fbpx

الرئيس اللبنانيّ إذ يسائل شعبه: أين نحن؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خرج الرئيس ميشال عون على اللبنانيين ليسأل عن مصير ملفات ساهم هو مع تيّاره في عرقلتها، أو إساءة إدارتها، لمصالح ماليّة أو سياسيّة معيّنة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اختار الرئيس ميشال عون أن يخرج على اللبنانيّين في إطلالة إعلاميّة رفع فيها النبرة من خلال الحديث عن مكامن فشل الدولة في التعاطي مع الغالبيّة الساحقة من الملفّات الاقتصاديّة والسياسيّة الداهمة، التي تُعنى بحياة اللبنانيين. 

بدا واضحاً أن عون أراد من خلال الخطاب رفع سقف التحدّي في وجه الرئيس سعد الحريري على أعتاب مرحلة تأليف الحكومة بعد تكليفه، لكنّ الإشكاليّة الأبرز لم تكن خروج هذا الكلام عن رأس السلطة التنفيذيّة المسؤولة عن إدارة هذه الملفّات، وحسب، بل كانت تطرّق عون إلى ملفّات ساهم هو مع تيّاره في عرقلتها، أو إساءة إدارتها، لمصالح ماليّة أو سياسيّة معيّنة. 

أين التدقيق الجنائي؟

في ملفّات الانهيار، يسأل عون عن التدقيق الجنائي في أرقام مصرف لبنان، وعن الأطراف التي تعرقلها أو تناور لإفشالها. والمفارقة الكبرى هنا هي أن السائل ليس سوى الرئيس الذي يتبع لتيّاره رئيس لجنة المال والموازنة، وهي اللجنة التي كان يُفترض أن تعمل على النصوص التشريعيّة المطلوبة لتذليل العقبات القانونيّة التي تعيق اليوم عمل شركة “آلفاراز آند مارسال”، من ناحية السريّة المصرفيّة وسريّة معلومات مصرف لبنان. علماً أن المضي في توقيع العقد من دون تذليل هذه العقبات، لا بل مع تضمين العقد بنوداً تنص صراحة على تقييده بموجبات السريّة المصرفيّة، مثّل أبرز الخطوات التي تم من خلالها اغتيال مسار هذا التدقيق والإجهاز عليه. 

واليوم، بات من الواضح أن مصرف لبنان يتذرّع بهذه القيود القانونيّة للتمنّع عن تسليم شركة التدقيق أي معلومات متصلة بعملها، باستثناء المعلومات المتاحة أساساً للعموم. ولذلك، لن يعرف اللبنانيون من خلال هذا التدقيق اليوم مآل التحويلات المشبوهة التي حصلت بعد تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، ولا هويّة المستفيدين منها، ولا تفاصيل الهندسات الماليّة وأرباحها الفاحشة التي ساهمت في تضخيم الخسائر المتراكمة في ميزانيّات المصرف لبنان. 

لا يوجد اليوم من ينجد لبنان، بعدما بات الدعم الخارجي مربوطاً بسلسلة إصلاحات مطلوبة، فشل المسؤولون في القيام بأي منها. أمّا حجّة العهد الطبيعيّة والمتوقّعة فهي كالعادة: “ما خلونا”. 

الأسئلة بخصوص التدقيق الجنائي لا تقف عند حدود امتناع لجنة المال والموازنة إلى المبادرة لمواكبة عمل الشركة من خلال صوغ النصوص التشريعيّة المطلوبة والعمل على إقرارها. فعمليّاً، يمكن القول إن اللجنة لعبت دور المتفرّج طوال الفترة الماضية عندما أطاحت الحكومة بشركة “كرول” المتخصصة بأعمال التدقيق الجنائي، والتي كانت يُفترض أن تجري هذا التدقيق في البداية، وحين استبدلت الحكومة هذه الشركة بشركة “آلفاريز آند مرسال” غير المتخصصة بهذه الأمور. كما لم تبادر اللجنة إلى التحرّك أو مساءلة وزير المال حين قام بتعيين اللجنة التي يُفترض أن تشرف على مسار التدقيق، من دون تضمين اللجنة أي متخصص أو خبير بأعمال التدقيق الجنائي. 

وهكذا، اكتفت لجنة المال والموازنة باللقاءات البروتوكوليّة مع وزير المال، دون أن تمارس فعليّاً أي ضغط لإنقاذ مسار التدقيق الجنائي من هذه الانحرافات التي أطاحت به. باختصار، لم يكن “التيار الوطني الحر” سوى إحدى القوى السياسيّة التي ساهمت في الإطاحة بملف التدقيق الجنائي، أمّا ما يحصل اليوم فبات مجرّد تدقيق شكلي تحاول السلطة إنجازه بشكل استعراضي أمام صندوق النقد الدولي، لمعرفتها بأن هذا التدقيق يمثّل أهم شروط الصندوق، قبل المضي قدماً ومنح لبنان أي قروض.

القضاء والكهرباء

أمّا أبرز المفارقات في خطاب عون، فكانت سؤاله عن القضاء وسطوة النافذين. فعون ليس سوى الشخص الذي وضع –أيام حكومة دياب- التشكيلات القضائيّة التي عمل عليها مجلس القضاء الأعلى في أدراج قصر بعبدا وامتنع عن توقيع مرسومها، بانتظار تخريج دفعة من مؤيّديه من معهد الدروس القضائيّة لضمّهم هذه التشكيلات. علماً أن هذه الخطوة مثّلت في ذلك الوقت صفعة لمفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي، الذي وضع منذ البداية مسألة إنجاز هذه التشكيلات وتحقيق استقلاليّة السلطة القضائيّة كأبرز الشروط المطلوبة قبل التوافق على برنامج مساعدة للبنان. 

ثم يسأل عون عن خطّة الكهرباء، فيما كان الرئيس نفسه من فرض على مجلس الوزراء في زمن دياب إعادة النظر في خطة الكهرباء التي تم إقرارها، لإعادة ضم معمل سلعاتا إلى هذه الخطّة. وبالفعل، تمكّن الرئيس وصهره من إجبار المجلس على ضم هذا المعمل إلى الخطّة، وهو ما ساهم بتهشيم صدقية الخطّة أمام المجتمع الدولي والجهات التي كان يمكن أن تدخل على خط الاستثمار في هذا القطاع، خصوصاً في ظل الشبهات الكبيرة التي أحاطت بهذا المعمل تحديداً. وفي أي حال، كان من الواضح أن عمليّة فرض المعمل كجزء من الخطّة تم نسفها من البداية، إذ بات معروفاً أن جميع الجهات الدوليّة التي يراهن لبنان على الشراكة معها في هذا الملف، أصبحت تشترط التراجع عن تلك الخطوة عند تشكيل الحكومة المقبلة لإعادة الحياة إلى الخطّة.

الخطة الاقتصاديّة وصندوق النقد

يسأل عون عن الخطّة الاقتصاديّة وأسباب فشل تطبيقها، متناسياً أن النائب إبراهيم كنعان شكّل في المجلس النيابي رأس الحربة للإطاحة بهذه الخطّة تحديداً، من خلال تشكيل لجنة تقصّي الحقائق التي عملت على تقليص حجم الخسائر التي ستصيب رساميل القطاع المصرفي. وعلى رغم أن الكتل النيابيّة تواطأت عمليّاً في هذا المسار وساهمت فيه، يمكن القول إن النائب كنعان لعب دوراً أساسيّاً في هذه الأحداث، من خلال ترؤسه لجنة المال والموازنة التي انبثقت عنها لجنة تقصّي الحقائق. وفي كل الحالات، كانت النتيجة تجميد العمل بتلك الخطّة، كون معارضة الكتل النيابيّة الأساسيّة لها سيعني فشلها لاحقاً، خصوصاً أن تنفيذ بنود الخطّة سيحتاج إلى عشرات القوانين التي يجب أن تمر في المجلس النيابي. 

أما في ما يخص ملف التفاوض مع صندوق النقد، والذي سأل عنه عون أيضاً، فلم يعد سرّاً أن ما أجهز على تلك المفاوضات وفرملها لم يكن سوى عجز السلطة عن الشروع بكل الإصلاحات التي ذكرناها: من تعثّر التشكيلات القضائيّة إلى فشل إقرار خطّة كهرباء شفافة، وصولاً إلى عرقلة التدقيق الجنائي وخطة الحكومة الاقتصاديّة، والفشل في إقرار قانون الكابيتال كونترول، وغيرها من التطورات التي عكست تعثّر جهود الإصلاح في لبنان. أمّا إعادة إحياء هذا المسار اليوم، فبات يتطلّب إلى جانب تشكيل حكومة جديدة قادرة على التفاوض، إعادة تنشيط هذه المسارات، وهو ما يتناقض حكماً مع مصالح القوى السياسيّة الحاكمة في لبنان وحساسياتها.

مساءلة الشعب

يمكن تلخيص خطاب عون بفكرة واحدة: ثمّة زعيم سياسي يريد التملّص من مسؤوليّاته في كل ما يتعلّق بتطورات الفترة الماضية، مقابل الخروج بخطابات يسائل فيها شعبه عن سبب كل هذا التعثّر في إدارة الدولة، ويستعمل فيها هذا الفشل للمزايدة على خصومه وحلفائه من أجل مكاسب وزاريّة معيّنة. وفي الواقع، يمكن القول إن مجرّد لجوء رأس الدولة إلى هذا المنطق لا يدعو إلى التفاؤل في كل ما سيحصل خلال الفترة المقبلة، وتحديداً بعد الدخول في مرحلة تأليف الحكومة، ومرحلة عملها لاحقاً. 

على أرض الواقع، سيعني ذلك المزيد من التدهور في كل الملفات الداهمة: من التراجع الذي سيصيب القدرة الشرائيّة للبنانيّين بعد وقف الدعم نتيجة استنفاد احتياطات مصرف لبنان القابلة للاستعمال، إلى الاهتراء الذي يصيب اليوم البنية التحتيّة نتيجة إفلاس الدولة وعدم قدرتها على القيام بأي من مسؤوليّاتها، وصولاً إلى حالة القطاع الصحّي في عز أزمة تفشي وباء “كورونا”. وأمام هذه التحديات، لا يوجد اليوم من ينجد لبنان، بعدما بات الدعم الخارجي مربوطاً بسلسلة إصلاحات مطلوبة، فشل المسؤولون في القيام بأي منها. أمّا حجّة العهد الطبيعيّة والمتوقّعة فهي كالعادة: “ما خلونا”.