انطلقت أو آخر عام 2019، أي بعد سنتين من استعادة المدينة من تنظيم “داعش”، وخلال تلك الفترة ظلت الكلاب السائبة تتكاثر وتتغذى على الجثث المنتشرة في الموصل.

خلال حديثنا مع الدكتور العبادي حكى الطريقة التي اتبعتها السلطات المحلية في المدينة للتخلص من الكلاب السائبة، وكانت من خلال طعوم تُرمى للحيوانات وتنهيها، وبحسب الدكتور العبادي فإنَّ هذه الطريقة سليمة ولا تؤثر في المجتمع.

جثة منتشلة من الركام في مدينة الموصل

في العراق ينص قانون مكافحة الكلاب السائبة رقم (48) لسنة 1986 المادة (6) على أن: “تكافح الكلاب السائبة في الطرقات العامة، وخارج المنازل في المدن والقصبات والمناطق الريفية بالقتل أو القنص أو أية طريقة أخرى. ولوزير الزراعة إصدار تعليمات بناءً على اقتراح الدائرة المختصة لتنظيم ذلك”. وفي المادة الثانية من القانون: “تتولى الجهات المختصة جمع الكلاب الهالكة، والتي تهلك بالمكافحة، وحرقها في أماكن بعيدة تخصص لهذا الغرض”.

في الحدائق العامة، وفي الشوارع، وفي البنايات الخربة، وتحت ركام المدينة القديمة، هناك كلاب سائبة، تهاجم المارة، وتقتحم المنازل، مسببةً إصابات تكون أحياناً مميتة؛ فكلاب الموصل وباءٌ إضافي، ومشكلة تزداد تعقيداً يوماً بعد آخر، وانتشار الجثث في المدينة فاقم العقدة.

الصور لـ قاسم الزبيدي ومحمد سالم

أنجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة “كانديد”