fbpx

مصر: مريم التي قتلها الأمن المتفلّت والإسعاف الذي تأخّر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مأساة مريم تسلّط الضوء على حدثين: تأخر سيارات الإسعاف في الوصول إلى مواقع الحوادث، وتساهل الأمن مع المسجلين كأشخاص خطرين مقارنةً بمتابعة النشطاء المعارضين للنظام…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“كنا واقفين بنتكلم وبندردش مع بعض، مريم ماسكة شنطة بلاستيك في إيدها ولابسة شنطة على كتفها، طول عمرها بتحب تعلق الشنطة على ضهرها، ومش بتلبسها على كتف واحد، وفجأة ظهر ميكروباص كان ماشي بسرعة كبيرة من وراها، وواحد جنب السواق مد إيده ومسك الشنطة اللي مريم معلقاها على ضهرها، ومع سرعة الميكروباص مريم طارت مع العربية كذا متر وراسها اتخبطت في عربية ملاكي تانية كانت واقفة في الشارع، وهنا لم اتمالك نفسي من الصراخ والعياط”، كلمات أدلت بها صديقة مريم محمد علي أمام النيابة العامة، راوية اللحظات الأخيرة من حياة صديقتها.

وكشف شاهد، أمام النيابة، أنه رأى سيارة ميكروباص تقترب بشدة من الضحية وصديقتها قبل أن يُخرج المتهم يده من نافذة في مقدمة السيارة، ويُمسك بحقيبة الضحية التي ارتطمت بسيارة أخرى والأرض واستقرت على بعد أمتار من مكان وقوفها. ونظر إلى مؤخرة السيارة التي هربت مسرعة ولم يتأكد من وجود لوحات معدنية على السيارة والميكروباص من عدمه، موضحاً أنه أسرع إلى منتصف الشارع لإنقاذ الفتاة والاتصال بالإسعاف، مؤكداً أن المجني عليها مكثت قرابة نصف ساعة في مكان الحادث حتى وصلت سيارة الإسعاف، ثم فارقت الحياة.

بين الإسعاف والأمن… رحلت مريم 

فقدت مريم ذات الـ24 ربيعاً (تعمل في البنك الأهلي المصري) حياتها لدفاعها عن نفسها ومالها من سطوة اثنين مُسجلين ضمن قوائم خطر المخدرات والسرقات والسلاح غير المرخّص، كانا يتجولان في الشارع بأريحية مطمئنين ربما بأن لا قانون يحاسبهما. نصف ساعة كاملة عانت فيها مريم من آلامها وجروحها، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب عدم وصول سيارة إسعاف في الوقت المناسب للتعامل مع حالتها الطارئة سريعاً ونقلها إلى أقرب مستشفى.

مأساة مريم تسلّط الضوء على حدثين رئيسيين هما تأخر سيارات الإسعاف في الوصول إلى مواقع الحوادث، وأساليب البوليس المصري في التعامل مع القضايا الجنائية والمسجلين كأشخاص خطرين، والتساهل في ضبطهم وتوفير الأمن في الشارع، مقارنةً بنشاط أجهزة الدولة واهتمامها الموصوف في الشق السياسي ومتابعة النشطاء المعارضين للنظام، فيما يعيش أكثر من 100 مليون مواطن في الرعب والترقّب.

وفقاً لشهود، كان تأخر وصول سيارة الإسعاف، من أسباب وفاة مريم في مكان الحادث، أي منطقة المعادي التي تعدّ من أرقى مناطق العاصمة المصرية، إذ تقطنها طبقة أرستقراطية، حيث أفضل الخدمات، الطبية ضمناً. فما مصير الحوادث المماثلة التي تقع بعيداً من تمركزات سيارات الإسعاف وقلب العاصمة، ناهيك بالتساهل الذي نفذ به المتهمان جريمتهما، وسرقا حقيبة الفتاة التي قد لا تحتوي على متعلقات ذات قيمة إلا هاتفها المحمول وحافظة نقودها. وفي ظل انتشار بطاقات الائتمان بشكل كبير قد لا تحتوي الأخيرة إلا على مبلغ صغير، قد لا يستأهل المخاطرة، إلا إن كان الفاعلان يأمنان من العقاب واعتادا ممارسة الأمر بلا ملاحقة؟ 

تولي وزارة الداخلية اهتماماً كبيراً بالقطاعات الخاصة برصد الأنشطة السياسية على حساب تلك التي تهتم بالأنشطة الإجرامية الجنائية. وخصصت الحكومة المصرية ميزانية كبيرة واشترت أنظمة تكنولوجية فائقة من الصين ودول أخرى لمراقبة أنشطة المواطنين التكنولوجية واليومية، لأجل مزيد من السيطرة والرقابة على حركة المواطنين والمعارضين والمناوئين للنظام السياسي، على حساب الإدارات التي تحقق في الأنشطة الإجرامية وتوقف المجرمين لتقديمهم للعدالة.

بعد البحث والتحري، تمكنت قوة أمنية من تحديد المتهمين وهما قريبان، مسجلان في قائمة “خطر”، لاتهامهما في قضايا مخدرات وسرقة وحيازة سلاح من دون ترخيص، الأول يدعى “وليد ع. ف.” (34 سنة)، يعمل سائقاً، سبق أن تم توقيفه في قضيتي مخدرات، والثاني “محمد أ. م.” (33 سنة)، رجل أمن، سبق اتهامه في 3 قضايا مخدرات وحيازة سلاح من دون ترخيص. وبعد توقيفهما، اعترفا بتشكيل عصابة متخصصة في سرقة الحقائب بأسلوب خاطف، باستخدام السيارة المضبوطة، وأقرا بحسب ما نشر من التحقيقات بارتكاب جرائم أخرى أيضاً إضافةً إلى واقعة المعادي. وأقر المتهمان، بأنهما شاهدا مريم في مكان الجريمة ومعها حقيبتها، فاقتربا منها. الأول كان يقود السيارة فيما قام الثاني بخطف الحقيبة من الفتاة التي حاولت التمسّك بها، فاصطدمت بالسيارة وسقطت أرضاً، وسحبت لمسافة مع السيارة أثناء فرارهما.

تأخر معهود لخدمة الإسعاف 

تأخر سيارات الإسعاف بات أمراً معهوداً في مصر، بخاصة في المحافظات البعيدة من العاصمة أو الأحياء الفقيرة أو الطرق البعيدة، وقد يتجاوز التأخير الساعتين من وقت التبليغ، ما يؤدي إلى فقدان كثيرين حيواتهم، أو التسبب بعاهات دائمة أو تفاقم الحالات الصحية.

وكشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وفقاً للنشرة السنوية لخدمات الإسعاف، تراجع عدد مراكز الإسعاف 17.4 في المئة، لتصل إلى 1464 مركزاً خلال عام 2018، مقابل 1774 مركزاً في العام السابق، بانخفاض 310 مراكز خلال عام، بينما كان عدد مراكز الإسعاف قد بلغ 1561 مركزاً عام 2016.

وكشف وائل سرحان، نقيب العاملين في هيئة الإسعاف المصرية، أن عدد سيارات الإسعاف في مصر أقل بكثير من المُعدل العالمي، لذا فإن الهيئة تحاول توزيع السيارات بشكل عادل بقدر الإمكان، موضحاً أنه تم إلغاء بعض مواقع تمركز سيارات الإسعاف، بعد تحولها من مرفق عام إلى هيئة مستقلة، فتأمين المناطق بسيارات إسعاف في أماكن قريبة لها يجعلها غير محتاجة إلى تمركز سيارات إسعاف فيها.

وتشكو عشرات القرى والأحياء من عدم وجود سيارات إسعاف أو وجودها على مسافات بعيدة، أو إغلاق نقاط الإسعاف، ما يعجّل من زيادة إصابة المرضى أو وفاتهم. وبخلاف نقص مراكز الإسعاف، تشهد خدمة الإسعاف مشكلات بالجملة في مصر، من التأخر الملحوظ في إنقاذ الحالة، ورفع التكلفة، حتى أصبحت للأغنياء فقط، ناهيك بعدم تجهيز السيارات بما يجب، للتعامل مع الحالات الحرجة، وتهالك بعضها.

منشغلون باعتقال المعارضين!

منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، وتولي رئيس المحكمة الدستورية آنذاك المستشار عدلي منصور، ليتسلم بعدها الرئيس عبدالفتاح السيسي سدة الحكم، تولي وزارة الداخلية اهتماماً كبيراً بالقطاعات الخاصة برصد الأنشطة السياسية على حساب تلك التي تهتم بالأنشطة الإجرامية الجنائية. وخصصت الحكومة المصرية ميزانية كبيرة واشترت أنظمة تكنولوجية فائقة من الصين ودول أخرى لمراقبة أنشطة المواطنين التكنولوجية واليومية، لأجل مزيد من السيطرة والرقابة على حركة المواطنين والمعارضين والمناوئين للنظام السياسي، على حساب الإدارات التي تحقق في الأنشطة الإجرامية وتوقف المجرمين لتقديمهم للعدالة.

وخصصت الحكومة 59.8 مليار جنيه لوزارة الداخلية والقطاعات التابعة لها للعام المالي الجديد 2020/2021، مقابل 51.5 مليار جنيه للعام 2019/2020، وأقر البرلمان الميزانية. وصرح اللواء كمال عامر، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي في مجلس النواب، بأن اللجنة أوصت وزارة التخطيط بتوفير الاعتمادات المالية اللازمة على مدار العام المالي لتلبية احتياجات وزارة الداخلية، بما يحقق أهدافها وتطوير أدائها، مؤكدة دعمها مطالب “الداخلية”، بما يحقق تطوير قدراتها للقيام بمهماتها على أكمل وجه.

كشف مصدر أمني مسؤول في وزارة الداخلية لـ”درج”، أن مرتبات الضباط وأفراد الشرطة والهيكل الإداري في الإدارات والقطاعات المتخصصة تتجاوز رواتب أقرانهم في الأمن العام، ونقصد بهؤلاء العاملين في أقسام الشرطة ومراكزها، علاوة على تخصيص ميزانية كبيرة لقطاع الأمن العام –أمن الدولة- الذي يرصد تحركات معارضي النظام من ناحية، وبعض الشخصيات العامة والمؤثرة وقادة الأحزاب السياسية والشخصيات العامة والمؤثرين والنشطاء إضافة إلى مسؤولين وقيادات في منظمات المجتمع المدني… من جهة أخرى. ويشير المصدر إلى أن رواتب جميع العاملين في جهاز أمن الدولة مرتفعة بنسب عالية مقارنة بأفراد الأجهزة الآخرين.

السياسيون تحت الأنظار 

يدلل على اهتمام الأمن بالشق السياسي على حساب الجنائي سرعة توقيف المحامي طارق جميل سعيد، بعد نشر مقطع فيديو انتقد فيه طريقة إدارة العملية الانتخابية المصرية، وطريقة تسكين المرشحين، وترشيح بعض المشتبه فيهم في القائمة الوطنية التي تلقى دعماً من الحكومة والدولة. وذلك على رغم أن المحامي هو زوج ابنة الفنان حسين فهمي ومحامي عدد من الفنانين وابن المستشار جميل السعيد وشقيقه ضابط برتية عميد في وزارة الداخلية، وشقيقه طيار في الشركة الوطنية “مصر للطيران”، أي أنه ينتمي لأسرة محسوبة على الدولة ومؤيدة أصيلة للدولة العميقة. لكن هذا كله لم يشفع له وقُبض عليه فور انتشار مقطع الفيديو المنشور بشكل كبير على السوشيل ميديا، وقبلها القبض على طبيبة انتقدت تعامل وزارة الصحة مع انتشار فايروس “كورونا”، وقبلها فتاة الإسكندرية التي كتبت عن وجود إصابات بـ”كورونا” ورفض المستشفى استقبال الحالات، وغيرهم ممن لم يفعلوا شيئاً إلا كتابة منشور نقدي على مواقع التواصل الاجتماعي. 

ويشتد في الفترة الأخيرة مسلسل القبض على الصحافيين والنشطاء، وغالباً من دون تهم واضحة، إلا قيامهم بتغطية بعض الموضوعات التي ترصد أخطاء الحكومة وعدم قانونية بعض ممارساتها بحق المواطنين. وكان آخر حلقات مسلسل القمع، القبض على الصحافي إسلام الكلحي أثناء تغطية واقعة وفاة المواطن إسلام الأسترالي الذي لقي مصرعه داخل أحد أقسام الشرطة في محافظة القاهرة، والقبض على الصحافية بسمة مصطفى أثناء تغطية واقعة قضاء المواطن عويس الراوي على أيدي قوات الأمن أثناء توجه قوة لضبط شقيقه على خلفية تظاهرات مناهضة للنظام المصري في محافظة الأقصر جنوب البلاد. 

المسجلون “خطر” بعيداً من رقابة الداخلية 

أكد الخبير الأمني اللواء أحمد طاهر، أن على وزارة الداخلية مراقبة المسجلين “خطر”، ما دام  صدر بحقهم حكماً بالسجن، ويتم ذلك على مدار سنوات تختلف من مسجل إلى آخر، شارحاً أن ذلك يتمثل في أن يتوجه المسجل يومياً إلى قسم الشرطة التابع له ويقضي هناك عدداً معيناً من الساعات، مشيراً إلى أن الهدف من المراقبة هو الحد من نشاط الشخص الإجرامي، فضلاً عن أن هذه الرقابة عقوبة مثل السجن، الهدف منها ردع المسجل ومحاولة إصلاحه ومنعه من ممارسة أي نشاط مخالف للقانون.

وأضاف طاهر، أنه ينبغي تخصيص عنصر من الشرطة (مخبر) لمتابعة المسجلين “خطر”، للتأكد من عدم ممارستهم أي أنشطة مخالفة للقانون، والتحقق من مصادر الدخل والإنفاق والأشخاص المحيطين بهم. وإذا ضبط بحوزة المسجل “خطر” أي أداة تستخدم فى ارتكاب جريمة ما، أو أي دليل إدانة يثبت عودته إلى الإجرام، يتم تحرير مخالفة اشتباه ضده ويقبض عليه. ولفت إلى أن جميع أقسام الشركة تضم لجنة تعنى بشؤون الأشخاص الخطرين، تتكون من مأمور القسم ونائبه ورئيس المباحث، وتقدم تقريرها عن ضم أي متهم إلى قائمة المسجلين في قائمة الخطر، إلى اللجنة الأعلى في مديرية الأمن، ثم تقدم اللجنة تقريرها إلى قطاع مصلحة الأمن العام، وإذا صدر قرار بالموافقة على إدراج اسم المتهم كمسجل “خطر”، يتم إنشاء ملف خاص به يحتوي على صحيفة حالة جنائية وصور حديثة له وتاريخه الإجرامي. 

وأكد أن عدم تنقية كشوف المسجلين “خطر” من وقت إلى آخر يساهم في تشتيت جهود الأفراد والأمناء، فكثر من المدرجين على تلك القوائم توفوا أو توقفوا عن ممارسة أنشطتهم الإجرامية، وبالتالي تنقية الكشوف تساهم في تحديد المتهمين الذين تجب متابعة نشاطهم الإجرامي ورفع درجة الدقة في مراقبتهم.

الدكتور محمد علي، الأستاذ في جامعة مصر الدولية، بكى ابنته بحسرة وألم كبير، قائلاً: “ادعولي ربنا يصبرني على فراقها، وينتقم من اللي حرق قلبي عليها، مشيت في جنازتها بدل ما أمشي في فرحها، رايح أدفنها واخد عزاها بدل ما أشوفها عروسة، أنا مش قادر أصدق اللي حصل”.