fbpx

تونس… الموت في بالوعة أو تحت الهدم!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقد وضعت الحوادث الدامية المتتالية الدولة التونسية في دائرة الاتهام وجعلت صفة “الدولة القاتلة” التي بات يرددها كثر تلتصق بها شيئاً فشيئاً. كيف لا ما دام موت الأبناء يمر مرور الكرام، ويعفى المتورطون الحقيقيون من الحساب؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
الكشك الذي قضى تحته عبدالرزاق الخشناوي

غضب في تونس عقب فاجعة قضى فيها الخمسيني عبدالرزاق الخشناوي تحت أنقاض “كشكه” الذي هدمته فوق رأسه سلطات الإشراف، في إطار تنفيذها قرار هدم الأبنية غير القانونية في مدينة سبيطلة من محافظة القصرين. الهدم حصل من دون الالتزام بالترتيبات القانونية التي تقتضي معاينة المكان قبل الشروع في إزالته. 

الحادثة الأليمة أثارت حفيظة أهالي الجهة الذين نظموا احتجاجات تخللتها مواجهات مع قوات الأمن وحرق عجلات مطاطية وقطع طرق. غضب لم يكن مرده هذه المرة المطالبة بالتنمية والتشغيل، إنما السخط على مدى العبث واللامبالاة واللامسؤولية تجاه حق المواطن، والتي بلغت حد الاستهتار بحياته ومصيره. 

غضب استعر داخل تونسيين كثر وهم يشاهدون ويعيشون على وقع حوادث، تعيد إليهم مشهد محمد البوعزيزي، وهو يحترق حياً، لا سيما مع الذكرى العاشرة لرحيله، الذي أشعل فتيل ثورة عقدت عليها آمال وأحلام لم يكتب لها أن ترى النور أبداً. وإذا كان الموت قبل عشر سنوات قد حدث حرقاً، فهو يأتي اليوم غدراً تحت الركام من دون أن يخطئ الأشخاص والأماكن، فيختار أولئك المهمشين في المناطق المنسية أبداً.

إنها مشاهد دموية اخترقت حياة التونسيين على مدار السنوات التي تلت الثورة واتسع نطاقها تدريجاً من دون أن تثير حفيظة الماسكين بزمام الحكم والذين تعاقبوا على السلطة منذ عام 2011. وكأن الفقر والتهميش والبطالة والعجز والإجرام لم تكن عناوين كافية لساسة تونس، حتى يدركوا حجم الكارثة وعمق المأساة التي يعيشها المواطن. بل إن الحوادث الدامية المتتالية باتت توحي بأن هؤلاء الماسكين بزمام الأمور لا يبحثون عن سبل وقف هذا النزيف بقدر انخراطهم أكثر فأكثر في هذا المشهد الدرامي والقيام بالمزيد والمزيد من التجاوزات.

ولامتصاص غضب الشارع، سارعت الحكومة إلى إعلان إقالة 40 مسؤولاً بارزاً في  المحافظة، بموازاة محاولات للتنصل من المسؤولية، ترجمتها تصريحات كل من رئيس البلدية الذي تنقل من إذاعة إلى أخرى  لينكر علمه بعملية الهدم، وإصرار الوالي على رفض الإقرار بالخطأ ونشره مضمون محادثة جمعته برئيس البلدية طالبه فيها الأخير بتوفير بعض القوات لتنفيذ عملية الهدم. 

وفي خضم هذا العبث الذي أقدمت عليه الحكومة بقصد إيهام شعبها بمحاسبة المخطئين، واستماتة الجميع للتهرب من المسؤولية، ضاع السؤال مجدداً بشأن من سيتحمل تبعات الكارثة، ومن ستطاوله المحاسبة هذه المرة. 

أسئلة كثيرة سيبقى صداها يتردد كما حدث سابقاً من دون إجابة تذكر، عدا عن أن الطرف الأضعف في المشهد سيكون كبش الفداء ويدفع فاتورة الأخطاء التي غالباً ما تتجاوزه وتمتد إلى رؤوس نافذة دأبت على الإفلات من العقاب. 

التجارب السابقة في ارتكابات مماثلة لم تصل الى نتيجة عادلة ويخشى أن الأمر سيتكرر هذه المرة أيضاً. هذا إن حصل فستكون بذلك قد انتهت المسرحية، ولا خاسر فيها سوى ذلك الخمسيني الذي قضى تحت الأنقاض وعائلته التي ستظل ترى جلادها بكامل نفوذه وسلطته كأن شيئاً لم يحدث. 

ليست حادثة صاحب الكشك الأولى، ولن تكون الأخيرة من نوعها فعلى رغم اختلاف العوامل والمسارات، إلا أن عودة سريعة إلى مسلسل الموت الناتج عن استهتار مسؤولين بأرواح الناس، تثير الهلع وتطرح سؤالاً بات يتردد بإلحاح في ظل دوامة الفتك بحياة الناس بعناوين مختلفة، هل أصبحت سلطة تونس قاتلة أبنائها؟

لا يمكن إحصاء مشاهد الموت المتكررة في مقالٍ واحد، لكن فلنقف قليلاً عند الحادثة التي هزّت التونسيين أخيراً وهي موت الطفلة فرح، بعدما ابتلعتها بالوعة مياه الصرف الصحي، التي بقيت بسبب الإهمال والتقصير مفتوحة، واختنقت الصغيرة حتى لفظت آخر أنفاسها ورحلت. 

بدل التحقيق في القضية وتعقّب المسؤولين عن هذا الخلل القاتل، ألقى المعنيون  اللوم على الأم الفقيرة، لأنها أخذت معها ابنتها الصغيرة لتساعدها على جمع القوارير البلاستيكية، وهو العمل الذي تقتات منه. قبل ذلك بأيام قضى 8 أشخاص بينهم أطفال غرقاً في البحر بعدما انقلب القارب الذي استقلوه هرباً من جحيم الفقر والبطالة في بلد لم يكترث ساسته لأصوات شبابه. هنا أيضاً بدل تتبع الشبكات التي تقف وراء استفحال هذه الظاهرة وتقديم المسؤولين خطاباً مطمئناً للشباب المتعبين، اكتفوا بتعداد الضحايا…

ليست حادثة صاحب الكشك الأولى، ولن تكون الأخيرة من نوعها فعلى رغم اختلاف العوامل والمسارات، إلا أن عودة سريعة إلى مسلسل الموت الناتج عن استهتار مسؤولين بأرواح الناس، تثير  الهلع وتطرح سؤالاً بات يتردد بإلحاح في ظل دوامة الفتك بحياة الناس بعناوين مختلفة، هل أصبحت سلطة تونس قاتلة أبنائها؟

قبل أقل من سنة قتل 25 شاباً وشابة خرجوا في رحلة ترفيهية في حادث سير في أحد الطرق الجبلية الخطيرة في محافظة باجة الداخلية، بسبب تخاذل الدولة عن إصلاحه، على رغم البلاغات المتتالية بشأن الأرواح التي يحصدها هذا الطريق. وعلى رغم هول الفاجعة فقد مرت هي الأخرى من دون محاسبة تذكر، شأنها في ذلك شأن واقعة مقتل 12 رضيعاً، تم حقنهم بمحلول غذائي فاسد في أحد المستشفيات العمومية، وانتهى الأمر بطمس الحقيقة وعدم محاسبة أي جهة عن هذه الجريمة البشعة. 

وهكذا بسبب الإهمال والتقصير واللامبالاة واللامحاسبة، يدفع مواطنون الثمن حياتهم… ولا أحد يأبه.

اليوم ونحن على مشارف الذكرى العاشرة لثورة قامت من أجل الكرامة والعيش الكريم، يصبح الحديث عن وقف هذا النزيف في تونس ضرباً من الأماني في ظل دولة تديرها طبقة سياسية منهمكة في مشاحناتها وتجاذباتها ومعاركها، التي تخوضها من أجل الفوز بالقسط الأكبر من الكعكة، مقابل تجاهل هموم الناس وقضاياهم.

طبقة لا تكترث لبلد تديره ويسير تدريجياً نحو الخراب، تكتفي بمراقبة أبنائه وهم يلفظون أنفاسهم إما حرقاً أو غرقاً أو تحت الأنقاض أو كمداً ويأساً من واقع بات ينتصر علناً للظالمين والفاسدين.  

فرص الإصلاح باتت ضئيلة في ظل دولة عجزت هياكلها عن خلق آليات عمل جديدة تؤمن بحق المواطن في حياة كريمة، وفشلت في صوغ أفكار وسياسات يتساوى بمقتضاها المسؤول والمواطن أمام القانون، وتتخلى بذلك عن مبدأ تهميش الشعب، لا سيما المفقر وتتجنب التعاطي مع مصائبه باعتبارها خسائر عابرة من دون قيمة. أما الجالسون على الكراسي وأصحاب رؤوس الأموال النافذون فيخرجون دائماً من دائرة التتبع والمحاسبة، على رغم الأخطاء الجسيمة.

لقد وضعت الحوادث الدامية المتتالية الدولة التونسية في دائرة الاتهام وجعلت صفة “الدولة القاتلة” التي بات يرددها كثر تلتصق بها شيئاً فشيئاً. كيف لا ما دام موت الأبناء يمر مرور الكرام، ويعفى المتورطون الحقيقيون من الحساب؟ وكأن الفقر والتهميش قدر أولئك المنسيين منذ البداية، وكأن موتهم حرقاً أو غرقاً أو غماً أو جوعاً، قضاء لا ثمن له. والنار التي أضرمها ذاك الشباب في جسده ذات 17 كانون الأول/ ديسمبر باتت مصيراً يختاره كثيرون…