fbpx

سيادة العرق والأنظمة الطبقيّة في معاقل الديموقراطيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السؤال الذي يطرح نفسه أمامنا ليس ما إذا كان النظام الطبقيّ له أصول إلهيّة أو ما هي طبيعته وشكله قبل الاستعمار، بل كيف يبدو في الوقت الحاضر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان يقول “لا أستطيع التنفّس”. عندما شاهدتُ هذا المقطع على التلفاز لجورج فلويد وهو يلفظ أنفاسَه الأخيرة صريعاً إثر عنف الشرطة (كانت الأسلحة مُشهَرة ورُكبَة شرطيّ تضغط على رقبته)، فسّر عقلي المضطرب هذه الصور باعتبارها إحدى الأعمال الوحشيّة الروتينيّة التي تحدُث باستمرار، والتي يستهدف خلالها الجميعُ تقريباً -وخاصّة رجال الشرطة- المواطنين الأميركيّين من أصول أفريقيّة (على الأخصّ الشباب والمراهقين منهم) ويقومون بمطاردتهم. ثمّ نظرتُ إلى المشهد الذي لا يُطاق، أو بالأحرى لم أستطع رفع عيني عن الشاشة، لأنّ المذيع والكاميرا ركّزا على مشهد الشرطيّ وهو يضع رُكْبتَه فوق رقبة جورج. ثمّ ترى بعد ذلك… لكن مهلاً، لنتأمّل المشهد قليلاً: هل كان الشرطيّ يضع يده في جيبه؟ وهل كان ينظر مبتسماً بطريقة تصوّرتُ أنّها كانت من أجل التقاط بعض الصور؟ مرّت بذهني وأنا أنظر إلى هيئته تلك صور فوتوغرافيّة بالأبيض والأسود لصيّادين من القرن التاسع عشر بجانب آخر غنيمة اصطادوها؛ ربّما كانت نمراً (يغمرني حاليّاً مزيج من الاستياء والغضب والحزن). خطر ببالي تلقائيّاً السؤال الاعتياديّ: “لماذا؟” وهو نفس ما خطر ببالي بالفعل عندما قرأت أوّلَ مرّة عن أحمد أربيري الذي أُطلِقت النيران عليه وهو يركض في 13 فبراير/شباط من هذا العام، وظهر مقطع مسجَّل لجريمة القتل بعد شهرين من وقوعها. كانت الإجابة الوحيدة الممكنة هي: لأنّهم من ذوي البشرة السوداء.

مظاهرات أميركية احتجاجاً على مقتل جورج فلويد

بدأت في كتابة هذه المدوّنة بعد شهرٍ من مقتل جورج، في يوليو/تمّوز تحديداً، واليوم هو آخر أيّام شهر سبتمبر/أيلول. خلال هذه الفترة، وقعت حوادث كثيرة لرجال شرطة يعتدون على رجال سود (ونساء أيضاً) ويقتلونهم؛ وقد حظيَت تلك الحوادث باهتمام دوليّ كبير، ويرجع السبب الرئيسيّ في ذلك إلى حركة “حياة السود مهمّة” في الولايات المتّحدة. مثلما قد يظنّ المرء، فإنّ هذه الإساءة الصارخة في استخدام السلطة من جانب الشرطة الأميركيّة قد خضعت للتحقيق إثر الاحتجاجات الشعبيّة الضخمة التي ما لبثت أنْ أدانت حادثة أخرى صدمَتنا ونحن نشاهدها على شاشات التلفاز، وهي واقعة إطلاق النار ستّ مرّات أو سبع مباشرةً ومن مسافة قريبة على ظهر جاكوب بليك في أغسطس/آب الماضي. لن يتمكّن جاكوب من المشي مُجدّداً لأنّ الرصاصات الستّ أو السبع قطعَت حبله الشوكيّ. فكّرت وأنا أشاهد الأخبار على التلفاز أنّ هذا لا يمكن أنْ يكون حقيقيّاً: الشرطيّ أطلق النار ببساطة على ظهره دون أيّ استفزاز من جاكوب الذي كان يفتح باب سيّارته ليركبها مثلما قد يفعل في أيّ يوم عاديّ آخر.

لكن هذا حدث بالفعل. واندلعت احتجاجات ومظاهرات ضخمة في أعقاب عمليّة إطلاق النار تلك. لكن ستظلّ حادثتان غيرُ عاديّتين وقعتا في مدينة كينوشا راسختَين في الأذهان إلى الأبد. الأولى لشابٍّ أبيض فتح النيران ببندقيّة هجوميّة على المتظاهرين السلميّين بَينما تمرّ مدرّعات الشرطة بجانبه. كانت بشرته البيضاء هي حصنُ حمايته وتذكرةُ عِتقه من الموت، لكن لم يُحالف الحظّ جاكوب وجورج وكثيرين غيرهم. أمّا الثانية، فمثّلت الوجهَ القبيح لرئاسة ترامب حينما هاجم “الرجلُ البرتقاليّ” نفسُه (وهو الاسم الذي تطلقه صديقتي إينا على الشخص الذي نعرفه جميعاً) مدينةَ كينوشا وأجَّج نيرانَ الفرقة والانقسام من خلال إشادته بقوى القانون والنظام ومحاولته إيجاد أعذار لدور حراسة القانون الذي أدّاه الشابّ الأبيض حينما أخَذ على عاتقه قتلَ مَن يتجرّأ على معارضة سيادة البِيض في هذه البلاد.

جدارية تحمل اسم جورج فلويد في أميركا

لذلك، ومع أنّه كانت هناك تغطية واسعة وكثير من التحليلات خلال الشهور التي أعقبت مقتل جورج على يد الشرطة في وضح النهار، فأنا أكتب هذه الكلمات لا لإعلامِكم بما حدث وإنّما تكريماً للضحايا وتوثيقاً لشهادتي الخاصّة. وسأسرِد في السطور التالية روايةً شخصيّة وتاريخيّة للغاية حول ما عرفتُه عن العنصريّة والممارسات المتطرّفة التي تحدُث حاليّاً في الولايات المتّحدة وغيرها من الأماكن حول العالم، خاصّة مسقط رأسي: الهند. تحليلي هو أنّ العنصريّة -وادّعاء التفوّق والسيادة الذي تمثّله- قد تلقّت دفعة قويّة للغاية في هذه الحقبة الراهنة التي تُهيمن عليها الأيديولوجيّات والأنظِمة ذات التوجّهات اليمينيّة المتطرّفة والميول القوميّة الإثنيّة.

ربّما لستُ مُلمّة كلّيّاً بالحياة اليوميّة في الولايات المتّحدة؛ إذ لم أعِش هناك، ولم أزُر أميركا طوال حياتي سوى 4 مرّات فحسب: مرّتين في إطار عملي مع الأمم المتّحدة، ومرّتين خلال عطلتين قصيرتين. لكنني كنت أُولِي اهتماماً خاصّاً لسياسات وثقافة الولايات المتّحدة منذ مراهقتي، شأني شأن كثيرين غيري ممّن نشأوا في الهند خلال الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي؛ وكنّا مُدرِكين تماماً لما تعنيه القوّة الأميركيّة. بطبيعة الحال -إذا كانت الراهبات الأيرلنديّات في مدرسة الراهبات الداخليّة التي التحقتُ بها في مستوطنة دارجيلينغ نجحَن في تحقيق ذلك- كان من الممكن أنْ أصبحَ محبِّةً لكينيدي وكارهةً لفيتنام وداعمةً للإمبرياليّة الجديدة. لكن، بدلاً من ذلك، غمرت انتفاضاتُ المواطنين التي كانت تجتاح الهند والعالم بأسره جميعَ جوانب حياتي وأنا في السابعة عشرة من عمري، عندما تركتُ المدرسة والتحقتُ بالجامعة، التي كانت نافذتي على العالم الحقيقيّ. كنّا وقتها مؤدلَجين ومتعصِّبين للغاية، لا بسبب ما يحدث في بلادنا فسحب، وإنّما أيضاً بسبب ما يحدث في الولايات المتّحدة التي كانت حينها تشهد ذروةَ الحركة المناهضة لحرب فيتنام وصعودَ حركة الحقوق المدنيّة وعصرَ مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس. وإلى جانب قراءاتي المُنتقاة من تولستوي ودوستويفسكي والكُتّاب البنغاليّين العظماء، كنتُ أقرأ أيضاً لجيمس بالدوين.

حياة السود اليوم وإرث تجارة الرقيق

قال معلّقون من الولايات المتّحدة، ومناطق أخرى من العالم، إنّ ما يجري الآن من زيادة وتيرة قتل المواطنين السود -لمجرّد أنّ بشرتهم سوداء ولأنّه يُنظَر إليهم دائماً على أنّهم يشكّلون خطَراً محتمَلاً، مع منح الحصانة للأفراد المنتسبين لأجهزة إنفاذ القانون- لا يُعَدّ حوادثَ فريدة من نوعها في تاريخ البلاد. ومثلما قالت نيكول هانا-جونز، في مقالتها شديدةِ اللهجة في صحيفة “ذي نيويورك تايمز” التي نُشِرت في يونيو/حزيران الماضي، “مرّت 150 عاماً على تطبيق الأميركيّين البِيض لقوانين العبيد التي تنصّ على أنّ الأشخاص البِيض الذي يتصرّفون لما فيه مصلحة طبقة المزارعين لن يُعاقَبوا على قتل شخصٍ أسود، حتّى لو كان القتل بسبب أبسط جرمٍ مزعوم. تحوّلت هذه التشريعات إلى قوانين للسود، أقرّها السياسيّون الجنوبيّون البِيض في نهاية الحرب الأهليّة لتجريم بعض السلوكيّات، من قَبيل العطالة عن العمل. وفيما بعد أُلغِيَت قوانين السُّود تلك، ثمّ حُرِّفت، وفي النهاية وعلى مدار عدّة عقود تحوّلت إلى ممارسات التوقيف والتفتيش الجسديّ والعمل بنظريّة ’النوافذ المحطَّمة‘ التي تشجِّع على التنميط العِرقيّ؛ وكُلّ هذا بالطبع مع كفالة الحصانة للمسؤولين بموجب قانون الحصانة المؤهَّلة”. ربّما تغيَّرت وسائل الرقابة الاجتماعيّة، لكن لم يتغيّر هذا العُرف غير المكتوب الذي يمنح أفرادَ دوريّات الشرطة البِيض الحقَّ القانونيّ في قتل الأشخاص السود الذين يُرى أنّهم ارتكبوا مخالفات بسيطة أو خرَقوا النظام الاجتماعيّ.

شاهدتُ الوثائقيّ الذي يَستعرض جولةَ ميشيل أوباما للترويج لِمذكّراتها “وأصبحتُ” (Becoming). كنت قد قرأتُ الكتاب العامَ الماضي، ولكنّ رؤيةَ مقتطفات من الكتاب حيّةً على الشاشة حاليّاً في ظلّ حركة “حياة السود مهمّة” سلّطت الضوء على المصاعب الهائلة التي واجهَتْها أسرة سوداء في الولايات المتّحدة في سبيل سعيها -قبل كلّ شيء- إلى شغل أكبر المناصب ثمّ العيش فيما يسمّى -توريةً- “البيت الأبيض”. لم تغِب المفارقة عن ميشيل. فقد قالت: “أنحدرُ من نسل العبيد، كانت جَدّة جدّي الكبرى في الرقّ”. تحدّثت ميشيل أيضاً عن الخطأ في تصوّر أنّه بسبب وصول أسرة سوداء واحدة -أسرة أوباما- إلى البيت الأبيض فإنّ المجتمع بأسره أصبح الآن مُبرّأً من خطيئته الأصيلة المتمثّلة في العبوديّة والعنصريّة. لم تكن أميركا تعيش في مجتمع ما بعد العبوديّة. فلقد بلغ قتلُ الأشخاص السود، خاصّة الشباب منهم، ذروتَه خلال نهاية فترة حكم أوباما الثانية (كاس مودا، يونيو/حزيران 2020). بَدَا وكأنّ وقت الانتقام قد حان وأنّ أفراد دوريّات الشرطة البِيض يعيدون تأكيد سيطرتهم وسلطتهم.

كثيراً ما تستخدم جماعات حقوق الإنسان والعاملون في مجال التنمية الدوليّة مصطلح “العبوديّة” للإشارة إلى مجموعات من الناس الذين سُلبت منهم حرّيّتُهم، وأُجبروا على طاعة أسيادهم؛ في حين يستخدم أنصار الحَوْكَمة النسويّة -بحسن نيّة- هذا المصطلحَ مراراً للإشارة إلى الهجرة الدوليّة للنساء اللاتي يعملْن في صناعة الجنس في المناطق الأكثر ثراءً من العالم. ويقال إنّهنّ جميعاً “تعرّضن للإتجار بهنّ”، وهو ما يعتبر شكلاً حديثاً من أشكال العبوديّة. بيد أنّ الاستخدام المتكرّر وغير المحدّد لهذا المصطلح يجرِّده في الواقع من الأهمّيّة التاريخيّة الهائلة والفريدة التي تنطوي على 400 عام من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسيّ من أفريقيا إلى أوروبّا والمستعمرات الأوروبّيّة في الأميركتَين ومنطقة الكاريبي؛ والتي ما تزال تداعياتها تُلقي بظلالها حتّى يومنا هذا. ساهمت هذه التجارة على نحو متزايد في نمو الرأسماليّة؛ وأثْرت الدول الأوروبّيّة وأصبحت أساس هيمنتها على العالم، والتي ما يزال قسم كبير منها مستمرّاً حتّى يومنا هذا في صورة تعزيز التكوين الثقافيّ لـلـ”آخر”. لا يهمّ أنّ الصينيّين تجاوزوا الأوروبّيّين من حيث حجم الناتج المحلّيّ الإجماليّ الذي يأتي في المرتبة الثانية فقطّ بعد الولايات المتّحدة. الواقع أنّ السياق الذي يرِد فيه ذِكر الصينيّين سواء تلميحاً (في التقارير الصحفيّة الأميركيّة والأوروبّيّة) أو صراحةً (في خطابات ترامب والصحافة الصفراء) في أعقاب تفشّي فيروس كورونا، كان يسعى أساساً إلى التأكيد على مبدأ التفوّق الأوروبّيّ/الأميركيّ؛ إذ يصوِّر الصينيّين على أنّهم عِرق ماكر وشيوعيّون يُخفون كثيراً من الأسرار ولذا فهم غير جديرين بالثقة على الإطلاق.

من خلال تذكّر أهمّيّة تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسيّ ووحشيّتها التي لا تُتخيَّل -وتذكير الناس بها- فإنّنا نُظهر ونبرهن على حقيقة ما حدث لأجيالٍ من البشر فُقِدوا، ولأجيالٍ من الرجال والنساء والأطفال تحطّمت وتشوّهت ودُمِّرت حَيَواتهم، ونحيي ذاكرتهم. وهذه هي مسؤوليّتنا الجماعيّة كبشر في عالم تسوده العولمة.

الأنظمة الطبقيّة باعتبارها ممارسة عنصريّة: تقليد راسخ أمْ ممارسة تاريخيّة

في حين أنّ الإرث المباشر الذي خلَّفه تاريخ تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسيّ يبدو ملموساً في العنصريّة والإفلات من العقاب على المستوى المؤسّسيّ في الولايات المتّحدة، فإنّ التأكيد على ما يسمّى بالتفوّق العرقيّ له مظاهره وشعاراته في مختلف أرجاء العالم أيضاً. ففي الهند يُطلق عليه “نظام التمييز الطبقيّ” الذي يحظى بمسار مستقلّ جديد بالكامل في ظل هذا العصر الذي يُهمين عليه القوميّون الهندوس اليمينيّون (المتعصّبون للتفوّق العرقيّ). علاوةً على ذلك، يُعتبر الهنود من أكثر الأشخاص اهتماماً بنوع العرق الذين كان من سوء طالعي أنْ أعرفهم. فضلاً عن أنّ الارتباط بين الطبقات العُليا والبشرة فاتحة اللون يتغلغل بعمق في وعينا الجمعيّ. كثيراً ما يسألني أصدقائي في الغرب عن النظام الطبقيّ في الهند، وكيف نشأ. وهل صحيح أنّ مفهوم التمييز الطبقيّ له أصول سماويّة مقدَّسة؟ أجد هذه الأسئلة صعبة وغائِيّة لأنّها تُقدِّم سرداً تاريخيّاً في ضوء الحاضر. وهي تثير مزيداً من الأسئلة أكثرَ من تقديمها إجابات؛ وتكمُن صعوبتها في أنّها أسئلة لا توجد إجابات عنها. يُزعم أنّ التراتُبيّات الطبقيّة في الهند لها أصل سماويّ؛ ولكن بما أنّ الهندوسيّة ليست ديانة سماويّة (كاليهوديّة والمسيحيّة والإسلام)، ممّا يعني أنّنا ليس لدينا كتاباً مقدَّساً مثل الإنجيل أو التوراة أو القرآن، لا يمكن تتبّع علاقة مباشرة تربط بين ما يسمّى بكلمة “إله” التي تصف مجموعة ثابتة من القواعد المتعلّقة بكيفيّة تنظيم المجتمع، والطريقة التي يُمارس بها التمييز الطبقيّ اليوم في القرن الحادي والعشرين. وبما أنّه لا توجد في الواقع علاقة بين الديانات السماويّة والمجتمعات الحاليّة والانقسامات الاجتماعيّة التي يعيشون فيها؛ فلماذا إذن قد تختلف الهند عن ذلك؟

لعلّ الفكرة القائلة بأنّ الممارسات المجتمعيّة، مثل الطبقيّة، لها أصلٌ إلهيّ في الهند أو الشرق بصورة عامّة، بخلاف الانقسامات الاجتماعيّة في الغرب على غرار الطبقات الاجتماعيّة أو العرق، هي عبارة عن فكرة استشراقيّة بالية نشأت خلال القرون التي شهدت تفاعلات طويلة الأجل بين الدول الأوروبّيّة والمجتمعات التي استعمرتها في العصر الحديث. ويقال إنّ الإمبراطوريّة الأوروبّيّة قد تمكّنت من السيطرة على أكثر من 85% من العالم في وقت الحرب العالميّة الأولى، بعد أنْ عزّزت سيطرتها على مدى قرون (موكوبادهياي 2007). كان لهذا التفاعل آثار عميقة على الطريقة التي أُعِيد بها تنظيم وفهم العلاقات الاجتماعيّة بين الشعوب والمجتمعات المحلّيّة. فقد سعى المشروع الاستعماريّ إلى الهيمنة على الشعوب الخاضعة لسيطرته وإخضاعها، ليس بالقوّة دائماً، وإنْ كان استخدام القوّة حقيقة واقعة على الدوام. فقد أتقن الاستعمار البريطانيّ والفرنسيّ في أفريقيا وآسيا شكلاً من أشكال فن الحكم الاستعماريّ الذي اشتمل على بناء سلطة مركزيّة (متمثّلة في الدولة الاستعماريّة) من خلال الاستعاضة عن الترتيبات الاجتماعيّة والسياسيّة المتباينة والمتقلّبة التي كانت تدار من خلالها العلاقات داخل المجتمعات المختلفة وفيما بينها حتّى الآن. ولقد فعلوا ذلك من خلال تقنين ممارسات المجتمعات المختلفة، ومن ثَمّ إنشاء مجتمعات “محدودة” منفصلة تقوم على أساس العلاقات الموروثة (مثل التمييز الطبقيّ في الهند، والطوائف الدينيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي الهند أيضاً، والانتماء العرقيّ بصفة رئيسيّة في أفريقيا)، وكلّ منها تحكُمه أعرافه وتقاليده الخاصّة. هذا التقنين في حدِّ ذاته يستند إلى فهم استعماريّ لعلم اجتماع الشعوب الخاضعة تحت السيطرة الاستعماريّة، وما هي الدوافع الكامنة وراء ممارساتهم الاجتماعيّة. ففي شبه القارّة الهنديّة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تجسَّد ذلك في إدراك أنّ الدين هو أساس الالتزامات العرفيّة والأخلاقيّة، التي تحوّلت بعد ذلك إلى قوانين. أمّا في أفريقيا، فقد تأسّس نظام قانونيّ مزدوج: نظام أوروبّيّ يحكم العلاقات بين المستعمَرين، ونسخة متدنّية ومعدَّلة من القوانين المحلّيّة التي يخضع لها السكّان الأصليّون (كبير 2002:12، ممداني 1996، موكوبادهياي 1998).

في حين أنّ الإرث المباشر الذي خلَّفه تاريخ تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسيّ يبدو ملموساً في العنصريّة والإفلات من العقاب على المستوى المؤسّسيّ في الولايات المتّحدة، فإنّ التأكيد على ما يسمّى بالتفوّق العرقيّ له مظاهره وشعاراته في مختلف أرجاء العالم أيضاً.

خلال المرحلة التي تشكّل فيها نظام التمييز الطبقيّ كما عرفناه، صارت المناقشات بين الضبّاط الاستعماريّين والنخبة الهنديّة من السكّان الأصليّين حول ماهيّة التقاليد الصحيحة فيما يتّصل بحدود وقواعد النظام الطبقيّ بمثابة النسخة الرسميّة. وقد أصبحت تلك النسخة هي الشكل “الصحيح” للنظام الطبقيّ، الذي يُعَدّ تحديثاً للتقاليد، وهو ما أدّى في النهاية إلى فرض هذه الممارسة. وقد وصفت ماني هذا النهج في فهم المجتمع الهنديّ الذي ظهر في كنف الحكم الاستعماريّ بأنّه خطاب استعماريّ أيّده مع مرور الوقت المسؤولون والمبشرون والنخبة من السكّان الأصليّين (ماني 1989: 90). أوضحت ويندي دونيغر أنّه نظراً للتنظيم الهائل وتوحيد كلّ ما يحكم الحياة العامّة، فلم يكن من المستغرب أنْ تخضع المعتقدات الدينيّة أيضاً للتنظيم من قبل الدولة الاستعماريّة. بيد أنّ المزاعم الاستعماريّة بشأن دور الدين في حياة الشعوب الخاضعة لسيطرة القوى الاستعماريّة تستند إلى إدراك متأخّر تحوم حوله الشكوك نابع من الممارسات الهندوسيّة بعد قرون عديدة (دونيغر 2009:80).

السؤال الذي يطرح نفسه أمامنا ليس ما إذا كان النظام الطبقيّ له أصول إلهيّة أو ما هي طبيعته وشكله قبل الاستعمار، بل كيف يبدو في الوقت الحاضر. يبدو نظام التمييز الطبقيّ كما اعتدنا أنْ نعرفه في القرن العشرين: المجتمعات التي يحكم كلّاً منها مجموعةٌ من العادات والتقاليد الخاصّة بها، ويحيط بها حدودٌ قاسية تُسيطر عليها طقوس الطهارة والنجاسة، وتراتُبيّات الطبقات العُليا والدُّنيا والمنبوذين، وهي أمور تتحدّد منذ الولادة كأساس للمكانة الاجتماعيّة. وكما ألغَى التعديل الثالث عشر في دستور الولايات المتّحدة الأميركيّة العبوديّةَ والاسترقاق الجبريّ عام 1865، فقد اتّسم الدستور الهنديّ الذي أُقرّ في 26 يناير/كانون الثاني عام 1950، بأنّه دستور علمانيّ يحظر التمييز على أساس النظام الطبقيّ. إضافة إلى ذلك، سعت لوائح محدَّدة في الدستور إلى تعويض الطبقات الاجتماعيّة الدُّنيا عن الأخطاء التاريخيّة التي تعرّضوا لها من خلال توفير حصص للقبول في المؤسّسات التعليميّة الحكوميّة والوظائف (وهو ما يسمّى بالتمييز الإيجابيّ). ولأنّ طبقات محدّدة (ضمن الطبقات الدُّنيا) قد ذُكِرت في هذه اللوائح، فقد أُطلِق على المنتمين إلى الطبقات الدُّنيا في الهند بعد الاستقلال لقب “الطبقات المسجَّلة”، في حين عُرِفت المجموعات القبليّة التي يزعم أنّها ليست جزءاً من النظام الطبقيّ بـ”القبائل المسجَّلة”. وقد حلّت هذه المصطلحات محلَّ الكلمات التحقيريّة التي استخدمت للإشارة إلى الأشخاص من ذوي الطبقات الدُّنيا في الاستخدام اليوميّ. في حين صاغ أفراد الطبقات الاجتماعيّة الدُّنيا مصطلحاً خاصّاً بهم للتعبير عن أنفسهم وللإشارة إلى نضالهم، وهو تعبير “داليت” أو “المضطهدين – المنبوذين”. وقد حلّ مصطلح “داليت” -في حالات كثيرة- محلَّ المصطلحات الأخرى، غير أنّ مصطلحَي “الطبقات المسجَّلة” و”القبائل المسجَّلة” -وهما المصطلحان الرسميّان في الدوائر الحكوميّة، والمستخدمان الآن- صار لهما، بمرور الوقت، معناهما الحاليّ المهين.

قُدُماً إلى الحاضر: الحياة الآخِرة للعِرق والأنظمة الطبقيّة

تماماً مثلما أُلغِيَت قوانين العبوديّة في الولايات المتّحدة التي تحوّلت تدريجيّاً إلى قوانين السود (مجموعة من القوانين التي تحكم سلوك الأميركيّين من أصول أفريقيّة)، لكنّها تحوّلت أخيراً على مدى عقود إلى ممارسات التوقيف والتفتيش الجسديّ، المرتكزة على نظريّة “النوافذ المحطَّمة” في علم الجريمة والحصانة المؤهَّلة – مثل ذلك تماماً، مرّت أيضاً ممارسة النظام الطبقيّ في الهند بتغيّرات عديدة منذ الخمسينيّات من القرن الماضي. ومن الأمور المشتركة اليومَ بين إرث العبوديّة والممارسة الطبقيّة، أنّ التمييز وعدم المساواة قد اكتسبا طابعاً مؤسّسيّاً. “ففي الولايات المتّحدة اليوم ما يزال الأميركيّون السود هم أكبر مجموعة بشريّة منفصِلة عن محيطها في أميركا، وهم عُرضَة للعَيش في أحياء شديدة الفقر خمسةَ أضعاف الأميركيّين البِيض. ولا يَقي الدخلُ العالي السودَ من المساوئ العنصريّة” (نيكول هانا-جونز 2020). أمّا في الهند، يجري الآن، إلى حدٍّ ما، تخفيف ممارسة “حظر المِساس” -وهي، على سبيل المثال، حظر قيام شخص من طبقة دُنيا بمسّ شخص من طبقة عُليا، أو مسّ أيّ شيء يمكن أنْ يستخدمه الشخص من الطبقة العُليا- وذلك من خلال قوانين وممارسات اجتماعيّة فعليّة؛ غير أنّ فكرة الفصل ما زالت حيّة وماثلة في طرق تنظيم الإسكان والوصول إلى أماكن التعليم والوظائف والقروض وامتلاك العقارات، وفي جميع الأشكال الأخرى للحياة اليوميّة.

تتغلغل الطبقيّة الحياة اليوميّة للهنود وفي وعِينا وممارساتنا اليوميّة. ولأّنها متضمَّنة في الممارسات اليوميّة، وجزءٌ لا يَتجزّأ منها، فإنّ التراتُبيّات الطبقيّة غير مرئيّة حتّى في أوساط الطبقة العُليا والوُسطى المتعلّمة الليبراليّة في الأماكن الحضريّة، لأنّها باتت أمراً طبيعيّاً. سألَنا صديقٌ وزميلٌ هنا في أوروبّا ذات يوم، وكنّا نحن الهنديّان الوحيدان في ذلك التجمّع، كيف لنا أنْ نعرف مَن ينتمي إلى طبقة دُنيا أو عُليا في ذلك النظام الطبقيّ. على الفور أجابه رفيقي الهنديّ “ليس علينا أنْ نعرف أصلاً، فهم يدركون ذلك ويعرفون حدودَهم” (ويعني أنّ مواقِعَنا على ذلك النظام الطبقيّ الهندوسيّ هي شيءٌ عاديّ وقاعدة مُدرَكة، ومَن ينتمي إلى طبقة دُنيا يعرف موقعَه ويتصرّف تبعاً له). غير أنّنا ندرك ذلك أيضاً، وقد أثار أدنى تحدٍّ لعالم الامتيازات هذا، وما يزال، الغضَب على المستويات العامّة والخاصّة. ففي عام 2018، في تجمّع بمنزلي في مدينة كالكوتا (الهنديّة)، كان محور الاهتمام يدور حول ابنة ابن عمّي، وهي شابّة جميلة في سنّ العشرين. سبب شهرتها هو أنّها تقدّمت وقُبِلَت لدراسة البكالوريوس في الإدارة الفندقيّة في إحدى أفضل الجامعات الحكوميّة في البلاد. ولقد أحببتُها بسبب بعض التحركّات المتمرّدة التي قامت بها في اختيار ذلك التخصّص؛ ففي أسرة مكتظّة بحملة الدكتوراه في مهن علميّة معترَف بها، اختارت التقديم لدراسة مجال مهنيّ غير معترَف به (في طبقتها الاجتماعيّة) ومحتقَر. وليس ذلك لأنّ علاماتها في الثانويّة لم تكن عالية، وهي حقيقة سارعَت إلى الإشارة إليها، وهي على إدراكٍ للامتيازات التي تحظى بها طبقتها. فقد كانت علاماتها من أعلى العلامات في قائمة القبول؛ وعن هذا قالت “كنتُ لِأصبح الأولى لولا تلك ’الطبقات المسجَّلة‘ [وهي الطبقات الدُّنيا]، الذين كانوا هناك لمجرّد أنّ لهم مقاعد محجوزة سلفاً”. بهذا التعليق غير المسؤول والمُلقى جُزافاً، النابع من عفويّة وغرور بسبب الامتيازات الطبقيّة، خرجَت من قائمتي للأشخاص المفضّلين.

إلّا أنّ التفوّق الطبقيّ لا يُعبَّر عنه في المجال الخاصّ فقطّ؛ ولكنْ يتمّ التأكيد عليه في المجال العامّ أيضاً. ومع صعود القوميّين اليمينيّين الهندوس إلى السلطة وتولّيهم الحكومة في الهند، صار التمظهر العموميّ لذلك التفوّق الطبقيّ والتأكيد عليه في المجال العامّ (الذي كان يُعتبَر أمراً مخجِلاً في حقبةٍ ماضية) هو الوضع الطبيعيّ الجديد، مؤدّياً إلى نتائج كارثيّة. وعلينا جميعاً ألّا ننسى روهيث ڤيمولا، طالب الدكتوراه بجامعة حيدر آباد (جنوب الهند) الذي مات منتحراً في يناير/كانون الثاني 2016. كان ڤيمولا طالباً شابّاً لامعاً، يدرس بمنحة حكوميّة (متاحة لطلبة الطبقات المسجّلة)، وأثار غضبَ طلّاب آخرين لحرمانِهم من الإقامة في سكن الجامعة. تعرّض لمضايقات شديدة من الجناح الطلّابيّ للحزب الذي صار اليوم هو الحزب الحاكم، واتُّهِم زوراً بالاعتداء على أحد أعضاء الجناح، فحُجِبَت منحته، سهواً أو عمداً، من قِبَل سلطات الجامعة، ثمّ أُلغِيَت في نهاية المطاف. ولحرمان هذا الشابّ الحسّاس من بناء مستقبله، ومع الهجوم المتواصل عليه، أنهى حياتَه احتجاجاً، ودعا في ورقةٍ تركها وراءه إلى الانتباه إلى إساءة المعاملة التي يتعرّض لها طلّاب الطبقات الدُنيا من قِبَل سلطات الجامعات. لم يتمّ التحقيق في وفاته، على الرغم من حالة الغضب والثورة العارمة التي اجتاحت طلّاب الجامعات الهنديّة في أرجاء البلاد.

لا يعني هذا أنّ حالة روهيث كانت أولى الحالات، أو أنّها ستكون آخر الحالات في التعامُل السيّئ الذي يلقاه الطلّاب “المضطهدون” في المؤسّسات التعليميّة الهنديّة. ولكنْ في عهود سابقة ربّما كان ممكناً تشكيل لجنة تحقيق، وربّما أطاح الأمر ببعض المسؤولين. إلّا أنّ وفاة روهيث جاءت في عهدٍ صارت فيه عقيدة تفوّق وسيادة الطبقة العُليا الهندوسيّة أمراً شرعيّاً كشكلٍ من أشكال العمل السياسيّ. وقد صارت عمليّات الإعدام خارج القانون والتعدّي والاغتصاب التي يتعرّض لها “المضطهدون” من الرجال والنساء، وغيرُهم من الطبقات الأفقر من بين الأقلّيّات، السمة المميّزة للثقافة المتنامية حول سيادة الطبقة العُليا التي جرى تطبيعُها من خلال وسائل تواصل اجتماعيّ استغلاليّة وإجراميّة متسارعة الانتشار. فقد الإعلام السائد مركزه الليبراليّ؛ وبعض أجزائه قامت بتطبيع الانتهاكات الجسيمة التي تقع في البلاد، بَينما كانت غيرها تُعادي وبشكلٍ واضح أيّ شيءٍ يبدو ليبراليّاً ولو بشكلٍ ضعيف. أسهمَت النزعة القوميّة العِرقيّة للتيّار اليمينيّ بقيادة مودي وحزب بهاراتيا جاناتا BJP في إعادة تكوين شكلٍ من أشكال الذكوريّة السامّة، من خلال تغذية مشاعر الاستياء لدى شباب الطبقة العُليا، الذين هم أساساً (ولكن ليس حصراً) من الفئات التي لَم تحظَ بالتعليم ولم تجد عملاً، وليس لديهم مستقبل واضح، والذين يمكنهم توجيه جميع شكاواهم ومَظالِمِهم وإلقائها على كَون الخدمات الحكوميّة “تُسلّم” إلى “الداليت” والأقلّيّات. وفي لُبّ تلك السياسات نزع الشرعيّة عن الدستور العلمانيّ الهنديّ.

ربّما كانت هناك نظائر لنزعات القوميّة العِرقيّة اليمينيّة المتطرّفة الموجودة في الولايات المتّحدة والهند، ولكنّ تلك النظائر لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام العالميّ. فالولايات المتّحدة في قلب السياسة العالميّة، وهي “الديمقراطيّة العُظمى في العالم”، وَفق تقديراتها الخاصّة، ومِن ثَمّ فالتجاوزات والانتهاكات التي تقع فيها تُلحَظ بشكلٍ أوضح. يوميّاً تنشر جميع الصحف الليبراليّة في أوروبّا والولايات المتّحدة ما اعتبره ترامب الوضعَ الطبيعيّ الجديد. ففي الوقت الحاضر، كلّ شيء عن ترامب وكيف يخطّط لسرقة الانتخابات الأميركيّة. أمّا الهند، من ناحية أخرى، فربّما كانت الديمقراطيّة الكُبرى في العالم (نتيجة تعداد ناخبيها)، ولكنّها على هامش الاهتمام العالميّ؛ وانتهاكاتها وتجاوزاتها “لا يُنظَر” إليها على أنّها انتهاكات للديمقراطيّة الليبراليّة، وإنّما هي محض سياسات “الآخر”.

عودة إلى المستقبل: سياسات المساواة المطلقة

لكن أمثال ترامب ومودي لن يصنعوا التاريخ، على الرغم من أنّ هذا ما سيبدو عليه الأمر على المدى القصير والمتوسط. هل هذا التأكيد السابق مجرّد كلام فارغ؟ مجرّد مثاليّة رومانسيّة مفرطة في الثوريّة؟ لا أظنّ أنّ الأفكار الثوريّة يمكن أنْ تُرفض لمجرّد أنّها لا تبدو منطقيّة وفقاً للإطار السياسيّ الحاليّ، ذاك الإطار المدفوع بالمصلحة الذاتيّة والعنف والاستقطاب. لن يبقوا للأبد لأنّهم موجودون في السلطة على المدى القصير فحسب ولأنّ الناس ستنساهم بعد فترة قصيرة. لكن نسختهم من السياسات التي تتّسم بالعنف سوف تترك آثاراً يمكن تقفيها، ما لم يتمّ محوها بسياسات مساواة ثوريّة مطلقة.

هذا هو ما تعلّمنا إيّاه حركة “حياة السود مهمّة”، وهي حركة تأسّست عام 2013 لكنها أصبحت أكثر فاعليّة عقب مقتل جورج فلويد. فقد حشدت الناس -خاصّة الشباب- في الولايات المتّحدة بجميع أطيافهم، ولم يَعُدْ من الممكن تصنيفها كحركة خاصّة بالأميركيّين من أصول أفريقيّة فحسب. وتقود الحركة الآن أكبر تظاهرات شهدتها الولايات المتّحدة خلال نصف قرن، وما زالت مستمرّة في التظاهر. عبَّرت الحركة أيضاً الحدود الدوليّة وأصبح لها تواجد نشط في أوروبّا، ما أدّى إلى إثارة حالة من مراجعة الذات في أوروبّا التي تفخر جزافاً بنفسها، مدَّعيةً أنّ قوات الشرطة لديها “ليست كمثيلتها في الولايات المتّحدة”. في نفس السياق، غيرت جزيرة غوري السنغاليّة -التي كانت طيلة عقود محطّة رئيسيّة في تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسيّ- اسم أحد ميادينها، وهو ميدان “أوروبّا”، ردّاً على مقتل جورج فلويد في الولايات المتّحدة واستجابةً للحركة العالميّة التي ألهمَتها هذه الحادثة، ليصبح اسمه الآن ميدان “الحرّيّة وكرامة الإنسان”، وفقاً لقرار من بلديّة الجزيرة (صحيفة “ذي ديلي ستار” اللبنانيّة، 9 يوليو/تمّوز 2020).

لكن ما الذي يخبرنا به كلُّ هذا؟ يبدو ظاهريّاً أنّ الاحتجاجات تتمحور حول العنصريّة المؤسّسيّة في نظام العدالة. لكن الأهم من ذلك أنّ المتظاهرين -السود والبِيض والآسيويّين واللاتينيّين- هم مواطنون يطالبون بدولة جديدة، دولة لا مكان فيها لتفوّق العرق الأبيض، دولة يسودها الترابط وليس النزعة الفردانيّة التي تطغى على المذهب الليبراليّ الذي يُصوَّر على أنّه فكر مُتحرِّر من شكليّات العلاقات الاجتماعيّة الطبقيّة أو العرقيّة أو التي تعتمد على نوع الجنس، بينما يحصِّن ذاته ويدافع عنها ويتنافس مع الآخرين على أخذ أكبر قطعة ممكنة من فطيرة الثروة، دولة تستثمر أكثر في الخدمات الاجتماعيّة والمشاريع المجتمعيّة العامّة، وتستثمر بصورة أقلّ في الأجهزة الشرطيّة وأسلحتها العسكريّة. ما تخبرنا به هذه الحركة السلميّة المعارضة للعنف وكثير من الحركات الأخرى المعارضة للعنف حول العالم، من الهند إلى العراق إلى بيروت إلى تشيلي، التي ذكَرتُها في مدوناتي السابقة هو أنّ نهاية “السياسة المعتادة” قد أتت؛ تلك السياسة التسلّطيّة والعنيفة والمغرضة. فقد أصبحنا بحاجة إلى سياسة جديدة “ترغمنا على إعادة النظر في طبيعتنا البشريّة كمخلوقات اجتماعيّة تعيش في هذا العالم، وطبيعة علاقتنا ببعضنا البعض وبالأرض وبكلِّ ما يدعمنا ويطيل بقاءنا” (جوديث بتلر، 2020).

في هذه الأثناء، وبينما أكتب هذه السطور، ما تزال الأعمال الوحشيّة المروِّعة والعنف الذي تمارسه الدولة ضدّ المواطنين متواصلين في معاقل الديمقراطيّات الليبراليّة. لم توجه اتهامات إلى الضبّاط الثلاثة المتورِّطين في حادثة مقتل بريونا تايلور على أيدي رجال الشرطة الذين اقتحموا شقتها في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي بينما كانت نائمة، وجه الاتهام لضابط واحد منهم فقطّ، وذلك لأنّ إطلاقه العشوائيّ للنيران أزعج الجيران وليس لأنّه أصاب بريونا بجروحٍ قاتلة أودَت بحياتها! وكان المبرِّر، كما في جميع حوادث إطلاق النيران والقتل الأخرى، هو أنّ رجال الشرطة كانوا يدافعون عن أنفسهم لأنّ شريك بريونا أطلق النيران من مسدّسه المرخّص (ظنّاً منه أنّ ثَمّة لصوصاً يكسرون الباب). هذه النفس التي تتحدّث الشرطة عن دفاعها عن نفسها هي ذات النفس التي يرى القانون أنّها تستحقّ الدفاع، والتي تمثّل المصلحة الذاتيّة الفرديّة في جوهر الليبراليّة. بينما كانت بريونا تايلور وجورج فلويد وجاكوب بليك… والقائمة تطول، هم “الآخرين” المجهولين: السكّان السود.

في الجزء الآخر من العالم، في العاصمة الهنديّة نيودلهي، اكتسب الظلم وانتهاكات الحقوق أبعاداً جديدة، وقد تستّر ذلك أيضاً وراء الأزمة الهائلة التي سبّبتها جائحة كورونا. فقد اعتقلَت الشرطة ووجّهت اتهامات لجميع الأشخاص النشطاء في الحركة المناهضة “لتعديل قانون المواطنة في الهند” التي وحّدت الشعب من مختلف الطبقات والطوائف والمجتمعات، واختلقت روايةً واهية تماماً وقدَّمتها إلى المحكمة عن حوادث العنف التي وقعت في دلهي في مارس/آذار الماضي، بهدف توريط الضحايا وتبرئة المجرمين اليمينيّين الذين استُؤجِروا لقتل الناس. هناك فساد متفاقم ينخر في قلب الديمقراطيّة الليبراليّة.

ولهذا السبب، لا يكفي أنْ نسعى فقطّ إلى إيجاد الحلول في إطار التعريف الليبراليّ للسياسة، رغم أنّنا لا بدّ أنْ نستمرّ في قرع أبواب العدالة. ويتعيّن علينا أنْ ندعم الحركات التي تعيد توجيه الغضب على نحوٍ لا يعيد إنتاج العنف الذي تعارضه (بتلر 2020). فضلاً عن أنّ الخروج من الإطار الليبراليّ يعني أنّنا بدلاً من تهيئة نضالنا من أجل المساواة في إطار الحدود التي حدّدتها الأجندة الليبراليّة، نبني سياسة المساواة الاجتماعيّة الثوريّة التي تدرك ترابطنا وتضع قيمة كلّ حياة في محورها.

تماماً مثلما أُلغِيَت قوانين العبوديّة في الولايات المتّحدة التي تحوّلت تدريجيّاً إلى قوانين السود (مجموعة من القوانين التي تحكم سلوك الأميركيّين من أصول أفريقيّة)، لكنّها تحوّلت أخيراً على مدى عقود إلى ممارسات التوقيف والتفتيش الجسديّ.

نجحت بعض المشاهد التي لا تنسى لما يمكن أنْ تؤول إليه الأحداث في إيجاد مكانٍ لها إلى جانب العنف المؤسّسيّ الذي يُرتكَب ضدّ أرواح لا تستحقّ الرثاء: فقد جثا ضبّاط الشرطة على رُكَبِهم خلال وقفات تضامنيّة في العديد من المدن حيث قام نظراؤهم بتشويه وقتل الأميركيّين الأفارقة في إقرار بأنّ كلّ حياة، وحياة السود أيضاً، “تستحقّ الرثاء”. في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، وهو اليوم الذي يطلق عليه “اليوم الجمهوريّ” في الهند، أقامت الجبهة المتّحدة للطبقات الخاضعة في الهند احتفالاتهم الخاصّة في نفس المدينة التي تستضيف الاحتفالات الرئيسيّة. وقد رفعت النساء اللاتي قدن الاحتجاجات غير العنيفة العلم الهنديّ برفقة امرأة أخرى من “الداليت”، وهي والدة الشابّ روهيت ڤيمولا. روهيث، أنت لن تموت ما دامت والدتك تذكّرنا جميعاً كيف نتّحد سويّاً في السعي من أجل تحقيق العدالة والمساواة وضدّ النظام الذي حرمك من العدالة بسبب طبقتك الاجتماعيّة.


في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، توفّيت فتاة شابّة من “الداليت”، تدعى مانيشا فالميكي، تبلغ من العمر 19 عاماً، في المستشفى بسبب الإصابات المروِّعة التي أصيبت بها عندما اغتصبت جماعيّاً على أيدي رجال من الطبقة العُليا أثناء عملها في الحقول في قرية في ولاية أُتّر برديش في شمال شرق دلهي. كسر المعتدون عمودها الفقريّ وقطعوا جزءاً من لسانها خوفاً من أنْ تتجرّأ وتشهد على هُويّة الجناة. وقد انحازت الشرطة علناً إلى جانب الطبقات العُليا القويّة سياسيّاً، ونقلت جسدها بعيداً عن المستشفى وأخذته إلى قريتها حيث توسّلت إليهم أمّها وأقاربها للسماح للأسرة بأنْ تحصل على جثّة الفتاة. تجاهلت الشرطة تماماً توسلات العائلة، وأخذت الجثّة وأحرقتها دون أداء الشعائر التقليديّة الأخيرة، وفي جوف الليل على الرغم من أنّه من غير المسموح حرق الجثث ليلاً. في الموت كما في الحياة، تعرّضت مانيشا لمعاملة متدنّية. تتبّعت صحفيّة مثابرة الشرطة، وسألَت مراراً إلى أين سيَأخذون الجثّة، ثمّ أذاعت الخبر لاحقاً. ومنذ ذلك الحين، اندلع الغضب في شوارع المدن الرئيسيّة في الهند؛ في تحدٍّ للأوامر التي تحظر التجمعات أثناء الجائحة، ونزل آلاف الهنود من كلّ العقائد والقناعات إلى الشوارع في 3 أكتوبر/تشرين الأوّل الجاري يطالبون بتحقيق العدالة وتكريماً للضحيّة. يقول الأصدقاء النسويّون إنّ هذه اللحظة في الهند تشبه بزوغ حركة “حياة السود مهمّة”. مانيشا لن تذهب حياتك دون رثاء، فأنتِ بالنسبة لنا جميعاً حياة “تستحقّ الرثاء”.

References

Cas Mudde, Why anti-racism protests are achieving more progress under Trump than Obama. The Guardian International Edition, 18 June 2020.

Donegal, W., (2009) The Hindus: an alternative history. Oxford & New York, Oxford University Press.

Kabeer, N., ‘Citizenship, Affiliation and Exclusion: Perspectives from the South’, IDS Bulletin, 23(2): 12, 2002.

Mamdani, M., (1996) Citizen and Subject, Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism. Princeton, Princeton University Press.

Mani, L., (1989) ‘Contentious Traditions: The Debate on Sati in Colonial India’ in Kumkum Sangari and Sudesh Vaid (ed.), Recasting Women: Essays in Colonial History. New Delhi, Kali for Women.

Mukhopadhyay, M., (2007) ‘Situating Gender and Citizenship in Development Debates: Towards a Strategy’ in M. Mukhopadhyay and N. Singh (ed.), Gender Justice, Citizenship and Development. New Delhi: Zubaan Books & Ottawa: International Development Research Centre.

Mukhopadhyay, M., (1998) Legally Dispossessed: Gender, Identity and the Process of Law, Calcutta: Stree.

Nikole Hannah-Jones, What is owed: Without Economic Justice there can be no true equality. New York Times, 24 June 2020.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!