fbpx

بيروت والثورة: عين يمنية ترصد لحظات الكوميديا السوداء الأخيرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قال السائق وقد فتح عينيه جيداً: اليمن؟ أعرف بلدكم أكثر منكم؟ توسّعت عيناي، خوفاً من أن يكون ابتعث إلى بلدنا القصي للقتال، وقد صدفنا كثير من الأحاديث عن وجود مقاتلين تابعين لـ”حزب الله” يقاتلون في صفوف جماعة الحوثيين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وصلت إلى بيروت مساء 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وفي اليوم التالي، كنت أحضّر مع صديقة صحافية يمنية، فعالية جمعت الشاعر شوقي بزيع بالفنانة أميمة خليل في أحد المنتديات الثقافية، وللأمانة كانت أميمة دافعنا للاهتمام بالأمر. كان المنتدى يحمل في تسميته لفظة “جنوبي”، فلم أشعر بالارتياح، لما تحمله هذه اللفظة وتخلّفه وراءها من تبعات في القاموسين السياسي والطائفي في السياق اليمني.

فوجئت بالمكان الذي أقيمت فيه الفعالية، على ما يمثله بزيع وخليل في الساحة الثقافية العربية. غرفة صغيرة ضمن شقة عتيقة مركونة في زاوية إحدى الجادات. عادت إليّ الفعاليات الأدبية التي كانت تقيمها النخب اليمنية قبل عام 2011، باعتبار أن الثقافة، تلك اللفظة المنبوذة التي لا تجد من يقوم بها، إلا أولئك الذين يشبهونها في التكلس والعزلة. أتينا على بزيع وهو يتكلم لغة عربية فخمة، لم يعد يحفل بها جيل عربي، بعثرت الثورة وفوضاها مسلماته كلها.

في نهاية الفعالية، ترجلت أميمة نازلة الدرج بمفردها، فأدركناها. كانت على ما أتذكر تلبس فستاناً أبيض وحقيبة بيضاء، وتحتفظ بقصة شعرها التي تظهر بها في حفلات مارسيل. تحدثنا أمام المبنى بشكل عابر عن أشياء تقال في أوقات كهذه. 

كانت الساعة نحو السابعة مساء. كنا في شارع نابض من أحياء بيروت الجانبية، وأطفال يتفاذفون الكرة، ويركضون. أنا وصديقتي الصحافية كنا ننتظر سيارة أجرة تقلنا إلى “فندق الحمراء غاردن”، محل إقامتنا الموقتة في شارع الحمراء، عندما طرق شيء من جنائزية الفعالية بال صديقتي: ألم تلاحظ أن معظم الحاضرين والحاضرات هم من كبار السن؟ قلت لها: نعم، إلى درجة تعتقد فيها أنك حضرت جنازة لأحد المحاربين القدامى.

أوقف لنا فتية الحي سائق أجرة بعدما عرفوا أننا غرباء. كان خمسينياً، ببنية جسدية ضخمة، وعندما صرنا في سيارته، وشت بنا إليه ملامحنا وربما لهجتنا، فسأل عن البلد الذي أتينا منه. كان يتوقع الرد الذي بدا أنه سيروقه: من اليمن. 

في السنوات الست الأخيرة، صار اسم “اليمن” على ما فيه من خراب وفرقة، محل انقسام طائفي بين اللبنانيين بحكم الانقسام السياسي الاقليمي. وهؤلاء الذين ينحازون “طائفياً” لخياراتهم في الحرب اليمنية ليست من مهماتهم التبحّر في تفاصيل الوضع الداخلي لهذا البلد، وقراءة الخارطة السياسية والعسكرية فيه بمنأى عن رغبات الخارج. عوضاً عن أنه، إذا أتيح لك السفر إلى لبنان قبل الحرب الأهلية اليمنية، وصادفت هذه السائق في طريقك، وحاولت أن تشرح له أنك يمني. سيرد عليك كأحد أبطال أفلام الكوميديا الأميركية: اليمن؟ يبدو وكأنه اسم بلد حقيقي.

أما الآن، فالعشق ليس حالة من الوله بالمحبوب، وإنما ضرب من الأيديولوجيا المصمتة، التي تفترض كونك صديقاً لهذا السائق المغمور، في هذه البقعة النائية عن بلدك، بمعايير معقدة قومياً، لم تكن يوماً في حسابات العصرين الوطني والرومانطيقي. إنه نوع من العشق السياطائفي المحرم العابر للحدود، والمقدمات، والمواعيد، والوشائج العضوية. 

 قال السائق وقد فتح عينيه جيداً: اليمن؟ أعرف بلدكم أكثر منكم؟ توسّعت عيناي، خوفاً من أن يكون ابتعث إلى بلدنا القصي للقتال، وقد صدفنا كثير من الأحاديث لدى الرأي العام اللبناني عن وجود مقاتلين تابعين لـ”حزب الله” يقاتلون في صفوف جماعة الحوثيين. سألته عما يعنيه تحديداً، فشرح: أتابع نشرة الأخبار الخاصة ببلدكم، أكثر مما أتابع الشأن اللبناني. 

التفت إلى وجوهنا، فلم يرَ أثر الدهشة، التي حاول بها استرضاء الجذر التكعيبي للتقارب، فعمد إلى قصة كاشفة أكثر، في مسار تعمّد الصداقة المستعجلة التي صرنا إليها، لمجرد الأثر السحري الذي يتركه اسم بلد مفتت على مثل هؤلاء السذج، عاد للقول: هل تدرون؟ وزعنا الكعك والمشروبات عندما ضرب الحوثيون أرامكو بالصواريخ. 

في السنوات الست الأخيرة، صار اسم “اليمن” على ما فيه من خراب وفرقة،

محل انقسام طائفي بين اللبنانيين بحكم الانقسام السياسي الاقليمي.

عام 2018 كنت في زيارة إلى لبنان، فخبرت هذا النوع من الأشخاص، وهم بالمناسبة سائقو أجرة، ومستعدون لخصم نصف مبلغ الأجرة المترتبة على مشاويرنا، إن لم يدفعوا من جيوبهم، تضحية لشيء لسنا في وارد معرفته وبالتالي الاحتفال به أو تقديره. لكنني في أمسية بزيع- خليل، كنت مرهقاً، وخلفت فعالية المحاربين القدامى رواسب وجومها في قفصي الصدري، فرأيت الحماقة في إهدار هذه اللحظة من الكوميديا السوداء، في لحظة متهورة من المصارحة. 

تصنعت القليل من الحماسة بشأن حفلة توزيع الكعك، وعدّلت قعدتي كي لا أفوت دفقة الكآبة هذه عن نفسي. إنه نوع من التشافي بالصدمة. قلت له: في اليمن لم نوزع شيئاً، كما تعرف فالبلد يعيش مجاعة، لكن للحق نمنا باكراً، خوفاً من رد فعل المراهق محمد بن سلمان.

ثم ومن دون نذير، شعرت وزميلتي في الكرسي الخلفي بلا واقعية أن أبدو له يمنياً جباناً، فمن غير الصائب أن يمضي سائقنا الشهم بدونكيشويته وحيداً. من المهم مشاركته في اختلاق جزء من القصة، في المكان الذي يقتضيه سيناريو التقارب. قلت له، وأنا أهز كتفه الضخمة بصبيانة، كي يوليني اهتماماً: توزيع الكعك عمل نبيل. لذلك لم يكن الحوثيون على خطأ عندما قالوا إنكم أنتم من أطلقتم الصواريخ، وليس هم. 

عند هذه النقطة، كاد يترك المقود، حين التفت إلي، ليرى إن أخطأت مراسيله عناوينها إلى الأعداء. كانت ملامحي نفسها، باستثناء القليل من رعشة الارتخاء الذي أصابها بفعل فارق السن والوزن بيننا، قال: شوووو؟ ما الذي بيننا وبينهم لنقصفهم بالصواريخ؟ 

هنا أطل جزء من الحقيقة برأسه، وعليّ أن أعمل بديهتي مرة أخرى، كي لا أدخل الحديث في نوع من البيزنطية غير المسلية. كبحت جماح نفسي عن سؤاله: لماذا وزعتم الكعك إذاً؟ وشرعت في البحث عن الفروق العشرة في هذه النسخ السيامية من سائقي عربات الأجرة. لكنه خيّب رجائي عند هذا التأمل إلى حدود المسافة صفر: الرجل مع النظام السوري ويكره اللاجئين السوريين في لبنان، يعتقد أن الطائفة المسيحية تحب الأمين العام لـ”حزب الله” أكثر من زعمائها، لأنه يحميها، ويضمر نوعاً من الضغينة للطائفتين السنية والدروز ويتهمهما بالعمالة لإسرائيل، حتى وصل درجة قال فيها: في الحرب الأهلية اللبنانية لم تكن إسرائيل في حاجة إلى جنودها لتغزو أراضي الدروز.

ومع هذه الصكوك، سقط في أحد كمائنه المضمرة، وقد قال: نحن في لبنان لدينا نصرالله، وإلا لكنا تحوّلنا إلى يمن أخرى. ما يعني أنه النوع المتطابق من الأتباع، ومن سيارات الأجرة، التي قد توصلك إلى مطار رفيق الحريري بأربعين ألف ليرة، بدلاً من السبعين ألفاً المقررة، فقط لأنك يمني. وقد فعلها معنا اثنان منهم على الأقل. 

وها أنا في حالة وفاق تام مع ثالث، إلى درجة أصبحت فيها ألقنه ما يجب أن يقوله كرجل “مقاوم”، حتى نزل إلى ساحتنا، من دون غرابة، الزعيم “المخلص”: نصرالله الذي أنقذ بلده من مصيرنا. 

مهما يكن، هذا “الاسكتش” لطيفاً ومسلياً، أنا غاضب، أو يجب أن أكون كذلك على الأقل، من المهم تحفيز الضمير النائم للرجل، في القول اللاواعي إن لبنان بلد مصون، فيما يطرح بلدنا اليمن في محل المقارنة الظالمة، وعلى لسانه الحريص الذي كان قبل قليل محباً ومتشيعاً لنا. 

قلت له: وماذا به اليمن الذي خلصتم أنفسكم منه؟ كنت أعرف أن لا إجابة تستحق التمحيص فيها. لن يقول لي إنه بلد مفكك، لن يقول لي أن ميليشيات دينية من القرون الوسطى تسطو عليه، لن يقول لي إنه صار محكوماً من تحالف عربي لا مسؤول من جهة، ومسلحين متخلفين أعادونا قروناً إلى الوراء. 

ومثلما دخلت المحبة بهذه السرعة والرسوخ إلى فضائنا العام، في مقصورة معتمة لـ”تاكسي” عابر، يسير الهوينا في شوارع بيروت، كاد هذا الغرام أن يصبح على المحك، بمثل حسم كهذا. كاد يقول شيئاً في مديح اليمن، من قبيل إننا بلد الحكمة، لكنه وبمنتهى السرعة، انعطف إلى موضوع أثير، أكثر أهمية، سأل: 

“أنت سني أم شيعي؟” قلت له “شتني” (نوع حار من صوص الطعام العدني)، لم يتح له المنعطف الحاد الفرصة للتعمّق في ما قلته، فطلب أن أعيد كلامي بتقطيبة من حاجبيه الغليظين. فأعدت متصنعاً الارتباك: أوه، أقصد شيعي. بلفظة كهذه، على ما فيها من إزجاء الوقت والمحتوى الفارغ، رأيت عن قرب كيف للنظام الطائفي القبيح في لبنان أن يعمل.

وفي شارع الحمراء، بعدما ترجلنا، كنت أنا وصديقتي، في منتهى اليأس من وضعنا العربي الرديء والمعقد والميؤوس منه على ذلك النحو. وقبل أن ننفصل إلى شؤوننا، سألتني: كيف تشوف؟ أي كيف ترى الأمر؟ 

أمسكت على حقوي، وتذكرت وأنا أسحب نفساً عميقاً مقولة من “أغنية الأرض” لمايكل جاكسون: 

– يبدو أننا انجرفنا بعيداً. 

اجتزت المصعد الخشبي إلى فندق الحمراء جاردن، وفي الغرفة التي أقيم فيها، قادني فضولي لتصفح هاتفي المرتبط بـ”وايرلس” (إنترنت) المكان، فرأيت الشاعرة اليمنية نبيلة الزبير، تقوم بمشاركة صورة مُغبّشة لجموع من المتظاهرين على صفحتها في “فايسبوك”، وفوقها كتب النص التالي:

  • الثورة اللبنانية بدأت. كلن يعني كلن.

مرحى بالذكرى الأولى للسابع عشر من تشرين الأول!

قبل هذه الرحلة وتحديداً في العاشر من تشرين الأول، وصلتُ العاصمة المصرية القاهرة في الطريق إلى بيروت لحضور ورشة عن آليات الصحافة التفاعلية. هبطت طائرة اليمنية في المطار القديم المخصص للحجر الصحي. للوهلة الأولى بدا الوضع طبيعيا. سوق حرة، وموظف جمارك غاضب من القيام بعمله في تخليص الاجراءات الروتينية لطائرة العيانين (المرضى). 

وبعد البوابة الرئيسية، حيث تصطف عربات الأجرة، تشاجر على أخذنا ما يقارب 7 سائقين، أحدهم حليق والآخر ملتح. كان السائق حليق الشارب والنحيل يريد 300 جنيه، لكن بشرط أن يعبر بنا على السوق الحرة في جادة المهندسين ليشتري بجوازات سفرنا خمرة وسيجاراً محرر  القيود، بينما يريد الملتحي السمين 300 جنيه بشرط أن يمر بنا ليؤدي حق الله: أي انتظاره ليؤدي صلاة العشاء في جامع الأزهر. قال أحد الزملاء: ليس لديكم حلول وسطى، إما أن تذهبوا بنا إلى الخمارة أو إلى الأزهر؟

“أنت سني أم شيعي؟” قلت له “شتني” (نوع حار من صوص الطعام العدني).

وعلى ما في طباع الناس من ضراوة وتكالب، وفزع تجاه لقمة عيشهم، كان هناك ما هو أسوأ. لقد هبطنا القاهرة، بعيد أيام قليلة من حركة احتجاجية قادها المقاول والممثل المصري المنشق عن نظام السيسي، محمد علي. وفي اليوم التالي، نزلت ميدان طلعت حرب ورأيت قوات مكافحة الشغب بملابسها المدرعة، وعرباتها السود المصفحة تطوق المكان. كنت أبحث عن مكتبة “دار الشرق”، فضللت الطريق إليها. حينها نصحني صديق يمني لاجئ بألا أكرر المرور في المكان ذاته الخالي من الحركة، كي لا تشكك المخابرات بأمري.

يعجبني جناح “فندق الحمراء غاردن المخصص” للتدخين، على رغم أنني غير مدخن. وعلى رغم من أنه يطل على فوضى من الخردة بين المباني، هناك فسحة لتأمل أشجار الصنوبر، في الصواني الكبيرة. 

هذا المكان المركون في نهاية دهليز طويل والمخصص لفئة من القلقين المنبوذين، كاد يجرني إلى عادة التدخين. في الأمسية الرابعة لثورة تشرين اللبنانية، واجهت على كراسي الخيزران المنجدة بالقماش، شاباً مصرياً، يدخن بشراهة، ويحرك ساقه العليا حركة المتوتر. سألته ما الذي يفعله هنا في بيروت، أجاب أنه مهندس معماري، ويدرس فرصة الانتقال إلى سويسرا. 

حاولت أن أشوش عليه الصورة الوردية عن اللجوء. وكنت التقيت، في حوض سباحة الفندق، عصر ذلك اليوم شاباً سويسرياً أراد أن ألتقط له صورة بهاتفه. كان مستلقياً على كرسي التشمس، بسروال السباحة، نحيلاً، وتبدو عليه شقاوة المراهقة. تبادلت بإنكليزية ركيكة معه، بعض المعلومات العامة عن بلدينا، فعكس لي انطباعاً سوداوياً عن الوضع المعيشي. قال لي إنه سمع عن جزيرة سقطرى، وكيف أن دولة الإمارات تريد السطو عليها. وعندما سألني ما الذي أعرفه عن بلده، قلت له: زعماؤنا يسرقون شعوبهم ويودعون الأموال في بنوككم. استلقينا من الضحك. وقبلها بيوم واحد قرأت انطباعات لاجئ يمني شاب في “فايسبوك”، عن كيف تقود الحياة الرتيبة في سويسرا إلى الانتحار. 

شفط الشاب المصري نفساً يائساً من سجارته، ونفثه عالياً: الانتحار أفضل من نظام السيسي. هل تعرف ماذا يفعل جنوده الآن في طلعت حرب وميدان التحرير؟ يلقون القبض على الشباب ويفتشون هواتفهم. هل يتصور العالم بشاعة كهذه؟

حاولت أن أقدم له العزاء، بالسردية الطويلة لخمس سنوات متواصلة من الانتهاكات في اليمن، ليس أكثرها بشاعة، تفتيش هواتف الناس المحمولة، ولم أفلح في ثنيه عن فكرة الهجرة، إن لم أكن كرست فكرتها في عقله.

  في صباح اليوم التالي، كنت أجلس وحيداً في ردهة الفندق، أنتظر صديقاً، فمنحتني أوقات الانتظار فرصة لمطالعة سجل الزوار في الفندق… فأتيت على صفحة زائر عراقي، كتب:

“أنا (فلان) العراقي، من ألمانيا، أكثر ما يعجبني في فندقكم، مطعم أم نزيه، وشرفته الخلفية التي تحوي أشجار صنوبر. أحب الصنوبر كثيراً، وسعيت في وقت سابق، بعد سقوط نظام صدام إلى زراعتها، لكن كما تعرفون فإن عدم الاستقرار والشعور باللانتماء، ومناخ العراق الحار، منعت عني فرصة أن تكون لدي حديقة، كالتي على شرفتكم”. 

  آتي كل سنة تقريباً إلى هنا، بعدما صرت مواطناً ألمانياً، لكن لدي ملاحظات صغيرة، إذ لا خرطوم للحمام الأفرنجي، وتفتقرون إلى حوض استحمام، وأشياء أخرى آمل بأن أضعها على حضرتكم في زيارتي المقبلة.