fbpx

هل يُبرّئ الانهيار العربي الراهن برنارد لويس؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

رسمت طلقات الغضب العربي صورة شيطانية للأكاديمي والمستشرق البريطاني– الأميركي برنارد لويس، الذي رحل عن عالمنا الشهر الماضي. ووجهت ضده اتهامات تنهال عادةً على كل من تُراد شيطنته، وتحميله مسؤولية أخطاء وخطايا ارتكبناها، وما زلنا نبحث عن شماعات نُعلقها عليها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

رسمت طلقات الغضب العربي صورة شيطانية للأكاديمي والمستشرق البريطاني– الأميركي برنارد لويس، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام. ووجهت ضده اتهامات تنهال عادةً على كل من تُراد شيطنته، وتحميله مسؤولية أخطاء وخطايا ارتكبناها، وما زلنا نبحث عن شماعات نُعلقها عليها.

وربما يتيح رحيله فرصة لمراجعة هذا العداء المهول تجاهه، عبر قراءة كتاباته التي حُكم عليه بسببها من دون إطلاع عليها، أو بعد عزلها عن سياقها، في كثير من الأحيان، وتحليل مواقفه التي أدت إلى هجائه. فالمفترض أن الموت يُنهي الخصومة. يُسقط القضاء في مختلف بلدان العالم أي دعوى منظورة أمامه حين يموت المدعى عليه أو المختصم فيها. وحتى في أكثر الثقافات تشدداً في طلب الانتقام بلا نهاية، تسقط الخصومة بعد الموت إلا في حال القتل.

ولذا نأمل بمراجعة موضوعية للاتهامات التي أدت إلى شيطنة لويس، وإعادة التفكير في كتاباته ومواقفه بعقل هادئ وقلب مفتوح، سعياً إلى المعرفة، واستجلاء الحقيقة بمقدار ما نستطيع. نحن من يحتاج إلى هذه المراجعة لأن استهانتنا بالمعرفة، واستغراقنا في صور نمطية تريحنا، لا يزيداننا إلا ضعفاً، ولا يؤديان إلا إلى مزيد من انهيار الوضع العربي.

ولعل هذا الانهيار، الذي تتفكك في ظله بلدان عربية بفعل عوامل يثبت يوماً بعد يوم أنها داخلية في المقام الأول، يُفيد كمدخل لمراجعة صورة لويس الذي اقترنت شيطنته في خيال كثر من العرب بـ”عملقة”، يبدو فيها مارداً عملاقاً لا حدود لقدرته على إلحاق الأذى بنا، ودوره في صنع سياسات لم يكن في أي وقت في موقع يسمح له بأن يكون بين صانعيها، ورسم خرائط لتقسيم بلدان عربية، وهو الذي لم يراكم من المعرفة في حقل الجغرافيا السياسية، والعلوم الاستراتيجية ما يمكنه من امتلاك منهجية مراجعة الخرائط وإعادة رسمها، والتقنية اللازمة لمثل هذا العمل. ولم يدلنا من يتحدثون عن خرائط رسمها على واحدة منها.

لم يكن لويس صانع قرار أو مُشرَّعاً، أو قيادياً في أحد الحزبين الأميركيين الكبيرين، أو حتى رجل سياسة. كان مؤرخاً ومستشرقاً، اجتهد انطلاقاً من مرجعيات لم يخفها، وانحيازات لم ينفها. أخطأ كثيراً، لكنه أصاب كثيراً أيضاً، لأنه كتب كثيراً. وغاية ما يفعله أمثاله أن ينصحوا صانعي القرارات حين يستشاورون، فيشيرون. ولكنهم لا يملكون سوى نتاج تفكيرهم وبحثهم. والأكيد أنه استُشير كثيراً في قضايا عربية وشرق أوسطية لمعرفته بتاريخ هذه المنطقة، واهتمامه باستخلاص اتجاهات يعتقد بصحتها، ولا تكون صحيحة في كل الأحوال، واستشراف ما يمكن أن تؤول إليه. كما أن استشارة علماء ذوي خبرة في مجالاتهم تُعد من التقاليد المحمودة في الولايات المتحدة، والمفقودة في منطقتنا.

شارك لويس في لجنة شكلها الكونغرس الأميركي لاقتراح خطة تهدف إلى مواجهة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، في لحظة بدا فيها أن موسكو ستتوسع في الشرق الأوسط عقب غزوها أفغانستان، وقبل أن يتبين مدى هشاشة ذلك التوقع. وقد شُكلت اللجنة في العام الأخير بإدارة جيمي كارتر، وليس في ظل إدارة رونالد ريغان، بخلاف ما هو شائع في اتهام لويس بأنه كان ضمن فريق عمل اختارته هذه الإدارة لوضع ما قيل إنها خطط للهيمنة على المنطقة عبر تقسيمها.

لم يكن العرب هَدف عمل تلك اللجنة التي لم يُنشر تقريرها. بل لم يعرف إن أكملت عملها حتى نهايته بعد انكشاف هشاشة الاتحاد السوفياتي، الذي طُلب إليها أن تضع خطة لمواجهة نفوذه. ومع ذلك، ظل لويس متهماً بأنه وضع عام 1980 خرائط تقسيم الدول العربية، ثم دفع باتجاه غزو العراق، وتقسيم السودان، بل تم تحميله مسؤولية ما يحدث في سورية!

ولم يُراجع أي من تلك الاتهامات، على رغم ثبوت عدم وجود أي خطة أميركية لتقسيم العراق. فقد فضلت إدارة بوش الثاني المحافظة على عراق واحد، وإعادة بناء نظامه السياسي ليكون اتحادياً “فيدرالياً”. كان للأمريكيين الكلمة العليا في العراق بعيد غزوه. ولو أن تقسيمه هدف لهم، لما منعهم مانع في تلك اللحظة.

ولكن مصالحهم التي يرونها، وليست ما يعتقده بعضنا، دفعت إلى إبقائه موحداً، ونُصح الأكراد بعدم السعي إلى الانفصال. وعندما أصر رئيس إقليم كردستان السابق مسعود بارازاني على إجراء استفتاء حول الانفصال، في أكتوبر\ تشرين أول الماضي، تخلواعنه، وتركوه وحيداً إزاء عقوبات مشددة فرضتها حكومة بغداد بدعم مباشر من تركيا وإيران.

كما أظهر الانهيار العربي الراهن الذي تراكمت عوامله الداخلية، ومعها مؤثرات إقليمية ودولية، على مدى عقود تحت أسطح هشة أزالتها ثورات الربيع العربي، أن الأميركيين لا يرغبون في تقسيم أي من البلدان التي تفككت، ليس لأنهم يحرصون عليها، ولكن لعدم وجود مصلحة لهم في هذا التقسيم الذي أمضى كثيرون منا وقتاً طويلاً في تخيل خطط ومؤامرات شتى لتحقيقه، اتُهم لويس بأنه ضالع فيها.

وإذا كان ضرورياً وضع لويس في قفص اتهام، فثمة تهمة حقيقية لم ينكرها أبداً، وهي تأييده المهول لإسرائيل على طول الخط. صحيح أنه ليس وحده في هذا الموقف الذي يشاركه فيه كُثرٌ في العالم، وفي الغرب خصوصاً، ولكن تعصبه للصهيونية، واستخفافه بالحقوق الفلسطينية، بلغا أعلى مبلغ. ومع ذلك، لم يكن مسؤولاً عن السياسات الأميركية الظالمة تجاه قضية فلسطين، علماً أنه لم تكن له علاقة مع إدارة ترامب التي بزَّت سابقاتها في دعم إسرائيل، وهي التي بدأت ولايتها في وقت لم يعد قادراً على أن يُستشار أو يقدِّم نُصحاً، واضطر إلى الإقامة في دار رعاية.

كما أن موقفه هذا لم يحل دون اعتماده منهجاً علمياً في دراسته العميقة للتاريخ الإسلامي. أنصف لويس المسلمين في دراسته تاريخهم، ولكنه ظلمهم في حاضرهم، حين حمَّلهم أحياناً مسؤولية سياسات حكام وحكومات، أدت إلى تكريس التخلف، وأغلقت أي باب نحو التقدم، من أجل إدامة الاستبداد. ومما يدخل في باب الإنصاف حديثه عن أن المسلمين كانوا أكثر تسامحاً من غيرهم في العصور الوسطى، ورفضه تفسير الإرهاب استناداً إلى مؤثرات دينية. وتثير موضوعيته، هنا، ارتباك من لا يستوعبون التفكير المركب لتعودهم على نمط تفكير أحادي مغلق، وهم كُثر بين العرب. ونجد في وصف أحدهم لويس بأنه (المؤرخ الذي أشاد بالإسلام وحاربه) تعبيراً عن هذا النمط، وتجسيداً للميل إلى عملقة من نشيطنهم، فنتخيل القلم في يد كاتب أو مثقف سيفاً يحارب به.

ولذا نخطئ حين نختزل رؤيته للإسلام، وتاريخ المسلمين في كتابين أصدرهما عقب هجمات سبتمبر\ أيلول 2001، وهما (أين يكمن الخلل؟ الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط) الصادر عام 2002، و(الإسلام في أزمة) الصادر عام 2003.

كان لويس قد تجاوز الثمانين، وصار عاجزاً عن تجديد أوراقه، والإلمام بتطورات مهمة في دراسة التاريخ، وفي استخلاص الاتجاهات المستمرة فيه والموثوق في تأثيرها في مساره، وفي منهجية البحث في العلاقة بين الماضي والحاضر، والمستقبل أيضاً. لم يجدد لويس منهجه وأدوات بحثه في الوقت الذي كان قادراً على استيعاب الجديد. وعندما كتب هذين الكتابين، كان الوقت قد تأخر لإنجاز هذا التجديد.

كما أن إصدار كتابين في موضوع بهذا الحجم في عامين متواليين، يعني أنه لم يعط أياً منهما حقه في البحث. فقد أصدر الكتاب الأول بعد أقل من عام على الدافع إليه، أي هجمات 2001، وجاء الثاني بعد نحو عام أيضاً. وإذا كانت العجلة ضارة بأي عمل، فهي أكثر ضرراً بالعمل العقلي الذي يتطلب بحثاً جاداً، وتفكيراً عميقاً، على نحو يتجاوز ما تراكم لدى الشخص من معارف وخبرات.

ومع ذلك، نجد في ثنايا الكتابين بعض المواقف والأحكام التي يتبنى مثلها، أو ما يقترب منها، عدد متزايد من العرب الذين يميزون بين الدين والفقه، ويدعون إلى ما يسمونه إصلاح الخطاب الديني أو تصحيحه أو تجديده.

فهل نكون، مرةً، منصفين، ونراجع مواقفنا، وندرك أن مثل هذه المراجعة في مختلف المجالات شرط لا بديل منه لتصحيح اختلالات أخذتنا إلى الانهيار الراهن؟