fbpx

في ذكرى نادين… حرب المحاكم الدينية على النساء والأمومة ستخسر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحب المجتمع الذكوري أن يقترن اسم المرأة بالتضحية، فهي سمة كما يقال تميزها عن الرجل، لكن هذه السمة التي تلحق بالمرأة كتكريم لها، ليست سوى تسمية أخرى لعقاب فرض عليها…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تمر هذه الأيام ذكرى سنة على وفاة المناضلة النسوية نادين ماجدة جوني، التي توفيت قبيل اندلاع الانتفاضة اللبنانية. 

مؤسف أنه لم يتسن لنادين أن تعيش انتصاراتنا وانكساراتنا في هذه السنة المصيرية من تاريخ لبنان، والتي لم ندرك بعد خلاصتها ولا خلاصنا من كابوس العصابة الحاكمة التي لم تزل تصادر لقمة عيشنا وتهدد حياتنا على نحو يومي. 

في سيرة حياة نادين وموتها تذكير لنفسي أولاً وربما لآخرين بأن ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وإن لم تكن موجهة حصراً ضد الذكورية فإنها لن تكتمل بلا إسقاط هذه المنظومة الذكورية التي لم تزل مهيمنة، وهي جزء لا يتجزأ من المنظومة السياسية الأبوية التي نحاربها.

من يظن أن مجابهة الذكورية تختص حصراً بقوانين الأحوال الشخصية أو المطالبة بحقوق المرأة، فمحدوديته لا تمكّنه من رؤية أن حقوق المرأة تندرج ضمن حقوق الإنسان والفرد المنتهكة في هذا الوطن، وأنها جزء أساسي من المواطنية التي نطالب بها، ونسعى لإعادة بناء أسسها، وأن أبوية النظام الحاكم المتغلغة في التقسيم العشائري والطائفي، هي أيضاً عنصر أساس في معادلة إخضاع الشعوب.

نادين جوني

موت نادين المفجع وهي لم تزل تناضل من أجل حضانة ابنها، كان إحدى بدايات الغضب الشعبي الذي لم يعد بالإمكان احتواؤه ضد قوانين المحكمة الجعفرية وضد منظومة رجعية وفاسدة لم يعد بالإمكان التعايش معها.

لما وقفنا في اعتصامنا أمام المحكمة الجعفرية في عتمة الشارع بعد وفاتك، كلنا شعرنا بالاختناق في تلك الليلة نادين، أمهات أو غير أمهات، إحساسنا بالعجز كان يثقلنا. أخبرتني صديقتي المتزوجة في حينها أنها وعلى رغم ثقتها الكبيرة بزوجها، فالقلق لا يغادرها، فهي لا تملك ضمانة حتى لا تجد نفسها مكان نادين ذات يوم، فيُخطف ابنها من بين أحضانها، سوى كرم أخلاق زوجها. لا يمكن أن ترتبط حقوقنا البدهية ومنها الحق بالحضانة أو الطلاق وغيره، حصراً بحسن نية الآخر. كم هي هشة مصائرنا تلك التي تتحكم بها المصادفة أو كرم أخلاق الآخر الذي غالباً ما يمنننا بوهبنا ما هو حق لنا أساساً.

في سيرة الناشطة النسوية والمدنية نادين ماجدة جوني وفي وفاتها والظروف التي أحاطت بمراسم العزاء، الكثير مما يستوقفنا كنساء أو أمهات، لكن خصوصاً كأفراد ضمن هذه المنظومة التي تحكم حياتنا من المهد إلى اللحد. مثلاً أحد التفاصيل العابرة الذي قد نلاحظها أنه في ورقة نعوة نادين، غاب اسم أمها ماجدة، الذي كانت اختارته نادين ليتوسط اسمها الثلاثي على “فايسبوك”، وهو إجراء اعتيادي وليس على أهل الفقيدة أي حرج في اتباع ذلك التقليد الذي هو متوارث وفق المنظومة الأبوية التي نعيش فيها جميعاً. لكنه تفصيل يستنتج المرء أنه لم يكن عابراً بالنسبة إلى نادين، التي بسبب تفصيل آخر لا يتعدى ورقة بائسة وتوقيع قاض لم تكن هي في نظره سوى أم مطلقة تتبع الطائفة الشيعية، تم تغييبها من حياة ابنها. إنها تفاصيل عابرة صغيرة قد لا نتوقف عندها إلا حين تتقاطع مسيرتنا الفردية مع هويتنا الدينية الموروثة والقوانين التي تحكمها. وتجعلنا نستنتج أن الهوة للأسف كبيرة بين الاثنتين. من نكون إذاً؟ كيف نعيش؟ وأي رواية تحكى عنا ومن هم الرواة؟ في وفاة نادين تتقاطع هذه الأسئلة وغيرها، وإذ إنني اليوم أكتب عنها أتوخى الحذر، حتى لا أتعدّى دور المراقب أو الملاحظ الذي لا يعرف عن نادين فعلياً سوى ما كانت تتشاركه مع أصدقائها على “فايسبوك”، وبعض هذه التفاصيل الاستثنائية اللافتة في سيرتها التي نتوقف عندها.

معركة أمّ

لا يغيب عن أحد نضال نادين ماجدة جوني لسنوات للحصول على حضانة ابنها الذي لم تكن تراه سوى 24 ساعة في الأسبوع، بحكم من المحكمة الجعفرية. لم تكن الأخيرة السبب المباشر في مقتل نادين، لكنها من غيب أمومتها وأمهات كثيرات، وفي التغييب الكثير من الموت الذي يوجع الحي. حق الأم بالحضانة بحسب قوانين الأحوال الشخصية للطائفة الشيعية ينتهي عند بلوغ الصبي السنتين من عمره، وعند بلوغ البنت 7 سنوات. وفي الطائفة الكاثوليكية أيضاً عمر الحضانة هو سنتين للصبي والبنت، وفي ذلك إجماع وطني يفرح القلب على اضطهاد الأم. وحق الحضانة هذا الذي تنفد صلاحيته في عمر السنتين، كان من الأفضل تسميته الحق بالرضاعة، واعتبار أن الطفل بمجرد أن يبلغ سن الفطام، لا يعود بحاجة إلى أمه، التي يقتصر دورها بحسب هذه المعادلة على الرضاعة فقط.

لا يسعني وأنا أفكر بصورة الأم المغيبة وكم الحزن الذي يرافقها إلا تذكر ترتيلة “أنا الأم الحزينة” عن مريم العذراء أو التوقف عند سيرة فاطمة الزهراء أم الحسنين التي تحتل حيزاً مهماً في المرثيات الحسينية. لست بصدد الاستفاضة في الحديث عن مكانة الأم والمرأة في الأديان، فليس ذلك محور القضية، بل كيفية توظيف المنظومة الدينية في سبيل دعم المنظومة الذكورية. فإذا اعتبرنا أن الدين شأن خاص وأن له فقهاءه، فموضوع الحضانة بالمقابل هو شأن عام يخص كل امرأة، التي مهما كانت سيرتها الفردية أو خياراتها أو قناعاتها الدينية، فهي معرضة لأن تستفيق ذات يوم على واقع ألا حق لها لا في حضانة أطفالها، ناهيك بألا حق لها في منحهم جنسيتها ولا حتى اسمها. (حتى بعد مماتها أريدَ لنادين أن تغيب مرة أخرى في الذكرى الأسبوعية لوفاتها عبر عدم السماح لزميلاتها في الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة التي كانت نادين عضوة فاعلة فيها، بإلقاء كلمة كما أفصحت زينة إبراهيم، رئيسة الحملة. إلا أنه تقرر وبمشيئة أهلها أن يكون العزاء مختلطاً، وأن تحمل أصوات المشاركين صدى لقضية نادين الأساسية، حق المرأة في الحضانة ولذلك لم يقم العزاء في الحسينية بل في الباحة المرافقة لبيت أهل نادين. لا يمكن سوى توجيه تحية لأب نادين وأمها لاحترامهما مسيرتها وقناعاتها وإصرارهما على أن يشابه تأبينها شخصها وما آمنت به، كذلك لرفيقاتها اللواتي رفعن صوتهن عالياً في وجه من يريد تغييبهن. في حياتها كما في وفاتها، في سيرة نادين انتصار للهوية الفردية قد يثلج قليلاً قلب الذين أحبوها، على رغم فجاعة الخسارة). وقد حصل والدا نادين أخيراً على إذن من المحكمة الجعفرية يخولهما رؤية حفيدهما مرة أسبوعياً. قد يكون هذا الانتصار الصغير مفرحاً بعض الشيء، لكن أي قوانين ظالمة تلك التي تحرم الأم رؤية ابنها في حياتها، ورؤية جدته وجده بعد مماتها؟

موت نادين المفجع وهي لم تزل تناضل من أجل حضانة ابنها، كان إحدى بدايات الغضب الشعبي الذي لم يعد بالإمكان احتواؤه ضد قوانين المحكمة الجعفرية.

ما يقض سكينة الذكوريين وللأسف أيضاً بالنسبة إلى شريحة أخرى من النساء يتبنين المنطق الذكوري ذاته، ألا تكون نادين قد رضيت بـ”الاستشهاد” وهي لم تزل على قيد الحياة. يعز عليهم أن هذه الشابة التي تزوجت في سن صغيرة، كان لديها ما يكفي من الوعي والبصيرة كي تدرك أن الأمومة حق لا يجدر أن ينتقص من كرامة المرأة ولا من حقها بالحياة. الحضانة ليست حقاً مكتسباً، على النساء أن يسعين جاهدات لنيله، سواء من المحكمة أو من الزوج فيضحين في سبيله بأعمارهن، كما القصص التي نعرفها عن نساء ارتضين بالبقاء مع زوج معنف أو في زواج لا يردنه، خوفاً من خسارة حضانة أبنائهن وبناتهن. بالطبع لا يسعنا إلا أن نحترم هذه التضحية التي أُجبرت عليها أمهات كثيرات، لكن لا يكون تكريمهن إلا في إنهاء الأسباب التي دفعتهنّ إلى عيش هذه المعاناة.

سيرة “التضحية”

يحب المجتمع الذكوري أن يقترن اسم المرأة بالتضحية، فهي سمة كما يقال تميزها عن الرجل، لكن هذه السمة التي تلحق بالمرأة كتكريم لها، ليست سوى تسمية أخرى لعقاب فرض عليها، كابوس من نوع خاص استحدث لها كي تبدد مخاوف المجتمع الذكوري. في النص الذي كتبته قبيل وفاتها وتروي فيه تجربتها والذي هو أشبه بوصية لبقية النساء، تقول نادين جوني: “إذا كنتي عم تتعرضي لعنف وما قادرة تطلعي منه، عالقليلة دافعي عن حالك وردي الضربة، الك حق الكف اللي اكلتيه ترجعي ترديله اياه. وأهم شي بحياتك ما اتضللي مع زلمة كرمال أولادك، الولد ما بده إم معنَّفة، وعم تنهان، ومش عم تُحترم كرامتها، الولد بحاجة إم قويّة تفرجيه إنه ولا حدا فيه يهينها، ولا مرة خيار انك تبقي مع زلمة كرمال اولادك هو الصح، رح يكبروا أولادك ويكبر جرح كرامتك. إم منهانة ومعنفة يعني إم ضعيفة. ومش هيدا النموذج الي لازم نقدمه لأولادنا”.

نادين وابنها كرم.

ماذا يعني أن تخيَّر المرأة بين تحمّل تعنيف الزوج أو التخلي عن حضانة أطفالها في مقابل طلبها الطلاق؟ وحتى اللواتي يحصلن على حضانة أطفالهن، يبقين غالباً عرضة لابتزاز الزوج السابق والقبول بشروطه كالامتناع عن العلاقات العاطفية والزواج مرة أخرى. ماذا تعني هذه الخيارات الضيقة التي تفرض على النساء والضريبة التي يجبرن على دفعها من أجل الحضانة؟ والحضانة ليست هنا سوى ورقة ابتزاز هدفها إخضاع المرأة حين تفشل السبل الأخرى.

يحب الذكوريون أن يذكرونا بأن العنف تجاه المرأة ليس محصوراً بمجتمعنا. نعم العنف ضد المرأة يمارس في كل مكان وزمان، لكن في بلادنا فقط الزوج المعنف لا يحاسبه القانون، بل وتكريماً له، يمنحه حضانة أطفاله. حق الحضانة ورقة الابتزاز الكبرى التي بواسطتها تمارس شتى أنواع العنف الجسدي والمعنوي ضد المرأة. في بلادنا فقط لا يعاقب القانون الرجل إلا في حال قتل المرأة وأحياناً لا يفعل. وقد وصلنا إلى درجة من البؤس، تجعلنا نفرح حين يحصل قاتل ما على أي عقاب، وإن كان غير كافٍ!

والمطالبة بحضانة الأم لا تعني أبداً إقصاء الأب، فمصلحة الطفل والمنطق يقضيان بأن تكون الحضانة مشتركة بين الوالدين، مع إبقاء الأفضلية للأم كي تكون الحاضن الأساسي إلا في حالات استثنائية تفترض حماية الطفل من أحد حاضنيه، إذ كان يشكل خطراً ملموساً على صحته الجسدية أو النفسية. ولأجل ذلك كله نريد قانوناً مدنياً موحداً لجميع الطوائف في ما يتعلق بالحضانة.

هذا حلمنا المثالي البعيد، أما في واقع الحال فأضعف الإيمان أن نطالب برفع سن الحضانة لدى المحكمة الجعفرية، لأن عمر السنتين كما قد يتفق معنا كل عاقل ليس سوى الحق بالرضاعة.

ماذا يعني أن تخيَّر المرأة بين تحمّل تعنيف الزوج أو التخلي عن حضانة أطفالها في مقابل طلبها الطلاق؟

كيف نكون أفراداً، كيف نكون مواطنات من دون هذه الحقوق؟ كل كائن بشري هو عرضة لأن يتحول إلى طاغية إذا لم يجد من يحاسبه. كثيراً ما نسأل، كيف تتغير قناعات الأشخاص تبعاً للظروف، كيف استغل فلان القوانين الذكورية التي كان ينتقدها في ما مضى، للحصول على الحضانة وحرمان طليقته أطفالها؟ كيف اغتصب فلان المثقف النسوي صديقته أو عنفها؟ فعل ذلك لأن بوسعه فعله. لأن المراهنة على نبل الإنسان أو أخلاقياته هي معركة غالباً خاسرة وكثر منا دفعوا ثمناً باهظاً لذلك. لماذا تتعرض النساء لهذه الانتهاكات؟ لأن هؤلاء افترضوا أن بوسعهم فعل ذلك من دون حساب وافتراضهم ليس خيالياً للأسف.

إنه شعور بالهشاشة يرافق النساء، فهنّ عرضة لهذه الانتهاكات من دون مؤازرة أحد، والسلطة التي يفترض أن تنصر الضحايا، غالباً ما تدعم الجاني، يضاف ذلك إلى ردود الفعل الآتية من محيط النساء الضيق، والتي تكون في أحيان كثيرة غير داعمة، فرفض المنظومة القائمة قد تترتب عليه خسائر كثيرة، غير مرغوبة.

تكميم أفواه النساء وتغييبهن لا يتأتى من العنف المباشر فقط، إنها سلسلة طويلة من منظومة تعيش كل امرأة مراحلها من الطفولة إلى سن الرشد، يراد بنا أن نصل من خلالها إلى تقبل ما لا يمكن التعايش معه.

ستحاول تلك المنظومة تبرير خللها، بالدين، بالتقاليد، بالرجعية أو بالحداثة، بالقانون، بالسياسة. لا نستطيع التصدي لذلك سوى بالتمسك بما نعرفه في قرارة أنفسنا، بتلك الصوة النقية للذات التي لم تصل إليها تشوهات هذه المنظومة.

نادين ماجدة جوني حاربت بكل ما أوتيت من سبل من أجل ابنها، ومن أجل ذاتها أيضاً، كي تنتصر على المنظومة الممنهجة التي أرادت لها الانكسار. بين سير النساء الفردية اليوم والمنظومة الرجعية بقوانينها، الهوة باتت شاسعة وهي هوة بات يستحيل ردمها بلا إحداث تغييرات جذرية.

ليس على الأمهات بعد اليوم أن يستشهدن في سبيل أطفالهن. في الصور وفي الفيديوات، نادين لم تزل تضحك، ضحكة تنتصر للحياة والحب والأمومة. لا تستطيع المحاكم الدينية أن تواصل تغييب الأمهات، فهنّ لسن أشباحاً يتم طردهن من حياة أطفالهن بورقة بائسة وقانون ظالم.

حربكم ضد الأمهات خاسرة لا محالة وضحكة نادين وسيرتها شاهدتان على ذلك.