fbpx

تونس الديموقراطية: مربّع الدكتاتورية يسيِّج الحريّات من جديد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مع اقتراب الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة التونسية، ما زال مسار الانتقال من عهد الاستبداد إلى ديموقراطية ناشئة، متعثراً وناقصاً مع تصاعد المسار التضييقي والقمعي في البلاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فيما نقترب من انتهاء عقد على ذكرى اندلاع الثورة التونسية، يبدو المشهد العام شبيهاً بكانون الأول/ ديسمبر 2010، عندما انتفض محمد البوعزيزي على القبضة البوليسية وأجهزتها في البلاد، وأحرق جسده اعتراضاً على كل شيء. 

اليوم أيضاً تتصاعد وتيرة التضييقات البوليسية من جديد، ما رفع من حدة الاعتراض على هذه الممارسات، وباتَ هناك جهد مدنيّ وحقوقي للتصدي لعودة مظاهر الديكتاتورية. 

 خلال الأيام التي تلت 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، تاريخ تنظيم وقفات احتجاجية ضد مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الأمنية، تلقى 7 نشطاء وشباب مستقلين استدعاءات للتحقيق، من الشرطة. أما تهم هؤلاء وفق وزارة الداخلية فهي، إما كتابة تدوينات على صفحاتهم الشخصية في “فايسبوك”، “معادية للنقابات الأمنية”، أو رفع لافتة مناهضة لقانون زجر الاعتداءات على الأمنيين خلال المسيرات التي نُظّمت أخيراً، أمام مجلس النواب وشارع الحبيب بورقيبة في العاصمة بالقرب من الوزارة.

 وقد لاقى هذا المشروع مناهضة ورفضاً واسعين منذ إعادة طرحه للنقاش في مداولات مجلس نواب الشعب مطلع تشرين الأول، واعتبرته منظمات حقوقية خطراً كبيراً يتهدد الحريات الفردية والعامة، كما أنه يتضمن فصولاً قمعية وأخرى سالبة للحرية، مقابل ضمان امتيازات فوق العادة للأمنيين ورجال الشرطة والديوانة (شرطة الجمارك) وعائلاتهم.

توقيف بسبب “كاريكاتير”

عماد بن خود، شاب من ولاية القيروان في الوسط التونسي، يروي لـ”درج” كيف أدى منشور له على “فايسيوك” إلى توقيفه يوماً كاملاً في مركز الشرطة. “الكاريكاتير” كان ينتقد أساساً الشرطة الفرنسية، إنما أضيفت إليه عبارة بالتونسي وهي “البوليسية كلاب” (أي تشبيه البوليس بالكلاب).

“لم أكن أعلم أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، مذ شاركت الكاريكاتير على صفحتي وأنا أتلقى رسائل التهديد والوعيد من النقابات الأمنية واتصلات الهرسلة. حتى الدوريات الأمنية التي تمر في حيّنا تستوقفني. 

أخيراً وجِّه لي استدعاء رسمي من فرقة الأبحاث العدلية التابعة للحرس الوطني يوم الخميس 8 تشرين الأول يوم الاحتجاجات ضد القانون، لكنني لم أذهب. لكنهم عاودوا استدعائي الجمعة حتى أحضر السبت وتجاهلتهم، ورفضت الامتثال لهذه الاستدعاءات المتزامنة مع أيام عطل، رغبة منهم في توقيفي من دون بدء التحقيق معي”، يقول عماد لـ”درج”.

عماد تنصل من الاستدعاءات بتوجيهات من محاميه، لأنه كان يعرف أن الشرطة لا تحقق مع الموقوفين أيام العطل، وكانت محاولة توقيفه مقصودة في ذلك اليوم تحديداً، لاحتجازه تعسفياً.

 وبعدما رفض عماد الامتثال لهذه الاستدعاءات صدرت في حقه برقية تفتيش. يؤكد لــ”درج” أنه اختبأ ليومين، ثم ذهب لتسليم نفسه في اليوم التالي، واحتجز يوماً كاملاً بتهمة “الإساءة للغير عبر مواقع التواصل الاجتماعي”. وبفضل حملات المناصرة وضغوط الحقوقيين أُطلق سراح عماد، بعدما حقق معه وكيل الجمهورية، إلا أنه ما زال على ذمة التحقيق وما زالت القضية مفتوحة.

عماد لم يكن الوحيد الذي لاحقته الشرطة، فكثر شعروا بعد 10 سنوات من الثورة بخطر حقيقي يتهدد حرياتهم، منهم وجدي المحواشي الذي رفع خلال الوقفة الاحتجاجية أمام مجلس نواب الشعب، ورقة نقدية بعشرة دنانير، في إشارة إلى الرشوة المتفشية في السلك الأمني. ومن الشائع في تونس، أنه يمكن دفع هذا المبلغ أو أكثر لبعض رجال الأمن عند إشارة مرور، للتغاضي عن مخالفة مهما كان نوعها.

نُشرت صورة وجدي على صفحات النقابات الأمنية في “فايسبوك”، محملة بعبارات الكراهية والتهديد لشخصه، وأصبحت منصة لتفريغ الطاقات الانتقامية. وتم استدعاؤه إلى الشرطة للتحقيق معه.

“لم أكن أعلم أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، مذ شاركت الكاريكاتير

على صفحتي وأنا أتلقى رسائل التهديد والوعيد من النقابات الأمنية “.

واتصلات الهرسلة. حتى الدوريات الأمنية التي تمر في حيّنا تستوقفني

ولعل التوقيفات الأمنية على خلفية التدوينات والمشاركة في التظاهرات ليست إلا فصلاً من سلسلة الانقلابات على مكاسب الثورة، من حرية الرأي والتعبير وحق تنظيم جمعيات… ففي 14 تشرين الأول، تم فض اعتصام بالقوة للمعطلين من العمل أمام مقر وزارة التشغيل في وقت متأخر من الليل. وذلك تزامناً مع فرض حظر تجول في ولاية تونس. وأوقف 4 معتصمين في مركز الشرطة ولم يُخلَ سبيلهم إلا بحضور محامين عن منظمات حقوقية بعد 48 ساعة من احتجازهم.

هذه الأحداث المتتالية دفعت 61 منظمة حقوقية و28 شخصية عامة إلى إصدار بيان مشترك، عبروا فيه عن رفضهم المس بحقوق كل من الاجتماع والتعبير والتنظيم، مطالبين الحكومة التونسيّة بتحمّل مسؤولياتها تجاه ما سمّوه “الانحراف الخطير” الذي طاول حتى العمل الجمعياتي بعد استدعاء رئيس جمعيّة القضاة التونسيّين، من قبل التفقدية العامة في وزارة العدل في 2 تشرين الأول، وتوجيه أسئلة إليه بصفته رئيس الجمعية حول أعماله في إطار نشاط الجمعية وعلى خلفية مواقفها بخصوص تقييم الحركة القضائية 2020-2021 والدفاع عن استقلالية القضاء ونزاهته وحماية القضاة من التدخل في سير أعمالهم من بعض المسؤولين القضائيين.

“النهضة” والحكومة وعودة الدولة البوليسية

تعليقاً على تردي وضع الحريات الفردية والعامة في تونس وعودة النفس التضييقي بقبضة بوليسية على التحركات الاجتماعية والنقابية، يرى المحلل السياسي إسماعيل دبارة، أن الوضع يتجه نحو منحى خطير يتجاوز التضييق على الحريات ليطاول تأخر إرساء المحكمة الدستورية، التي يعلّق عليها حقوقيون كثر آمالهم لتنصفهم في إزاحة ترسانة من القوانين، وصفها دبارة بالرجعية والمتخلفة جداً والمعادية للحريات الفردية والعامة.

وعن تحديد المسؤوليات في ما آل إليه الوضع في تونس، يؤكد دبارة لـ”درج” أن كل طرف سياسي ممثل في البرلمان لا يعجّل إرساء المحكمة الدستورية هو متورط في التضييق على هذه الحريات، وكل طرف يلقي بالقوانين التي ترعى الحريات في رفوف البرلمان بدل الدفع إلى إقرارها، هو مشارك في ما يحصل من تضييق وقمع.

“عندما كنا نكتب في جرائد ومواقع معارضة قبل الثورة كنا نعيش “.

على أمل أن تزول غمة الديكتاتورية يوماً ما، ومع شرارة البوعزيزي صدقنا وآمنّا بغد أفضل

“حركة النهضة” تحديداً، يرى دبارة أنها تتحمل المسؤولية الأكبر عما يحدث، بخاصة أنها ليست بمفردها، ولديها حلفاء كثر مثل “ائتلاف الكرامة”، الذي يتقدم بمحاولة لتعديل المرسوم 116 المنظم للقطاع السمعي البصري في تونس. وقد عُرِف هذا الائتلاف بمعاداته حرية التعبير والصحافة وتشريعه الفوضى داخل المشهد الإعلامي. 

“النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين” كانت دعت في بيان الصحافيين ووسائل الإعلام إلى مقاطعة “ائتلاف الكرامة”، وعدم تغطية أنشطته بسبب حملات التحريض التي قادها ضد نقيب الصحافيين الأسبق ناجي البغوري والإعلامي حمزة البلومي، الذي كشف في وقت سابق عن اغتصاب الأطفال والمتاجرة بهم في مدرسة “قرآنية” في محافظة سيدي بوزيد.

المسار التضييقي والقمعي تتسارع خطاه في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك أيضاً إلى صمت ممثلي السلطة التنفيذية بدرجات مختلفة عن عودة القمع البوليسي، من وزراء الداخلية المتعاقبين ورؤساء الحكومات وحتى رئيس الجمهورية، لأنهم لا يحركون ساكناً تجاه التجاوزات والانتهاكات الجسيمة ضد الحريات العامة والفردية.

بعض الأمل…

مع اقتراب كانون الأول والذكرى العاشرة لاندلاع الثورة التونسية، ما زال مسار الانتقال من عهد الاستبداد إلى ديموقراطية ناشئة، متعثراً وناقصاً. وهو ما يؤكده دبارة قائلاً، “عندما كنا نكتب في جرائد ومواقع معارضة قبل الثورة كنا نعيش على أمل أن تزول غمة الديكتاتورية يوماً ما، ومع شرارة البوعزيزي صدقنا وآمنّا بغد أفضل، وما زلنا مؤمنين بتونس حرة ممكنة وتونس تعددية ممكنة. صحيح هناك الكثير من الإحباط والانتكاسات وهناك هزائم وانكسارات، لكن علينا ألا ننسى محطات جيدة، مثل إرساء دستور 2014 والتداول السلمي على السلطة، وهناك قوانين تحررية أيضاً تم سنها ونتمتع بها. كما تضاعفت مكانة المرأة بتشريعات جديدة تحميها وتصون مساواتها الرجل في الحقوق والواجبات”.

لا يمكن اعتبار أن الواقع التونسي يلبي أحلام أهل الثورة، لكنّ الأمل  يبقى في الشباب، على رغم ما أغرقتهم به أزمات البلاد من فقر وبطالة وتهميش… معركة الحريات ما زالت في البداية.