fbpx

من يحمي نساء الأردن من مظالم القانون والمجتمع؟
ليلة القبض على “عيني” فاطمة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كل شي عنا عيب. عيب تطلقي في المجتمعي القروي، عيب تشتكي على زوجك بالذات إذا كان ابن عمك وعيب ما بعرف إيش. لازم الوحدة تاخد قرارها قبل ما تضيع حياتها وحياة أطفالها. أنا مش بس حياتي ضاعت كمان حياة أطفالي ضاعت…”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لاني محسوبة على العايشين ولاني محسوبة على الميتين. أحياناً بحكي بيني وبين حالي لو خليته يطعنّي وما قاومته. كان يا متت يا عشت. على الأقل بشوف… يعني زي ما قال لي، إن عشتي وما متي رح خليكي تموتي بالنهار 100 موتة وهياني بموت كل يوم 100 موتة…”، تشيح بيدها وهي تتحدث بدموع صامتة من عينين انطفأ نورهما، فباتت عاجزة عن البصر. 

مُفردة “موت” تبدو قاصرة أمام ما حصل للأردنية فاطمة أبو عكليك 

(37 سنة)، فقد بلغ الألم منها مبلغاً أنها عجزت عن استيعاب أن ما ظنته دماً على وجهها لم يكن سوى عينها التي اقتلعها زوجها فيما عينها الأخرى كان أعطبها بمخرز.

حصل ذلك في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 في جريمة اعتداء كان يمكن أن تودي بحياتها خلال هجوم وحشي نفذه زوجها بعد نحو 14 عاماً من الزواج المضطرب العنيف فحاول قتلها، وحين فشل، اقتلع عينيها. 

الجريمة زلزلت حياة فاطمة وحياة صغارها وهزّت الرأي العام الأردني.

أسابيع وشهور مرّت على محنة فاطمة التي نجت من موت محتم، لكن هل فعلاً نجت؟

تعيش فاطمة اليوم مع ابنيها (13 سنة و11 سنة) وابنتها (3 سنوات) في منزل ذويها المتواضع في بلدة المشيرفة في محافظة المفرق شمال العاصمة عمّان. انتقلت إلى منزل عائلتها بعد الاعتداء عليها وسجن زوجها الذي ما زال يُحاكم بتهمة محاولة قتلها وتعمّد فقء عينيها.

وإن كانت حكاية فاطمة واحدة من أفظع حكايات العنف ضد النساء في السنوات الأخيرة، إلا أنها ليست حادثة معزولة، فكل فترة ينشغل الأردن بمأساة جديدة تصيب فتاة أو امرأة. وبحسب دائرة الإحصاءات العامة حول العنف الأسري فإنه بين كل 100 زوجة في الأردن، هناك 26 زوجة تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي أو العاطفي من قبل أزواجهن.

لازم الوحدة تاخد قرارها قبل ما تضيع حياتها وحياة أطفالها. أنا مش بس حياتي ضاعت كمان حياة أطفالي ضاعت…”.

في حكاية فاطمة تفاصيل تشبه حكايات نساء وفتيات عانين مصائر بائسة. فهي نشأت في عائلة محافظة في بلدة فقيرة في محافظة المفرق شمال عمان. أكملت دراستها في كلية التربية وكانت تتعلم تصميم الأزياء. 

حينذاك دخل حياتها ابن عمها عبد الحكيم الذي يعمل مع شقيقها في قيادة الشاحنات أو “القلابات” وتأجيرها. كان يصغرها بـ3 أعوام، ولم تكن تعرفه سابقاً، لكنهما التقيا، فكان زواجاً تقليدياً عائلياً. 

منذ اليوم الأول، اكتشفت فاطمة أنها اتخذت خياراً بالغ السوء، فبعد أسبوع واحد على زواجهما، طلب منها ألا تتحدث شقيقها أو تتواصل معه لخلاف وقع بينهما: “بدأ يعنفني من الأسبوع الأول… منعني من التواصل مع أخي، أكدت له أن الأخير يكلمني ولا أرد عليه. وحين حاولت أن أتفاهم معه وأقنعه بأن من حقي التحدّث مع شقيقي، ضربني”…

عاشت فاطمة سنوات زواج قاسية من الإهانة والضرب والسباب، ولجأت إلى منزل ذويها مرات عدة من دون جدوى، ورفعت دعوى نفقة على زوجها لأنه كان رهن راتبه لسداد قروض، لكنها عجزت عن سداد رسوم قضية الطلاق فتراجعت خوفاً على أولادها، “كنت بدي اشتكي للطلاق بس ما كان معاي مصاري… آخر شي سكتت عالموضوع وقعدت عند ولادي حتى لا يضيعوا مني… أمه كمان كان إلها دور باللي كنت فيه، هو بعد ما تزوجني وتوفى عمي (والد زوجها) خطب 8 مرات تقريباً بس كانت لما يعرفوا أنه مرتو عنده يتركوه البنات ما يرضوا يتزوجوه، كانت هي (امه) تمشي معاه تخطبله”. تضيف فاطمة، “بقيت ساكتة طيلة هذه السنوات من أجل أولادي خوفاً من أن تأتي زوجة أب وتعنفهم”.

لا حماية مجتمعية أو قانونية

في الأردن، تتداخل في التركيبة المجتمعية تقاليد دينية وعشائرية محافظة، وهو ما انعكس في قوانين الأحوال الشخصية التي لا تنص على المساواة بين الزوجين، بل على الحقوق “التكميلية” التي تفرض على الزوجة طاعة زوجها مقابل حصولها على الدعم المالي منه. 

هذه القوانين في مجتمع تقليدي محافظ لا تمنح النساء خيارات كثيرة بشأن الزواج والطلاق والاستقلالية، فالمرأة قد تفقد الحق في النفقة من زوجها إذا كانت تعيش أو تعمل خارج المنزل من دون موافقته، كما ترث النساء نصف المبلغ الذي يرثه أقاربهن الذكور.

بحسب القانون الأردني، بإمكان الرجال تطليق زوجاتهم من طرف واحد من دون قيود، فيما لا يحق للمرأة تطليق زوجها من طرف واحد وتخضع لإجراءات أطول وأكثر تكلفة. يمنح قانون الأحوال الشخصية الأردني الأفضلية للأم بعد الطلاق في اتخاذ قرار بشأن حضانة الطفل حتى يبلغ 15 سنة، بعد ذلك بإمكان الطفل أن يختار بين الوالدين، وتسحب الحضانة من الأم المطلقة إذا تزوجت مرة أخرى.

هذه بعض من الاعتوارات الأساسية في القانون والتي يتصدرها أيضاً انتشار الزواج المبكر بين الفتيات، وعلى رغم أن تعديلات صدرت في السنوات الأخيرة رفعت سن الزواج إلى 18 سنة، لكن بإمكان قضاة المحكمة الشرعية استثناء بعض “الحالات الخاصة” للأطفال بين 15 و18 سنة، إذا كان “الزواج ضرورة تقتضيها المصلحة، ويكتسب من تزوّج وفق ذلك أهلية كاملة في كل ما له علاقة بالزواج…”. هذه الالتفافة التشريعية أبقت مدخلاً لزواج الصغيرات في الأردن، وبحسب تقارير إحصائية تشكّل الفتيات الغالبية العظمى من الأطفال المتزوجين في الأردن. 

“عندي الولاد الـ2 الكبار صاروا يخافوا من كل شي، يعني بصحوني ميشان أروح معاهم على الحمام… بنتي الصغيرة كانت أول شي ما بتحكي، لما صارت تحكي حكت كل شي شافته بهيديك الليلة، يعني صارت أول حكيها تقول عيون ماما، دم…”.

تقول المحامية والحقوقية هالة عاهد إن قانون الأحوال الشخصية ينظر إلى المرأة داخل الأسرة بوصفها في مرتبة أدنى وأقل، “الخطأ في التعامل مع مفهومي الولاية والقوامة التي تمنح الرجال داخل الأسرة سلطة لانتهاك حقوق النساء، هو مفهوم أصبح يمارس للأسف وتعززه التشريعات كشكل من أشكال التسلط لحرمان المرأة من أبسط حقوقها. وفق قانون الأحوال الشخصية، يستطيع الرجل حرمان المرأة من النفقة إذا خرجت للعمل من دون موافقته، أو يحرمها من أطفالها إذا تزوجت بشخص آخر بعد الطلاق. هذه ضمن منظومة تعزز النظرة الدونية إلى المرأة وتعزز بأن هناك أدواراً داخل الأسرة تفرض على الرجال أن يكونوا أكثر تسلطاً حتى يقمعوا سلوك النساء وخياراتهن”.

بحسب عاهد، فإن تلك الفلسفة التي تحكم قوانين الأحوال الشخصية منحت الرجال في العائلة سلطة واسعة للتحكم بخيارات النساء في العمل والعيش والملبس، “يصبح الطلب من المرأة ألا تخرج للعمل أو فرض عليها الجلوس في المنزل أو عدم الخروج للدراسة في الجامعة أو عدم لقاء صديقاتها أو أهلها، ومنعها من استخدام هاتف أو حتى عدم انشاء حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، تصبح هذه وكأنها سلوكيات مرغوبة مجتمعياً، يفرضها أشخاص داخل الأسرة على النساء بهدف تقويم سلوكهن وفق الثقافة السائدة وقمع خياراتهن”.

مع تلك القوانين المقرونة بتقاليد قاسية، تجد كثيرات أنفسهن مقيدات في مواجهة أي عنف أو انتقاص، فيجبرن على الصمت وقبول الواقع، على رغم عنفه وقساوته. وهنا، تبرز معضلة ضعف الحماية القانونية للنساء.

تضيف عاهد، “نحن نتحدث عن منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية تميز ضد النساء، منظومة تجعلهنّ دائماً في وضع هش، وبالعكس كلما ازدادت الأوضاع صعوبة أصبحت أوضاع النساء أكثر هشاشة، لذا نلوم بالدرجة الأولى هذه المنظومة الاجتماعية المتسامحة مع العنف القانوني والتي لا تعترف بأشكال العنف ولا توفّر الحماية الكافية للنساء ولا تساعدهن في الوصول إلى العدالة”.

19 ألف قضية

تقول أرقام “مديرية الإصلاح والوساطة والتوفيق الأسري” المعنية بتسوية النزاعات العائلية أنه ومنذ بداية عام 2020 وحتى نهاية حزيران/ يونيو سجلت نحو 19 ألف قضية نزاع وخلاف أسري في بلد يقدر تعداد سكانه بنحو 10 ملايين نسمة. 52 في المئة من هذه القضايا انتهت باتفاقيات صلح، فيما يؤكد القيمون على مكاتب الصلح أن هدفهم، هو خفض حالات الطلاق. 

حقوقيات وناشطات في مجال حقوق المرأة يعتبرن أن الضغط باتجاه تسويات أسرية هو تمديد لمعاناة النساء تحت ذريعة المجتمع والتقاليد. في هذا الإطار، ترى عاهد أن مستوى الحماية في الأردن للنساء المعنفات ضعيف جداً، “كثيرات يحجمن عن تقديم حتى الشكوى لأنهن يعرفن أن الإجراءات عقيمة وغير فعالة، وبالتالي حتى إذا ذهبت المرأة إلى الجهات المختصة ستظل في الدوامة ذاتها، بخاصة أن الذهنية السائدة لا تنظر إلى قضايا العنف الأسري على أنها جرائم، بل مجرد مشكلة داخل أسرة ما، ينبغي حلها من دون اللجوء إلى القانون. ويتم التعويل غالباً على فكرة الصلح فتعود المرأة الى منزلها مرة أخرى”.

ليلة القبض على عيني فاطمة…

ضعف الثقة بمراكز الأسرة هو تماماً ما جعل فاطمة لا تلجأ إليها، في محيط يعتبر الطلاق واستقلال المرأة أمراً منبوذاً، “نحنا عنا بمجتمعنا الطلاق عيب. إنه الوحدة تشتكي على ابن عمها عيب. عيب لأنه قرايب يعني، يعني العادات والتقاليد عيب المجتمع عنا قروي كل شي فيه عيب، الطلاق عيب، إنك تشتكي على زوجك عيب”. العيب والخوف على الأولاد هو ما جعل فاطمة تتحمل عنف زوجها وصلافته، لكن مهادنتها له لم تحمها من فظاعة لم تكن تتخيل أن تحصل لها.

ففي أحد أيام شهر تشرين الثاني 2019 طلب زوج فاطمة منها أن تحضر له قهوة ونرجيلة وأن تجلس معه في غرفة الضيوف التي أقفلها. أخرج سكيناً كان خبأها وقال لها: “انت تقوليلي ما بدك اياني” وهددها بأنه سيذبحها أو يذبح الأولاد أمامها. 

حصل ذلك أمام الأولاد الثلاثة. 

لحظات مرعبة عاشتها فاطمة الخائفة من موتها طعناً من جهة والخائفة  على أولادها من جهة أخرى. 

قاسٍ جداً الاستماع إلى تفاصيل ما حصل مع فاطمة في تلك اللحظات، “ضليت ماسكة بإيد إبني الكبير ويقلي (زوجي) خليهم يطلعوا. قلتله ما بدي وأترجى بالولاد لا تطلعوا لأن إذا طلعوا رح يقتلني، آخر شي قلي بقتلك قدامهم يا بقتلهم قدامك وبخليكي تموتي بحسرتك، طليت على الولاد وجوههم صفر من الخوف… البنت الصغيرة متعلقة فيي صارت تعيط… البنت قامت من حضني من الخوف صارت بيني وبينه قلت ميشان بنتك هاي مش بتحبها، ميشان الله خليلي بس عين أشوفها فيها ربيها يقلي لا والله غير عيونك التنتين” وفعلاً تمكن زوجها من عطب عينيها الاثنتين.

في تلك الليلة تم إسعاف فاطمة، لكن لم يكن ممكناً أن تستعيد بصرها. سجن الزوج المرتكب وانتقلت هي للعيش في منزل ذويها.

الأشهر التي مرّت على محاولة قتلها كشفت حجم الإصابة النفسية التي حلت بالأولاد، “عندي الولاد الـ2 الكبار صاروا يخافوا من كل شي، يعني بصحوني ميشان أروح معاهم على الحمام… بنتي الصغيرة كانت أول شي ما بتحكي، لما صارت تحكي حكت كل شي شافته بهيديك الليلة، يعني صارت أول حكيها تقول عيون ماما، دم…”.

تشعر فاطمة بعجز بسبب عدم قدرتها على الاهتمام بأولادها، بعدما فقدت بصرها، فهي كانت تهتم بكامل شؤونهم لكنها اليوم تحتاج إلى المساعدة، وأكثر ما يقلقها هو أن طفلتها الصغيرة شهدت الجريمة كاملة، “شقيقاها رأيا السكين حين كان يحاول قتلي، لكنهما لم يرياه وهو يفقأ عينيّ. لكنّ الصغيرة رأت كل شيء. الله أعلم ماذا يدور في داخلها”.

تقول عاهد إن إخراج النساء من دائرة العنف غير ممكن بعد، بسبب السياج القانوني والمجتمعي الذي يطوّق المعنفات، “اليوم المرأة التي تريد أن تتحدى أوضاعها الاجتماعية وتريد أن تتحرر من عنف المنظومة التشريعية، ستتعامل معها الأخيرة كناشز وكخارجة عن القانون، المرأة التي تخرج من منزلها أو منزل زوجها هرباً من العنف إذا تم التبليغ عنها ستكون رهن التوقيف”.

تندم فاطمة لأنها لم تتمكن من الطلاق والنجاة بنفسها وبأطفالها، وتعتبر أن القوانين والثقافة المجتمعية كانت ضدها، “كل شي عنا عيب. عيب تطلقي في المجتمعي القروي، عيب تشتكي على زوجك بالذات إذا كان ابن عمك وعيب ما بعرف إيش. لازم الوحدة تاخد قرارها قبل ما تضيع حياتها وحياة أطفالها. أنا مش بس حياتي ضاعت كمان حياة أطفالي ضاعت…”.