fbpx

بين “بيروت نجمتنا” و”بيروت خيبتنا”… رحلة أغنيات وقصائد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بين أغاني وقصائد الستينات وكلمات وإيقاع أغاني “الراب” المعاصرة، تبرز سيرة مدينة وتحولاتها القاسية …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ حذف جملة “إن الثورة تولد من رحم الأحزان” من أغنية “بيروت يا ست الدنيا” في احتفال عيد الجيش الماضي، ومن بعد جريمة انفجار مرفأ بيروت، استعيدت الأغاني والقصائد المؤلفة عن المدينة.

وتتبع صورة بيروت في القصائد التي تغنت بها منذ الستينات، ومن ثم مقارنتها بحضور بيروت في كلمات أغاني “الراب” المعاصرة، يبين التحول القاسي الذي عاشته المدينة، من مدينة تحلم بها القصائد، إلى مدينة يكشف فنانو “الراب” عن الإشكاليات التي ترزح تحتها.

بيروت الحداثة في الستينات: الشعرية الغنائية  

في كتابه “مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت”، 2019، يعتبر المؤلف روبين كريسول أن بيروت هي مدينة الحداثة الشعرية العربية، ففي الستينات من القرن العشرين انطلق فيها مشروع مجلة “شعر” بمشاركة يوسف الخال، أدونيس، محمد الماغوط، وأنسي الحاج، المشروع الذي جسد التجديد في الشعر العربي، من ترسيخ قصيدة النثر إلى الشعر الحر… كل ذلك، كان انعكاساً للتغيرات الفكرية والثقافية التي عاشتها الثقافة العربية، فحضرت بيروت كمكان احتوى بل أنتج تلك المرحلة. لكن السبعينات حملت إلى بيروت الحرب الأهلية من دون أن تتغير مكانتها في المخيلة الجمعية العربية، وتعود أكثر القصائد التي يتم تداولها عن بيروت حالياً إلى فترة الثمانينات. 

نزار قباني: بيروت جوهر الدنيا

عام 1978، أصدر نزار قباني ديوانه “إلى بيروت الأنثى مع حبي”، الذي ضم قصائد كلها عن بيروت، منها: “بيروت ست الدنيا”، “إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار”، “إلى محظيتكم وحبيبتي”، يجمع بينها مفتاح سردي أساسي يغلف الديوان، وهو أن الشاعر يعتذر عن الأخطاء المقترفة في حق المدينة، ومن هنا ينطلق في الحديث عن الممارسات والانتهاكات التي لحقت بالمدينة، وربما كان هذا المفتاح السردي أكثر ما يميز فكرة الديوان. وعلى رغم أن نزار قباني يوجه بعض النقد لحال المدينة، إلا أن جوهر بيروت في قصائده يبقى صافياً، خيّراً، نقياً. صحيح أنه يذكر تشوهات أصابتها لكنه لا يصبغ المدينة بها. 

في المقطع الأول ندرك أن أساور ياقوت المدينة سُرقت وبيعت، وصودرت خواتمها السحرية، وقُصت ضفائرها الذهبية، وذُبح الفرح في عينيها، وأحرقت شفتاها الرائعتان. كل ذلك في إطار التعابير المجازية، لكن الأهم هو حين يعتذر الشاعر عن قتل “الحرية” في المدينة. الحرية إحدى ميزات بيروت التي يرى نزار قباني أنها تشوهت.

“ها نحنُ أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ

أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّهْ..

فقتلنا امرأة.. كانت تُدعى (الحريّهْ)

ماذا نتكلّمُ يا بيروتْ..

وفي عينيكِ خلاصةُ حزنِ البشريّهْ

وعلى نهديكِ المحترقين.. رمادُ الحربِ الأهليّهْ”

يتحدث نزار أيضاً عن بيروت الخراب، بيروت الدموية، وعن بيروت الذبح من الشريان إلى الشريان، بيروت الظلم، بيروت السبي. في المقابل، في المقطع الثالث من القصيدة يدعو الشاعر المدينة إلى النهوض، كالنار والموج: “لا يوجدُ قبلكِ شيءٌ.. بعدكِ شيءٌ.. مثلكِ شيءٌ..”، يطلب منها أن تقوم لأجل الحب والشعراء لأجل الخبز والفقراء. يطلب منها القيام إكراماً للإنسان. لكن تبقى بيروت في قصيدة قباني ست الدنيا، ملهمة الشعر، أحلى الملكات التي يريدها الحب والرب، بيروت هي المعنى. 

محمود درويش: بيروت خيمتنا، بيروت نجمتنا

في قصيدته “بيروت”، التي كتبها قبل الحصار الإسرائيلي للمدينة بعام، وصدرت مع ديوان “حصار لمدائح البحر”، 1984، يصف الشاعر محمود درويش بيروت في القصيدة بأنها: “نرجسة الرخام، شكل الروح في المرآة، بيروت من تعب وذهب”، وفي هذه القصيدة ينادي الشاعر: “بيروت خيمتنا، بيروت نجمتنا”، ويكرر بأنها الخيمة الأخيرة والوحيدة التي بإمكان الفلسطيني أو العربي عموماً الاهتداء إليها، هي:

“أجملُ من قصيدتها وأسهلُ من كلام الناس

تُغرينا بألف بدايةٍ مفتوحة وبأبجدياتٍ جديدة:

بيروتُ خيمتُنا الوحيدة

بيروتُ نجمتُنا الوحيدة”

ينتقد درويش الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ويعتبر بيروت وحدها آخر فرصة للنضال العربي، آخر جدار للصياح والمقاومة، فيشكرها ويشكو صعوبة الرحيل عنها، ويتساءل: “هل بيروتُ مرآة لنكسرها وندخل في الشظايا؟”. وكذلك يصوّر الصراع بين الشهوة إلى الحياة وبين اعتياد الموت.

ومن بين الألعاب اللغوية في القصيدة يكتب الشاعر: “بيروت بحر-حرب-حبر-ربح”، تنويعات أربعة على أحرف ثلاثية الباء الحاء والراء. بيروت البحر: صورة من نحب، بيروت الحربُ: تهدمُ مسرحيتنا لنلعب دون نصّ أو كتابْ، بيروت الحبر: للفصحى وللأغاني والحبر برزخنا الأمين. أما المفردة الرابعة، الربح، فلا بد من التوقف عندها ذلك أن الشاعر يربطها بنمط الاقتصاد اللبناني: الأسواق على البحر، الاقتصاد الذي يهدم الإنتاج كي يبني المطاعم والفنادق”. وكأن الشاعر منذ الثمانينات ينبه إلى نموذج الاقتصاد اللبناني الريعي، الذي حل محل اقتصاد الإنتاج، وهذا ما تبينه القصيدة بوضوح. 

يتطرق درويش إلى الهجرة من بيروت: “بيروت- الشوارع في سفن”، مع ذكر أهمية مرفأ بيروت كمركز تواصل حضاري: “بيروت- ميناء لتجميع المدن”. وكما رأينا عند قباني، أيضاً يحضر الخراب في توصيف درويش لبيروت، يتهم الشاعر بيروت بأنها: “شكل للشكل، هندسة الخراب. وشكراً لبيروت الخراب”. قبيل نهاية القصيدة يعتبر الشاعر أن بيروت حلماً اختيارياً يختار الشاعر أن يعلقه على عنقه، وكما في كلمات نزار قباني تنتفض بيروت من تحت الردم، فهي في قصيدة درويش “زنبقة الحطام”. والأهم هي عبارة النهاية حيث يصف درويش بيروت بالتمرد، يصفها بالولد الذي أطاح بكل ألواح الوصايا والمرايا.

ذكر ذلك هو للتدليل على أن القصائد التي تحضر من تلك الفترة عن بيروت هي أكثر كثافة وتعقيداً مما تتعامل معها الذاكرة الجمعية الآن. فالذاكرة الجمعية والثقافية تردد بعض الأبيات، الأشطر، العبارات، فتختزل القصيدة بها، بينما موضوعات الشاعر أكثر تركيباً. كما هو الحال، مع ما يمكن تصنيفها قصيدته الأشهر “مديح الظل العالي” 1985، والذي تحضر مقاطع مجزئة منها في الكثير من الشعارات، كما لحنت مقاطع أخرى منها، وغناها كثيرون. هذه القصيدة قدمها الشاعر بداية كقصيدة تسجيلية عام 1985، إثر الخروج الفلسطيني من بيروت إلى تونس بعد ضغط الاجتياح الإسرائيلي. 

“لبيروت القصيدة كلها”

تحضر بيروت بكثافة في هذه القصيدة لدرويش، التي تستهل بعبارة تاريخية: “قُلنا لبيروت القصيدةَ كُلَّها”، ويتابع وصف المدينة على غرار القصيدة السابقة بعبارات وأوصاف جديدة: “بيروت قلعتنا، بيروت دمعتُنا، بيروت قصَّتُنا، بيروت غصَّتنا”. وتظهر بيروت أيضاً كما في القصيدة السابقة الحصن الأخير للدفاع عنه، هي آخر طلقات المناضل، هي ما تبقى من هواء الأرض لمحبي الحرية، هي ما تبقى من نشيج الروح للشعر، بيروت هي الحد الأخير الذي يجب، كما يرى الشاعر، الدفاع عنه، لأن بيروت سؤال الوجود أو الغياب. ومن الأوصاف المميزة التي يطلقها الشاعر على بيروت بأنها: “بيروت- منتصف اللغة، بيروت- ومضة شهوتين، بيروت- ما قال الفتى لفتاته”، وكذلك يصفها بالمدينة المعطاءة.

رابط لقصيدة “مديح الظل العالي”، بصوت محمود درويش:

قبل الانتقال إلى بيروت المعاصرة في أغاني “الراب”، أورد ما قاله الكاتب عبيدو باشا بعد انفجار مرفأ بيروت، حيث وصفها في لقاء ثقافي بأنها: “الجريحة التي تعرف طريق القيامة”.

بيروت في أغاني “الراب”

في الثمانينيات من القرن الماضي وتحديداً في بيروت برزت التجارب الأولى في نوع موسيقي-غنائي جديد هو “الراب”، لكن تشكل موجة واضحة ومؤثرة من هذا النوع الفني يتطلب الإنتظار للعقد الأول من القرن الحالي، أي عام 2011 وخصوصاً مع الإحتجاجات التي ستعم شوارع المدن العربية، وما يرافقها من تغير فكري وفي الذائقة الفنية. وإن كانت بيروت في الستينيات مدينة الحداثة الشعرية، فإنه يمكن اعتبارها أيضاً، إلى جانب المخيمات الفلسطينية، من أوائل مدن ظهور “الراب” العربي مع فرقة مثل (عكس السير)، وغيرها. 

اعتبر المختصون الموسيقيون العرب أن موجة أغاني “الراب”، ليست سوى تقليد لأسلوب الموسيقي زياد الرحباني، ومنهم من ذكر خالد الهبر ذلك أن زياد غيّر في الشعرية الرحبانية أيضاً، وكرس مسرحياته لنقد مسرح الأخوين رحباني الغارق في الضيعة المثالية والطبيعة البهية، كما في مسرحيته “شي فاشل”، 1983، التي تروي حكاية فرقة دبكة ومسرح تراثية تكرر التراث باستمرار، عن أبو الزلوف والبحرة، وهذه المسرحية هي نقد تفكيكي لمسرح الرحباني السابق. كذلك أيضاً، على المستوى اللغوي، أدخل زياد الرحباني شعرية مختلفة إلى أغاني فيروز أكثر قرباً من المدينة، والحياة اليومية، والمشاعر الذاتية، فكتب حينها أنسي الحاج: “زياد رفع فيروز من السماء إلى الأرض”، أي طور تجربتها وذلك بتوجيهها نحو اليومي، المديني، والمعاصر.

بيروت الطبقية، القمعية، الطائفية

لكن الفن الجديد سيتجاوز القراءات النقدية التي جمدته في تقليد فنانين سابقين أو متمردين، ليشكل “الراب” العربي خصوصية شعرية جديدة مستقلة، وجذرية. فعلى رغم أن ألبومه الأول عام 2012 “كشف المحجوب” كان مخصصاً للموضوعات الدينية والفكر الصوفي، إلا أن الفنان مازن السيد الراس ضمنه أغنية بعنوان “بركان بيروت”، يوحي عنوانها منذ 8 سنوات بالكارثة التي حلت هذا العام. يروي فيها السارد أنه رأى بيروت في المنام غارقة تحت الركام، ومنها ينتقد الواقع اللبناني، فيقول إن “السهرانين في السكاي بار”، أحد أغلى أماكن السهر الليلية يتم إنقاذهم، فتظهر الموضوعة النقدية الأولى: الطبقية. وصحيح أن بيروت في هذه الأغنية تحاول أن تنبت في النفوس بذور الثورة وتحركها، لكن لا أمل، الوصف الذي يوظفه المغني يائس تماماً: “سكرنا عجفاف دموعنا جفوننا عليها تسكرت فتخمرت”.

ومن ثم تتوالى الموضوعات النقدية، منها حرية التعبير. لم يعد الفن حراً على جدران بيروت، أصبح كل شارع خاضعاً لسلطة إما دينية أو سياسية، يقف ضد التغيير. مع هذه التيمة النقدية تسقط واحدة من أحب صفات بيروت على الشعراء والمثقفين العرب، أي مدينة الحرية والتنوع، فيقول الراس بوضوح، بيروت ليست عاصمة ثقافية، بل هي حلبة مصارعة. وينهي المقطع الأول من الأغنية بعبارة كثيفة الدلالة لموضوعنا، وهي المقارنة بين بيروت الماضي والحاضر، يقول المغني: “بيروت لا تعرف في الماضي، ولا تعرب بالمضارع”، إشارة واضحة إلى التباس بيروت بين صورة الماضي وحقيقة الحاضر. 

يدين المغني سياسات إعادة إعمار المدينة والطبقية الحرب التي انتهت بمشاريع استثمارية، ويتحدث عن الطائفية، عن الشهداء الذين يُستَغلون لزيادة الحمية الدينية والطائفية: “اللي مات فتحول على حملة اعلانات هدفها ترفع الطايفة معدلات التجنيد؟”. هكذا في الأغنية المخصصة لبيروت في ألبوم الراس الأول نكتشف عالماً مختلفاً، ولنقل صادماً في توصيفاته: بيروت مصارعة وليست ثقافة، بيروت طائفية وليست تنوعاً، بيروت طبقية، وتضحيات المناضلين تنتهي إلى رفع معدلات التجنيد الطائفي.

ناصر الطفار

من بيروت خيمتنا إلى بيروت خيبتنا

ربما تكون هذه الأغنية هي أشهر تعاون بين الثنائي الذي أنتج الكثير من الأعمال الغنائية معاً، أي الراس وناصر الدين الطفار، وهي بعنوانها “بيروت خيبتنا” معارضة ساخرة، أو تهكم نقدي على “بيروت خيمتنا ونجمتنا” لمحمود درويش. بوضوح يقول المغنيان: 

“بيروت خيمتنا قالوا الموهومين، 

بيروت خيبتنا الراس ونصر الدين”.

وبذلك يعتبر المغنيان أن قصائد الماضي عن بيروت وهم، وأن المدينة بحاجة إلى ذهنية نقدية، قاسية، ساخرة. ومن المفارقة أن هذه الأغنية تنتقد بشكل خاص اليسار السياسي، والممارسات النضالية الفلسطينية التي جعلت من القضية موضوعة للتندر في السهرات والسكرات. الأغنية نقد لواقع اليسار العربي:

” هيدا الحكي عن العودة ما بيمشي إلا مازا، 

ويافا ما بتحرر إلا إذا السوشي طازجة”. 

نقد اليسار هو أكثر ما يميز الأغنية. حنظلة شخصية ناجي العلي ورمز القضية الفلسطينية، ليس إلا عقد على نهود النساء، المنجل والشاكوش لعمال اليسار تحولا إلى حمائم بيض، والعلمانية تتطلب رضا العمامة أي الدين. أما حق الوطن فهو رشوة للدرك، في إشارة إلى الرشوة والفساد، ويقول الطفار: “هيد البلد اللي بيقولو عنو جنة الله كيس زبالة تحت صورة فهد بساحة الله”.

وتمر الأغنية على المناطق اللبنانية المتعددة من طرابلس، بعلبك، صيدا، أما عند بيروت فتقول: “بيروت سقى الله عزمانا، صارت صورة دكرة ع الغلاف بروتانا”، لقد تحولت بيروت إلى لايبل تجاري لشركات الغناء والإنتاج الفني الخليجي. ثم تتعمق الأغنية بتقديم الصور والأمثلة والبراهين على الذهنية الطائفية التي تحكم المدينة، وينتقد المؤلفان الأحزاب اللبنانية، فيبين أن مفاهيم مثل “الله والمستقبل والأمل” لا يجب أن تكون أسماء أحزاب بل مفاهيم فكرية وثقافية. كذلك، ينتقد رجال الدين الذين كانوا مخبرين لنظام البعث حين السيطرة السورية على لبنان. 

رابط أغنية بيروت خيبتنا، الراس والطفار:

هكذا تضعنا كلمات الأغنية مباشرة مع المشكلات السياسية، الدينية، الاقتصادية، والثقافية، الموجودة في بيروت، لقد ولت الغنائية بعيداً، لمصلحة فن نقدي، وتحديداً فن يكرس مهاراته وتقنياته لكشف القبيح، للتدقيق فيه أكثر، للدخول إلى تفاصيله، من دون قلق من اللغة التي تدخل في اليوميات، والسياسات، وخلافاً لما سبق، إذ كان المجاز والاستعارة يهدفان إلى تشكيل صورة شعرية أو تركيب لغوي مبهر أو مثالي، فإن القصيدة الجديدة تهدف لتصدم المستمع بالواقع، تهدف ما أمكن للاستفزاز لتحفيز العقل على اكتشاف واقعه، إننا ننتقل من الغنائية الشعرية، إلى الغنائية النقدية.

كذلك أصدر الفنانان أغنية أخرى بعنوان “لبنان 2″، وتمتلك مميزات خاصة وموضوعات جديدة يجب التوقف عندها، لكنها خصوصاً في الشأن اللبناني ككل أكثر من التركيز على بيروت. يمكن تلخيص الجدة في أطروحاتها: فقدان العروبة في الصحراء، انقسام الشعب بحسب ممول السلاح، سلطة أجهزة المعلومات والمخابرات، تحول لبنان إلى عيادة تجميل. وهناك فقرة مهمة يفكك فيها المؤلفان علم لبنان، يقولان معاً:

“الأرزة بلّها اشرب ميتها دم

قلي مين نحنا بجملة كلنا للعلم؟

اجمعوا نجوم العلمين اقعدوا بفندق بخمسة

وضوءي فكري والعلم نجس لمسة” 

رابط أغنية “لبنان 2”:

وتنتهي الأغنية بما يؤكد أن الكتابة عن بيروت كما في الجيل السابق، لم تعد ممكنة، فببساطة يحاول المغنيان التعبير عما يشعران به، لم تعد بيروت، كلمة الله في قاموس العجب، والوردة الدهرية في حديقة الأبد، كما ورد في نص (زاهي وهبة)،  بل هي كما يقول المغني: “بلدنا عبارة عن شبكة مجاري، لحافظ، عوجّو الحضاري بشخ بسوليدير بنص الوسخ التجاري… والأرزة بلّا”. 

نحنا والقمر والزبل جيران

التعارض الآخر مع الماضي، يحضر في أغنية “نحنا والزبل جيران”، 2015 الراس والطفار. هنا المعارضة التهكمية على أغنية الرحابنة بصوت فيروز، “نحنا والقمر جيران”. الأغنية الجديدة ترافقت مع الحركة الاحتجاجية الشعبية اللبناية “طلعت ريحتكم”، التي تأسست إثر عجز الحكومة لسنوات وعقود عن حل أزمة النفايات في لبنان. والأغنية تبدأ بدعوة المستمع والمستمعة إلى النهوض:

“خنقوك جوّعوك غرّبوك، قوم

تفّهوك ضربوك حبسوك، قوم

همّشوكي سعّروكي ربّطوكي، قومي

ضريبة دم هيدي مش ضريبة للحكومة”

دعوة الثورة والنهوض حاضرة باستمرار في أغاني “الراب”، لكن عند مقارنتها مع قصائد الجيل السابق، فإنها تحمل ما هو جديد، الدعوة إلى الثورة والانتفاض ليس على العدو الخارجي، الإسرائيلي، العثماني، الروماني، أو الشيطاني، هنا الدعوة ضد الأنظمة الحاكمة. وتكشف أن وهم جيرة القمر غيبت النقد وصولاً إلى الغرق في الزبالة.

كذلك أعاد الطفار تجربة كتابة أغنية بعنوان “بيروت خنقتنا، بمشاركة الوتر”، وهي تنويعات على التيمة نفسها، وبدلاً من “بيروت خيبتنا”، ننتقل إلى “بيروت خنقتنا”. لكن الاختناق هنا لا يتعلق بموضوعة النفايات، بل بحرية التعبير. وهو أيضاً ما يخالف السائد، أو المكرس بأن لبنان هي حرية التعبير والتنوع ضمن محيطها العربي، لقد ولى ذلك بحسب فناني “الراب”، فهنا يقول المغني بأن بيروت خرسا، وأنها مليئة بلافتات حظر تجول، لتهديد للنشطاء، ويخبر المغني بأن هناك من فقدوا حياتهم بسبب اختلاف الرأي، ويردد المغني: “أنا مخلوق لأتنفس، وبيروت خنقتنا”. إذاً، إن الفنان يعلن انتهاء الميزة الأساسية في التجربة اللبنانية، وهي حرية التعبير والنشاط الصحفي. 

مهما انتقدت شعرية الحداثة مع محمود درويش ونزار قباني وسواهما مدينة بيروت، فإنها تبقى في قصائدهم أصل الحب وإلهام الشعر. فدرويش يعترف في نهاية قصيدته أنه يحب بيروت مهما حدث، ونزار قباني الذي خسر زوجته الحبيبة بلقيس في بيروت، ظل يكتب عنها بحب، كما في مقطع من قصيدته “بيروت والحب والمطر”:

“ليس للحب ببيروت خرائط..

لا ولا للعشق في صدري خرائط..

فابحثي عن شقة يطمرها الرمل..

ابحثي عن فندق لا يسأل العشاق عن أسمائهم..

سهريني في السراديب التي ليس بها..

غير مغن وبيان..

قرري أنت إلى أين..

فإن الحب في بيروت مثل الله في كل مكان”

أما كلمات أغاني فناني “الراب” فإنها تهدم عن بيروت كل صورة مسبقة أو مكرسة، حتى تلك المتعلقة بالحب. فمثلاً، تنتهي أغنية “بيروت خنقتنا” بنصيحة- خلاصة يقدمها “الطفار” إلى “الوتر”، يحذره من أنه مهما أحب بيروت فهي لن تبادله المشاعر، كأنه ينبهه على ما حل بالشعراء السابقين:

“قدّ ما تحبّا لبيروت بعدا بتكرهك قد ما تركض ببيروت بعدك مطرحك”.

عام 2010، أصدرت منشورات “جامعة ييل”، “أنطولوجيا الراب”، وهي مجموعة من 900 صفحة من أغاني “الراب”، لتؤكد الجامعة للباحثين التعامل مع أغاني “الراب” بكونها فناً شعرياً. ويرى أكاديمي الأدب الإنكليزي آدم برادلي في كتابه “الإيقاع: شعرية الهيب هوب”، أن موسيقى الراب هي الشعر الأكثر انتشاراً على المستوى الجماهيري، وأن هؤلاء المبدعين الموسيقيين والمؤلفين الشعريين يستحقون تقديراً إلى جانب عملاقة الشعر الأميركي. ونتذكر عام 2016، حين منحت لجنة “نوبل للآداب” جائزتها في ذلك العام، للمرة الأولى إلى كاتب كلمات ومغن هو بوب ديلون، وعللت اللجنة المختصة قراراها: “لأنه خلق تعبيرات شعرية جديدة في تقليد الأغنية الأمريكية العظيمة”. كما أن التمعن في كلمات فناني راب عرب مثل الراس، الدرويش، الطفار، يستأهل التوقف عندها على أنها قصائد شعرية، وذلك لدعم هذه التجارب الفنية التي تمكننا من إدراك المتغيرات الفكرية والثقافية عبر الكلمة، اللغة، والأغنية، كما رأينا في النص حيث تلمسنا نهاية شعرية وبداية شعرية أخرى، من خلال تاريخ حضور المدينة بيروت وحكاياتها، وإشكالياتها، في القصائد والأغاني العربية.