fbpx

“رحلة البحث عنّي”: من “قاصر هربانة” تلاحقها الشرطة إلى “راشدة مستقلة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بيروت عندما تفتح لي أبوابها ترمقني بنظراتها المفعمة بالأمومة الثانية. أمدّ رأسي من شبّاك السيّارة سامحةً لنسمات المدينة الرطبة بأن تراقص شعري الحرّ بمطلق حريتها، نسمات تشبهني حرّة وجامحة ومن دون هويةٍ واضحة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


29 تموز/ يوليو 2020، مخفر زحلة. 

يسألني المحقق في شعبة المعلومات في زحلة، وذلك عند الإدلاء بإفادتي: “ما الذي دفعك للهرب؟!”.

تستوقفني كلمة “الهرب”. فأنا لم “أهرب”، إنما اخترتُ العيش منفصلة عن منزل أفراد أسرتي وأبلغتهم ذلك في رسالة ورقية. اللافت أن شيئاً في التعامل معي قد تغيّر، بعدما أمضيت 18 يوماً في خطر وخوف دائمين من القوى الأمنية، لأنني كنت ما زالت قاصراً، وبالتالي يحق للدولة البحث والتحري عني واقتيادي إلى المنزل ببساطة، وبذلك تنعم عائلتي بغسل شرفها وعارها. إلاّ أنه بين “قصورٍ” و”رُشدٍ”، بتُ أحظى باحترامٍ وبكيانٍ مُعترَف بإرادته لأنني حصلت على أهليتي القانونية والمدنية، والتي استخدمتها للمرة الأولى بتوقيع توكيل قضائي لمحاميتي ديالا شحادة، التي رافقتني إلى شعبة المعلومات في زحلة وأزاحت عني شبح الملاحقة وأوهامها وساعدتني على تحصيل أمني وحقي القانوني بالاستقلال والاعتراف بإرادتي الحرّة. 

يبدو غريباً أن تحتفل فتاة بعيدها الثامن عشر في المخفر، حيث يُنظَر إليها كمطلوبة هاربة من العدالة، تلاحقها نظرات الشّك والاستهجان… لكنني لم أخف قط.

قال لي المحقق عند رؤيتي: ” إنتِ بتول ما غيرها يلي شغلتينا فيكي شهر”، أجبت: “إيه ما غيرها يلي وقفتوا كل أشغالكم المهمة كرمالها”.

وفي حديث متشعب وطويل يسوده جوٌ من المساءلة، أُقفل المحضر المزعوم، وأُقفلت بالتزامن معه آخر سلطة “قانونية” لهذه المنظومة الأبوية-الاجتماعية- السياسية عليّ، وتمت تبرئتي “قانونياً” من “جريمة الفرار” غير الموصوفة.

20 تموز 2020 يوم الانعتاق الثاني من قيد “القاصر”

إنَّهُ العشرين من تموز 2020، يوم ميلادي الثّامن عشر، يوم تحرّري من لقب “القاصر المخطوفة” أو “القاصر الهربانة”، وتحولي إلى “راشدة”، حائزةً أهليتي القانونية الكاملة في مواجهة سلطة مجتمعي الأبوية غير القانونية. كيف تكون قانونية فيما يكفل دستوري المساواة بين الناس أمام القانون من دون تمييز بين النساء والرجال؟ أما مجتمعي الأبوي فتتضافر جهود مكوّناته من عشائر وأحزاب ورجال أمن لإرغام ابنة الـ18 سنة على العودة إلى منزل أبيها، فيما لا تلتفتُ لابن الـ18 سنة إذا فعلَ مثلها.

إنّه يوم فخري بتحرري، وفكّ قيد الموروثات الذي لفّ عنقي منذ الطفولة، يوم قررت أن أعيش بمفردي، الذي هو حقّ مطلق لأي إنسان راشد بعيداً من أي محاولات لقمع نموّه سياسياً ودينياً وفكرياً وحتى اقتصادياً، وهي حقوق كرسها لي دستوري في مقدمته.

يغبطني وصول هذا اليوم بعد ترقبي إياه منذ 18 يوماً. وبينما تفترض كلاسيكياً هذه المناسبة سلسلة من المعايدات والتمنيات، يبدأ يومي هذا، وبصورة إستثنائية، بتهافت آخر الأنباء المؤرقة عن بعض أصدقائي ورفاقي في الحزب الشيوعي الذي اعتقلت القوى الأمنية أحدهم تعسفياً، وعن آخرين ممن طاولتهم تهديدات وتوعدات عشوائية من قِبل أفراد من عائلتي الممتدّة، لا أظنهم يعرفون سنوات عمري ولا علاماتي الدراسية ولا لون عينيّ ولا أحلامي. المفاجئ أن بينهم من ينتمي إلى “حزب الله”، فاستخدمَ انتماءه هذا وقياداتٍ في الحزب لتصعيد المطاردة والوعيد، بما في ذلك التشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي بلهجة عدائية تحريضية، وقد جاهر هؤلاء بسفك دمي بحجة “انتهاكي شرف العائلة والضيعة وعرضهما”، كل ذلك لأنني قررت العيش منفصلةً عن أهلي.

2 تموز 2020 “يوم الانعتاق الأول” من قيد الأسرة 

أنتظر سيارة الأجرة التي ستقلني من ساحة قريتي البقاعية إلى بيروت، حاملةً حقيبة ظهري الممتلئة باحتياجاتي الضرورية وشهاداتي الدراسية وبضع أوراق ثبوتية عزمت على تجميعها للرحيل أو “الهرب” كما سموه. منتفضة، ممتعضة في داخلي على المنديل الأسود الداكن الذي “يستر” شعري، غير آبهة بسائق الأجرة الذي صُدم حين رآني أخلع حجابي داخل السيارة، وغرق في ثرثرات وعظات إيمانية طويلة. كنت أتلفّت يمنة ويسرة طوال الوقت، خوفاً من أن تفشل خطتي التي أعددت لها منذ زمن، ولم أكن أدرك المصائب التي تتعقّبني. 

المدونة بتول يزبك

بيروت عندما تفتح لي أبوابها ترمقني بنظراتها المفعمة بالأمومة الثانية. أمدّ رأسي من شبّاك السيّارة سامحةً لنسمات المدينة الرطبة بأن تراقص شعري الحرّ بمطلق حريتها، نسمات تشبهني حرّة وجامحة ومن دون هويةٍ واضحة. 

وإيماناً منّي بحق الإنسان بالاستقلال عن الأسرة التي لا يشعر فيها بالقدرة الكاملة على النموّ بحرية، ولربما بالمسّ بكرامته كإنسان، قررت لحظة وصولي إلى محطتي الأولى أن أهاتف جمعيات حقوقية ونسوية، للحصول على الحماية من سخط أسرتي. هذا السخط الذي قفز من هلع المفاجأة والغضب إلى الوعيد بغسل شرفهم واعتباري عاراً على العائلة وملاحقة أصدقائي جزائياً بجرم “الخطف” تارة، ثم الزعم بـ”هربي مع شخص بغية الزواج” طوراً، وما إلى ذلك من سيناريوات كلاسيكية تظهر كلما حاولت أي امرأة التغريد خارج سربها، فيتنطّح ذكور “عشيرتها” حتى أولئك الذين بالكاد يعرفونها، يهددون بقتلها والتشهير بها. إلا أنني وبرتابة كنتُ أجابَه بالاعتذار نفسه: “بعتذر ما فيّي ساعد بهيدا الوضع لأنو مش ضمن إطار عملنا وخاصة إنك ما بلغت السّن القانوني، إذا ع بالك فيني حوّلك لعند أقرب مخفر”.

كل ذلك إلى أن تحررتُ من قيد القاصرين، ودخلت سنّ الرشد القانونية التي لم يفصلني عنها سوى بضعة أيام؛ وأثناء ذلك، كدتُ أفقد الأمل بالنجاة من الخطر المتربص بي، الذي يتخلله بحث “المخفر” عنّي . وأنا في خضم هذه المشكلة كان لي الحظ الوافر بالنجاة إلا أن سؤالاً ملحاً كان ينتابني: ماذا لو وقعت امرأة أخرى في ظروف متشابهة؟ من كان سيساعدها ويحميها؟ بخاصة في ظلّ تماهي النظام الأبوي السياسي بالنظام الأبوي الاجتماعي اللذين يصبّان مباشرة في قالب ذكوري موّجه ضد المرأة، ناهيك بتراخي الجمعيات المعنية بالإنسان عموماً وبالمرأة خصوصاً، في الاستجابة الملائمة، وعدم توافر أجهزة جدية لحماية القاصرين وتحصيل أدنى حقوقهم قانونياً وأمنيّاً تجاه الأوصياء الشرعيين عنهم. 

البحث والتحري عن “القاصر المخطوفة”

بأمر صادر عن مفرزة بعلبك القضائية عُمم بلاغ بحث وتحري بحقي، عطفاً على رفع فرد من أسرتي دعوى قضائية بحق عدد من أصدقائي متهماً إياهم بخطفي، وذلك بعد يومين من مغادرتي منزلي حيث تركت رسالة توضيحية.

في 23 تموز، اعتقل عناصر مدنيون من شعبة المعلومات في زحلة أحد رفاقي الحزبيين من منزله عنوةً من دون سابق إنذار أو تبليغ، واقتادوه إلى مخفر زحلة بتهمة “اختطافي”، إلا أن التحقيق لم يفضِ إلى خواتيمه المُرادة المحبوكة ضمن إطار مؤامراتيّ بحت. إلى ذلك، تمّ توجيه تبليغات لصديقين لي من قبل شعبة المعلومات للحضور وتقديم إفادتهما بخصوص “جريمة خطفي”، واشتمل محضر الدعوى على اتهامات بحقهم، ومرد ذلك توجهاتنا السياسية المشتركة باعتبارها قرينة على “الخطف” أو على “التواطؤ للفرار”.

“حزب الله” والحرية الفردية “دونت ميكس”

بعد رحيلي بأسبوع تقريباً، دخل عناصر من اللجنة الأمنية التابعة لـ”حزب الله” في الجنوب، وبإشارة منه، بشكل عشوائي إلى منزل أحد رفاقي في “الحزب الشيوعي” الذي كنت منتسبة إليه، بحثاً عني، غير آبهين لأي نظام أو قانون أو مسار القضية القانوني. وتمّ تعميم اسمي بينهم وكأن من حقهم انتهاك حريتي وكذلك حرمة المنازل، باسترسال ومن دون أي خجل. ومردّ ذلك واضح وجليّ فأنا “محسوبة” على طائفتهم التي بتُ عاراً عليها لمجرد أنني اخترتُ العيش منفصلةً عن البيت الذي يعرقل نموي الفكري ومسيرتي في البحث عن خياراتي السياسية والدينية المختلفة. 

وفي خضم جلبة “حزب الله” الزاخرة بالاستفزاز والوقاحة، توافيني أنباء عن أن أفراداً من “الحزب التقدمي الاشتراكي” وبداعٍ مجهول الأسباب قد حملوا، هم كذلك، شرف إيجادي! فراحوا يبحثون جاهدين عني في مخيم حزبي “مزعوم” في الجبل. ناهيك بأحزاب صغرى أخرى تواصلت بكل وقاحة بعضها مع بعضها للبحث عن “الفتاة الهربانة من بيت بيّها”.

كيف لا يستفزني فعلهم هذا، أنا التي نادت بملء حنجرتها “كلن يعني كلن” في ساحات انتفاضة 17 تشرين، التي شاركت فيها، خلسة، خوفاً من المجتمع المتديّن والمتُحزّب الذي كانت مرغمة على العيش فيه؟ 

وعموماً فإنّ معظم محاولات العثور عليّ أو ربط الأشخاص الذين تم تداول أسمائهم كـ”مشتبه فيهم” في “جريمة خطفي/ فراري” من قبل عائلتي، بدأت بقالب سياسي/ اجتماعي قبل أن تنفلت منه عشائريته الأصلية. 

سوريالية المشهدية المنتصبة أمام عينيّ تستدعي تهكماً لا كنانة له. إن الإطار العام الذي يغلف مجريات البحث عنّي من هذه الأحزاب التي تحركت لإرجاعي مرغمةً إلى أسرتي، يطرح أسئلة حول هذه المنظومة الحافلة بالفساد والصدأ، والتي جمعها مجد الشرف والعرض. 

قماشة الجسد الملطّخ، يجب أن تُغسل

“العرض غالي يا…” / “هاي ****** أخدت عرضي معها وبدي لاقيها لأغسلو” / “إعتبرها حيوان ومات بس شرفي ما بخليه يموت هيك”…

يقول قريبٌ لي في المقاطع الصوتية المرسلة إلى والد أحد أصدقائي، صوتٌ ذكوريٌ خشن مُتقدٌ بالاستفزاز والتهديد، ينبعث من هذه المقاطع الطويلة والكثيرة، مفاده حلية سفك الدماء وغسل الشرف الذي “لطخته”. الشرف الذي انتهك بمجرد اتخاذي القرار بالعيش منفصلةً عن أهلي. 

مقاطع تحمل شعارات المنظومة التي حاربتها مذ قررت أن أعيش حريتي في المعتقدات الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية، هذه الحرية المقدسة لكل فرد التي تعلو ولا يُعلى عليها، والتي من جرّاء ارتهانها في كل مولود في لبنان تستمر هذه المنظومة السياسية التي تحكمنا بطمر المجتمع بتركيبتها الأبوية- السياسية- الطائفية الموجهة ضد الإنسان عموماً، وضد المرأة خصوصاً. حريتي المطلقة في النموّ والتعبير عن نفسي سياسياً ودينياً هي مُلكي وحدي ولن يخطفها مني تجار الشرف ما حييت. 

إذا قرر ذكرٌ بالغ، وإن لم يكن راشداً، أن يعيش منفصلاً عن أسرته، لا يخطر لأحدهم التوعد بقتله، بل تدور أسئلة عما سيمتهنه وعن دراسته وما إذا قررّ إكمال تحصيله العلمي. أما الإناث “الراشدات”، فلا يسأل أحد إذا اخترن الانفصال عن بيوت آبائهن إذا كن قادرات على الاستقلال مادياً أو إيجاد وظيفة مناسبة، وحده “الشرف” يطغى على الموقف.

أنا كامرأة لا يحق لي اختيار هذه القرارت، وممنوعة من العيش منفصلةً عن الأسرة، فالأسرة هي سقفي المطلق، وحتّى إن كنت أتعرض للإساءة والحطّ من كرامتي، لا يهمّ، فأنا رمز العرض والشرف المُصان بزنود ذكور العائلة.  

الاستقلالية مسؤولية وليست حقّاً وحسب. القانون اللبناني على خلاف القوانين المعتمدة في دول عربية أخرى نصّ على المساواة بين جميع الأفراد وضَمِن حقوقهم وحرياتهم شتى وأملى عليهم واجباتهم، من دون تمييز على أساس الجندر. وعلى رغم ذلك، فإن امرأة في مقتبل عمرها دائماً ما يفرض عليها تحدٍّ أصعب وأكثر حزماً من قرينها في المواطنة، وهو إثبات أن نجاحها في تحقيق استقلاليتها الشاملة، ممكن بصرف النظر عن النظرة الاجتماعية التي توّجه إليها والتي قد تعيق مساعيها أحياناً. إن حريتي واستقلالي وضعا على عاتقي مسؤولية التطور والتقدم كإنسان يسعى إلى التعلّم والعمل وإثبات نفسه كفرد واعٍ لحقوقه وواجباته وكرامته. 

عندها أبتسم ابتسامة عريضة، أبتسم نيابةً عن النساء جميعاً، أبتسم بنشوة انتصاري وانتصار اللواتي اخترن الطريق الأصعب إلى بناء هوياتهن.  

وإخلاصاً للواقع فإنني على رغم الأحداث آنفة الذكر، فرضت على أهلي قناعاتي بتمسكي بالقانون وبالتزامي بتبعات المسؤولية الجديدة، وبتحصيل استقلالي المادي، من دون أن يعني ذلك خسارتي بأي شكلٍ لأسرتي. لا يمكن أن يربح الإنسان أسرته في أي حال فيما يخسر نفسه. وقبول أسرتي بخيارياتي، المسؤولة، هو التعبير الفعلي عن الحب الحقيقي. 

أولى لحظات الحرية المطلقة

في طريقي من مخفر زحلة إلى بيروت أمد رأسي مجدداً من شباك السيارة سامحةً لنسمات بيروت الرطبة بأن تراقص شعري، نسمات بيروت تشبهني حرّة جامحة لا يتسلل إليها خوف أو ضعف، إنها مطلقةٌ لا يقهقرها عبث السلطة بكل أشكالها. عندها أبتسم ابتسامة عريضة، أبتسم نيابةً عن النساء جميعاً، أبتسم بنشوة انتصاري وانتصار اللواتي اخترن الطريق الأصعب إلى بناء هوياتهن.  

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.