fbpx

لبنان: 17 تشرين وجمهور السلطة المستعصي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد عام على حراك 17 تشرين، وما بين الحدث وذكراه، أحداث كثيرة أيضاً وجدت لها مكاناً في عامنا البائس، وانفجار مرفأ بيروت لا يكفي أن يقال إنه أكثرها بؤساً، بل إن حدثاً كهذا كان كافياً ليُسقط الهيكل السلطوي تحت أنقاض تلك المقتلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أسوأ ما في الاستحضار السنوي لذكرى ما، هو استحضارها كما لو أنها طقس موت، وهو ما لا يريد المرء تصديقه إذ يقتفي أثر الذكرى من باب الرثاء، كما في الحراك الشعبي الذي باشره لبنانيون كثر يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والذي أسس لنزولهم إلى الشارع كرد فعل على الدولارات الستة، التي تنكب وزرها وزير الاتصالات في حكومة سعد الحريري حينها محمد شقير.

القرار المذكور، وبتأكيد إثقاله كاهل اللبنانيين، لكنه في المحصلة كان قراراً سبقته قرارات كثيرة كانت أشد وطاة علينا، لكن “مجده” أنه شكل الثقب الذي انفجر من خلاله البؤس الاجتماعي المحموم والمتراكم، الذي تداولت وقعه علينا حكومات كثيرة يستحيل أن يخرج كل مشارك فيها بريئاً حتى وإن تفاوتت أدوار الوزراء والمسؤولين في الاعتلال الكبير الذي وصلنا إليه في لحظة “الدولارات الستة”.

نحن بالظن كنا أمام سلطة يشي كل ما فيها بأنها آيلة إلى السقوط

بعد عام على حراك 17 تشرين، وما بين الحدث وذكراه، أحداث كثيرة أيضاً وجدت لها مكاناً في عامنا البائس، وانفجار مرفأ بيروت لا يكفي أن يقال إنه أكثرها بؤساً، بل إن حدثاً كهذا كان كافياً ليُسقط الهيكل السلطوي تحت أنقاض تلك المقتلة، فيما الحاصل أن تلك المقتلة تكاد وبعد أكثر من شهرين على وقوعها أن تستحيل ذكرى أخرى من ذكريات القتل والموت والبؤس التي لا قدرة للبنانيين غالباً على لجم تناسلها.

ونحن بالظن كنا أمام سلطة يشي كل ما فيها بأنها آيلة إلى السقوط، لكن هذا المآل بدا مستعصياً على علتين، الأولى تتحمل مسؤوليتها السلطة نفسها وقد انعدمت فيها أدنى المعايير الأخلاقية والإنسانية وهو ما وفر لها استعصاءً ذاتياً عن السقوط، فسلطة فاقدة لهذه المعايير ستكون بالضرورة خارج القيم التي تفترض أن توفر لنا انعتاقاً منها. والثانية يتحمّل مسؤوليتها الحراك ضد تلك السلطة وأحزابها.

 الاستعصاء الثاني على الأرجح هو استعصاء بمنزلين، الأول هو الأصعب غالباً، ومرتبط بجمهور السلطة وانفكاكه عنها، الأمر الذي لم يتوفر حتى الآن، على رغم الأزمة الاجتماعية الخانقة التي يرزح تحت وطأتها هذا الجمهور أسوةً باللبنانيين الآخرين. وهو أمر يعود استعصاؤه إلى نفاق سلطوي، مارسه غالباً الثنائي الشيعي، الذي تسيد جمهوره مشقة مواجهة الحراك بما لا يقاس بجمهور بقية أحزاب السلطة، وتجلى متن المواجهة في خطاب تصدره الأمين العام لـ”حزب الله”، ألبس الحراك عناوين تشكل في وعي هذا الجمهور من محرمات تبدأ بالعمالة ولا تنتهي بالارتزاق من خارجٍ تشكِّل الولايات المتحدة وإسرائيل طبعاً غب تهمته. وهي عناوين يحتكر إطلاقها عموماً ممانعو السلطة، فيما الشق الآخر من النفاق السلطوي حملت خطيئته قوى السلطة التي تصنف ضد الممانعة، وذلك بمحاولة استثمار الحراك من خلال رسم صورة رمادية لا تتسع وفق نفاقهم إلا لنظرائهم الممانعين، وهو أمر كثف سلباً في وعي جمهور الممانعة النظرة المبسترة عن الحراك، وشكلت استقالة سعد الحريري العنوان الأبرز لهذا النفاق، حين أرادها براءةً مطلقة من كل المسار الانحداري للأزمة الاقتصادية التي شكل مع جبران باسيل متنها، أقله في عهد ميشال عون. وأغلب الظن أن استعصاء التحاق جمهور السلطة بالحراك شكل “ضربة” له لا سيما أنَّ هذا الجمهور لا يزال يشكل أغلبية وازنة بالمعنى الديموغرافي للكلمة مقارنةً بالحراك ضد السلطة وأحزابها.

“كلن يعني كلن” هو منزل الاستعصاء الثاني، وهو ما وشت بارتكابه مجموعات الحراك، فبدا الوجع الاجتماعي وهو العنوان الجمعي المفترض، ضحية أمام السياسة التي استُحضِرت في الكثير من تفاصيل المشاهد اليومية للحراك، والدخول في هذه التفاصيل يضعنا أمام شياطينها. إذ إن أخذ كل مجموعة من مجموعاته على حدة، وهي بالمناسبة كثيرة، وهو حال الحراك وعطبه لاحقاً، يؤول إلى عناوين وخصومات متعددة ومتضاربة وليست على مسافة واحدة في نظرتها إلى السلطة وتشكيلاتها، إن في محاولات مجموعات وازنة في الحراك ذاته تسييل تموضعها السياسي في خدمة أطراف في السلطة من خلال تبرئتهم أو تحاشي مواجهتهم ما وفر لهؤلاء الأطراف التباساً في موقعهم من الفساد والمفسدين، وهو بالتالي لا يتوافق مع العنوان الجمعي المفترض، وشواهد ذلك يلمسها المرء بلا استعصاء. شيء من هذا الاختلال الجمعي للأزمة مارسه الشيوعيون الذين نقلوا انشطارهم الحزبي إلى داخل الحراك بين من يريد أن يلقي معظم تبعات الأزمة على “حزب الله”، وهو أمر حمل لواءه مناهضو قيادة “الوتوات”، فيما لم يخفِ الحزب الشيوعي اللبناني حراكه الذي جاء انتقائياً في الكثير من وقائعه من دون أن يفقده صوابيته، بالتصويب جنوباً على “حركة أمل” حصراً، وفي بيروت عليها وعلى “الحريرية” و”القوات اللبنانية”، لكنه جنب “حزب الله” الحد الأدنى من مسؤولية الانهيار إلى حد إنكار أنه جزء من السلطة التي اختُصرت، وفق جمهوره، بـ”القوات اللبنانية”! بل أن إحدى تلاوينه الحزبية لامست الأزمة الاقتصادية فقط من باب القطاع الذي بدا أن “حزب الله” يتواطأ معه عليه وهو القطاع المصرفي، وتالياً حاكم مصرف لبنان، وهما بالضرورة شريكان أساسيان للسلطة وأحزابها. فبدا “الشيوعي” مُغلِّباً أمام “حزب الله” السياسة على عمق الأزمة الاجتماعية التي للأخير أثره العميق فيها سواء بالكلفة الاقتصادية لإقليميته أو بتواطئه مع الفساد، فيما الحراك في مناطق كجل الديب وذوق مكايل، وشى أو كاد يفعل، بأنه يختصر علة الفساد بالوزير السابق جبران باسيل، مع تصويبه على “حزب الله” وسلاحه، وهو ما وشى أكثر بأنه جمهور بغالبيته يقيم على ضفاف حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب”. وهما حزبان التبس موقعهما بين السلطة ومعارضتها، وذلك في استعجالهما تسييل البعد الاجتماعي للغضب الشعبي في السياسة من باب الدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهو أمر في راهنه سيجدد للسلطة شرعيتها الملتبسة معنوياً على الأقل، بافتراض أن الانتخابات تتيح لهما تغيير الخريطة الانتخابية في مناطقهما على حساب التيار العوني، لكنه أمر لن ينسحب غالباً على مناطق أخرى بفعل المنزل الأول للاستعصاء الثاني. “مواطنون ومواطنات في دولة” مثلاً، وهو إطار حراكي وجهه الأبرز هو الوزير شربل نحاس يكاد خطابه يربط الفساد “بالحريرية” بتفاوت كبير مع غيرها، وهو ما يبدو ثأراً قديماً معها، منذ انشقاق نحاس عن مشروعها الاقتصادي أوائل التسعينات من القرن الماضي.

 ما سبق، وإن كان لا يشكل الصورة الكاملة للحراك، لكنه على الأرجح شكل حيزاً واسعاً فيه، وهو على الأرجح نموذج عن العطب الذي سهل للسلطة مهمة تجفيف الحراك إلى الحالة التي بدا عليها في سنويته الأولى.