fbpx

جريمة نيس والوعي المزدوج المفتوح على الشعبوية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

جريمة نيس وما سبقها وما سيتلوها، جرائم ستُستقبل بوعي ممانع محصن تجاه أسئلة التصادم بين منظومتين للقيم، والبحث عن تسويات بينهما…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا تغير جريمة نيس التي راح ضحيتها ثلاثة أشخاص، من وعي راسخ عندنا، له شقان، إسلامي وثقافي، يتداخلان أحياناً ويتصادمان أحياناً، لكنهما يفرزان ذات النتائج، مظلومية متواصلة وكراهية للغرب.

الأول أي الإسلامي، يبني أسانيده على تصور للدين، يجعله منظومة مطلقة لا تقبل أي تسويات أو تنازل لصالح قيم أخرى، تتعلق بالجمهورية أو العلمانية، دون التمييز، حتى بين الفروع والأصول، والتعامل ما هو قابل للتفاعل مع الشرط التاريخي. ومن هنا، يصبح مسلمي فرنسا كتلة واحدة صلبة مستوية لا يشوبها أي تنوع أو اختلاف، هؤلاء تبعاً لهذا التفكير، جزء من أمة واحدة أفرادها ينتمون إلى أفكار وقيم وسلوك، وتحولات الزمان والمكان لا تغير من هذه العناصر، بل تدفعها إلى حدود الاستنفار للدفاع عن نفسها في مواجهة، التهديدات المتمثلة بالاندماج والبيئات الثقافية الجديدة.

أما الشق الثاني، فيتعلق، بخلطة ثقافية متناقضة تجمع بين معاداة الاستشراق وتبني نظريات يسارية قديمة ضدية تجاه الغرب، تضم في متنها تكراراً عن مظلومية المركز والأطراف، وهيمنة الحداثة وابتلاع الثقافات الفرعية، وفرض الثقافة المنتصرة على الشعوب الضعيفة، والنتيجة، تثبيت فرنسا في حقبة الكولونيالية، وسط اجتزاءات حيال الأخيرة، تجعلها فقط قتلاً للشعوب المستعمرة وقمعها ونهبها ومنعها من التكون كدول. والحال فإن كل عنصر من عناصر هذه الخلطة، منزوع من سياقه، ومُسقطٌ على ظروف غير ظروفه، ويجري زجه في شبكة علائقية أجزائها متناقضة، تفرز ذات النتائج مهما تغيرت البيئة التي يتم العمل عليها مكاناً للتحليل. وعليه فإن المسلمين، تبعاً للخلطة تلك، يمكن استبدالهم بأي شعب آخر، ينطبق عليها شروط الضحية التي تواجه الحداثة الغربية وهيمنتها.

فإيران وأعداؤها و”حزب الله” وأعداؤه، وتركيا وأعداؤها، وأنصار الثورة السورية وأعداؤهم، والإسلام السياسي وأعداؤه، الجميع توحدوا على موقف متشابه، مع تفاوت في حدة الخطاب وهوية المستهدف منه.

وإن كان ما هو إسلامي، يبعد المسلمين في فرنسا عن موقعهم الحقيقي، كمواطنين في دولة علمانية، يصنعون تسويات بين ما يؤمنون وبين القوانين الناظمة لدولتهم، فإن ما هو ثقافي، يبعد فرنسا نفسها عن موقعها بوصفها دولة مسؤولة عن مواطنيها، ومعنية بطرح أسئلة، حول المهاجرين وقسوة التعامل الأمني معهم، وتطوير أدوات الاندماج. بمعنى، أن الجزء الثقافي من الوعي السابق، ينظر إلى فرنسا كمعادية للمسلمين بسبب طبيعتها “الكولونيالية” و”الاستعمارية”، ولا ينظر إليها كدولة لها مشاكل مع المسلمين، بسبب تصادم هوياتي، وأخطاء في السياسات المتبعة.

والتراوح بين شقي الوعي هذا، تبدى بشكل واضح في التعامل مع المسار الذي سبق جريمة نيس، وتداخله مع مسائل تتعلق بقيم الجمهورية الفرنسية، وقضية الرسوم، وقطع رأس المدرس الذي عرضها أمام تلاميذ. إدانة جريمة قتل المدرس، جاءت مشوبة بنقد تعامل فرنسا مع المسلمين، و”قمعها” و”اضطهادها” لهم، وكذلك بنقد تاريخها الاستعماري والعنف الذي مارسته في الماضي. وحرية التعبير جرى ضبطها بعدم الإساءة، وكذلك بنقد ثقافي يشكك في الحداثة وقيمها، والعلمانية الفرنسية صنفت معادية لمسلمين، وكذلك قسرية ونمطية ولا تراعي الحساسيات، بمعنى آخر، كل مسألة أو جزئية تمت معالجتها تبعاً لشقي الوعي السابق.

ولعل توحد الأعداء والمتحاربين ضد بعضهم البعض، في منطقتنا، على موقف واحد من مسألة الرسوم والإساءة والنظرة لفرنسا، يبين سيولة هذا الوعي، وقدرته على امتصاص أي ظاهرة، وإعادة إفرازها بشكل شعبوي مفتوح على التوظيف السياسي. فإيران وأعداؤها و”حزب الله” وأعداؤه، وتركيا وأعداؤها، وأنصار الثورة السورية وأعداؤهم، والإسلام السياسي وأعداؤه، الجميع توحدوا على موقف متشابه، مع تفاوت في حدة الخطاب وهوية المستهدف منه.

جريمة نيس وما سبقها وما سيتلوها، جرائم ستُستقبل بوعي ممانع محصن تجاه أسئلة التصادم بين منظومتين للقيم، والبحث عن تسويات بينهما، وعي يدين بشروط، وبحجة وضع الجرائم في سياق، يأخذ الجدل إلى مكان آخر، مختصراً فرنسا بسلبيات كولونياليتها، ومنتزعاً مسلميها من بيئتهم. والخطير أن هذا الوعي الذي يتجاهل أصل المشكلة، وينقلها إلى “الخصم”، يتلاقى مع آخر فرنسي لا يقل عنه سوء في أدوات الفهم مع اختلاف البناء والخلفيات، ذاك أن اليمين المتطرف سيجد في جريمة نيس فرصة ذهبية لتصعيد الشعبوية واختراع أوهام حيال المسلمين، خصوصاً أن الذبح حصل قرب كنيسة خلال الجريمة.