fbpx

سيرة انتقالي من صحافي إلى لاعب في القضية الكردية!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في منتصف العام 1980 غادرتُ العراق الى بريطانيا وأقمتُ في عاصمتها لندن وما أزال. منذ ذلك الحين عملتُ في الصحافة العربية الصادرة في لندن قبل أن استقر في جريدة “الحياة” في 1988 لأنضمّ الى الفريق المؤسس لاعادة إطلاقها. بعد أكثر من عشر سنوات تركت العمل في “الحياة” وانتقلت الى العاصمة التشيكية براغ لتأسيس اذاعة العراق الحر التابعة لاذاعة أوروبا الحرة وترأستُ تحريرها حتى 2004 تاريخ استقالتي من الإذاعة. من براغ عدت الى لندن مجددا وفي ربيع 2005 عملت في بغداد مديراً لمكتب اول رئيس منتخب لجمهورية العراق الراحل جلال طالباني وتركت تلك الوظيفة متقاعدا في منتصف 2007 وعدت إلى لندن. في بداية عملي في “الحياة” كلفني ناشرها ورئيس تحريرها جميل كامل مروة بأن انصرف الى متابعة الشؤون السوفياتية، آخذاً في الاعتبار خلفيتي في الدراسة هناك وخبرتي في الموضوع، من خلال عملي مع مؤسسات صحافية وثقافية سوفياتية في بغداد بعدما انهيت دراستي وحتى مغادرتي العراق، الأمر الذي أتاح لي معرفة مسؤولين وخبراء سوفيات في شؤون الشرق الأوسط عن قرب. وكان صديق مشترك أطلع مروة على نشرة نصف شهرية كنت اصدرها بجهد فردي وعنوانها “المصدر” كرّستها لتغطية المواقف السوفياتية المتغيرة تجاه الشرق الاوسط، كما كانت تعكسها تحليلات خبراء سوفيات عُرفوا بالتزامهم السياسة الرسمية في كتاباتهم لكنهم صاروا يخرجون عن الخط في ظل…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في منتصف العام 1980 غادرتُ العراق الى بريطانيا وأقمتُ في عاصمتها لندن وما أزال. منذ ذلك الحين عملتُ في الصحافة العربية الصادرة في لندن قبل أن استقر في جريدة “الحياة” في 1988 لأنضمّ الى الفريق المؤسس لاعادة إطلاقها. بعد أكثر من عشر سنوات تركت العمل في “الحياة” وانتقلت الى العاصمة التشيكية براغ لتأسيس اذاعة العراق الحر التابعة لاذاعة أوروبا الحرة وترأستُ تحريرها حتى 2004 تاريخ استقالتي من الإذاعة. من براغ عدت الى لندن مجددا وفي ربيع 2005 عملت في بغداد مديراً لمكتب اول رئيس منتخب لجمهورية العراق الراحل جلال طالباني وتركت تلك الوظيفة متقاعدا في منتصف 2007 وعدت إلى لندن.

في بداية عملي في “الحياة” كلفني ناشرها ورئيس تحريرها جميل كامل مروة بأن انصرف الى متابعة الشؤون السوفياتية، آخذاً في الاعتبار خلفيتي في الدراسة هناك وخبرتي في الموضوع، من خلال عملي مع مؤسسات صحافية وثقافية سوفياتية في بغداد بعدما انهيت دراستي وحتى مغادرتي العراق، الأمر الذي أتاح لي معرفة مسؤولين وخبراء سوفيات في شؤون الشرق الأوسط عن قرب. وكان صديق مشترك أطلع مروة على نشرة نصف شهرية كنت اصدرها بجهد فردي وعنوانها “المصدر” كرّستها لتغطية المواقف السوفياتية المتغيرة تجاه الشرق الاوسط، كما كانت تعكسها تحليلات خبراء سوفيات عُرفوا بالتزامهم السياسة الرسمية في كتاباتهم لكنهم صاروا يخرجون عن الخط في ظل بيريسترويكا وغلاسنوست ميخائيل غورباتشوف. استمريت في اداء هذه المهمة عبر زيارات متعددة الى موسكو عزز نجاحها الصديق منذ ايام الدراسة في الستينات في الاتحاد السوفياتي الراحل جلال الماشطة، الذي أصبح مديرا لمكتب “الحياة” هناك حيث كان مقيماً منذ سنوات دراسة وعملاً،  راكم خلالها خبرة عميقة ونادرة في الشؤون السوفياتية السياسية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن كونه واحداً من أفضل العرب المتقنين للغة الروسية. 

في نهاية 1988 ومطلع 1989 كانت الحركة الكردية في العراق تواجه واحدة من أكثر مراحلها مأساوية فاقمها انتهاء الحرب العراقية – الايرانية في آب 1988. كان النظام البعثي في العراق بدأ في استخدام الاسلحة الكيماوية ضد القوات الايرانية وقوات البيشمركة والمدنيين في المناطق الكردية، وذلك قبل كارثة القصف الكيماوي لمدينة حلبجة في 16 آذار 1988 ما أسفر عن قتل نحو خمسة آلاف من سكانها خلال دقائق، وما زال ناجون كثر يعانون من تبعات تعرضهم للغازات الكيماوية. تزامن ذلك مع تنفيذ “حملات الأنفال” التي اختار لها النظام البعثي هذه التسمية في اشارة الى سورة “الأنفال” في القرآن وهي حملات بدأت عمليا من 1986 الى 1989 وأسفرت عن ابادة وتهجير مئات الآلاف من الكرد، ودفن الضحايا في مقابر جماعية في صحارى جنوب العراق ووسطه اكتشفت بعد 2003 وما زالت تكتشف بين فترة وأخرى. فوق ذلك أدى الهجوم الضاري للقوات العراقية على المناطق الكردية بعد انتهاء الحرب مع إيران الى فرار عشرات الآلاف من المدنيين ولجوئهم الى تركيا وايران فيما اضطرت قوات البيشمركة الى الانسحاب من مناطقها الى إيران، وتسلل مقاتلون الى الأراضي التركية ومنها الى سوريا. اما القيادات الكردية فهي الاخرى انسحبت من كردستان الى ايران تحديداً وانتقل بعضها الى سوريا. 

في مطلع 1989 تلقيتُ اتصالا هاتفيا من عبد القادر البريفكاني وهو صحافي وكاتب  كردي كان عضواً في الحزب الديموقراطي الكردستاني وقريبا من الزعيم الراحل مصطفى بارزاني ورافقه خلال فترة مرضه في واشنطن وحتى وفاته في 1978 وله كتاب (1989) عنوانه “الحركة القومية الكردية من مصطفى البارزاني الى مسعود البارزاني”. أخبرني أن رئيس الحزب مسعود بارزاني يزور لندن ضمن جولة على عواصم اوروبية اخرى في حملة لتعريف العالم بالمآسي التي تعرض لها الكرد على يد نظام البعث تتضمن إجراء لقاءات مع وسائل الإعلام الغربية والعربية. رحبت بالفكرة وأخبرت رئيس التحرير بالأمر وبدوره رحب بإجراء مقابلة صحافية مع بارزاني. في الموعد المحدد توجهت مع البريفكاني بسيارته الى فندق في مركز لندن كان يقيم فيه بارزاني. وكان مع بارزاني في الفندق اللندني القيادي في الحزب محسن دزه يي القريب من بارزاني الأب والابن. دزه يي مناضل قديم في الحركة الكردية ورافق ملا مصطفى في الجبل منذ الستينات وفي ايران ثم في الولايات المتحدة لحين وفاة الزعيم الكردي. على صعيد شخصي تربطني وأشقائي علاقات صداقة قديمة مع كاك محسن وعدد من أشقائه وجلهم مناضلون في صفوف الحركة الكردية. وفي الفترة التي تلت توقيع اتفاق آذار 1970 عن الحكم الذاتي رشّحه ملا مصطفى ليصبح وزيرا في الحكومة العراقية ثم أصبح سفيرا مثّل العراق في عواصم عدة.

كان طبيعيا ان يركز بارزاني حديثه على المآسي التي تعرض لها الكرد وحملات الابادة وضربهم بالاسلحة الكيماوية وإبادة آلاف البارزانيين بينهم اعضاء في عائلته، وان يشن هجوماً عنيفاً على النظام البعثي العراقي ووصفه بالنظام الفاشي. بعد انتهاء اللقاء عدت الى الجريدة وأنا أشك في إمكان نشر اللقاء بسبب الهجوم العنيف على النظام العراقي في وقت كانت “الحياة” قد صدرت لتوها وتدرس إمكانات اعتماد مراسلين وفتح مكاتب في عواصم عربية بما فيها بغداد التي كان لنظامها أذرع استخباراتية في أوروبا لا تتورع عن القيام بأعمال انتقامية ضد كل من تعتبره عدواً أو خصماً او معارضاً. وبالفعل اعتذرت الجريدة عن نشر اللقاء، أما شريط التسجيل فظل في ادارة الجريدة ولا اعرف مصيره. من لندن انتقل بارزاني الى عواصم أوروبية أخرى في اطار حملته من اجل حشد دعمها للقضية الكردية.

في ربيع 1990 وصل إلى لندن زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني، وكان هو وبارزاني رئيسان مشاركان للجبهة الكردستانية المؤلفة من الحزبين وأحزاب كردستانية أخرى كانت تأسست في 1987 لتضع حدا للاقتتال والخلافات ضد بعضها البعض، وهو اقتتال ادى الى سقوط ضحايا كثيرة وزرع خصومات مرة، خصوصا بين حزبيّ بارزاني وطالباني. كان أول لقاء لي معه في لندن في منزل صهره الراحل ابراهيم أحمد في مقاطعة ساري الواقعة جنوبيّ شرقي لندن. قبل ذلك كانت آخر مرة التقيته في بغداد إثر اتفاق آذار 1970. رافقني لزيارة مام جلال الصديق الراحل سامي شورش الذي كان وقتها مرتبطاً بالاتحاد الوطني الكردستاني وناشطاً في مجال إعلام الحزب في لندن، وفي الوقت نفسه نشط في كتابة مقالات الرأي في الصحافة العربية اللندنية منها “الحياة”. سامي كان محسوباً على حزب طالباني والتحق بقوات البيشمركة التابعة له في الجبل وعمل هناك ايضاً في إعلام الحزب. في الثمانينات تعرض هو وعدد من الثوار الى التسمّم بالثاليوم في عملية نفذها عملاء للاستخبارات العراقية، فنقل اولا الى طهران للعلاج ثم الى لندن حيث أمضى شهوراً في احدى المستشفيات حتى شفائه التام. لاحقا ترك سامي الاتحاد الوطني الكردستاني وانتقل الى الحزب الديموقراطي الكردستاني وعُيّن وزيراً للثقافة في حكومة اقليم كردستان من 2004 الى 2006، وفي انتخابات البرلمان العراقي في آذار 2010 رأس قائمة الحزب الديموقراطي الكردستاني وفاز نائبا عن اربيل واختاره التحالف الكردستاني ناطقا باسم كتلته النيابية في البرلمان العراقي قبل وفاته المفاجئه في تشرين الثاني من العام ذاته.  

في اللقاء مع طالباني(في العام 1990) تطرّق كعادته، بتفاؤل، لخططه وتصوراته عن مستقبل الحركة الكردية والعراق واعتبر أن الوضع يمكن ان يتغير قريباً في ظل تطورات داخلية واقليمية ودولية وان الحركة الكردية “سترفع رأسها من جديد” بحسب تعبيره. يومها قال طالباني ان النظام البعثي في العراق لا أمل له في البقاء طويلا الا إذا غيّر سياسته جذرياً وان الطريق الى ذلك هو في اعتماد الديموقراطية واجراء انتخابات تعددية. يومها سألني إذا كانت “الحياة” مستعدة لنشر مقال ينوي كتابته عن رؤيته لمستقبل العراق. 

وقتها كان الزميل عبدالوهاب بدرخان مسؤولاً عن صفحة الرأي. لا أذكر عنوان المقال بدقّة لكنه كان عن الديموقراطية في العراق باعتبارها العلاج الشافي، على حد تعبير الكاتب، للعراق عموماً وللوضع الكردي خصوصاً واستخدم ما يقابل العبارة بالانكليزية وهي panacea. وإذا لم تخنّي الذاكرة طلبت ادارة التحرير تخفيف فقرة في المقال فآثر طالباني شطبها بدلا من تعديلها. نُشر المقال ليثير غضب بغداد التي اتصل سفيرها في باريس وقتها عبد الرزاق الهاشمي برئيس التحرير جهاد الخازن وهدد الجريدة بالويل والثبور اذا استمرت في موقفها “العدائي” ضد العراق. 

الخازن قرر احتواء الغضب العراقي على طريقة “أراد أن يُكحِّلها فعماها” فكتب مقالاً في عموده اليومي “عيون وآذان” اتهم فيه طالباني بأنه يقيم علاقات مع اسرائيل وانه زارها والتقى زعماءها وهو ما لم يحدث اطلاقاً، علماً ان  طالباني كان في الفترة التي يفترض انه زار فيها اسرائيل يقيم في بيروت ويعمل في جريدة “الهدف”، الناطقة باسم  الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكان رئيس تحريرها الراحل غسان كنفاني، وكان طالباني عندما يكون في مقرالصحيفة يشارك القيادي في الجبهة بشار أبو شريف الغرفة نفسها. ولا أعلم ما إذا كان المقال المسيء الى طالباني من بنات أفكار الخازن نفسه أم طُلب إليه ان “يكحلها”؟ 

غداة نشر مقال الخازن اتصل بي طالباني وقال انه يفكّر في رفع دعوى قضائية على الخازن بتهمة نشر معلومات ملفّقة عنه، لكنه عاد واتصل قائلا انه بعد تفكير قرر ان الأمر لا يستحق العناء، خصوصاً انه لا يريد خلق مشكلة مع “الحياة”، مضيفا أنه يسعى الى كسب صداقات لا خصومات مع الصحافة العربية.

لم يمض سوى وقت قصير حتى وقع العراق في مشاكل كبرى عندما أدخل صدام حسين بلاده في صراعات متتالية، تمثلت في ابتزازه للدول العربية وتحديه للمجتمع الدولي واعدامه مراسل صحيفة “أوبزرفر” في بغداد الصحافي البريطاني من أصل ايراني فرزاد بازوفت بتهمة التجسس. تبع ذلك تهديده بحرق نصف اسرائيل ثم افتعاله أزمة مع الكويت وصولا الى غزو الدولة الخليجية في آب 1990. أحداث فضحت النظام العراقي أمام الرأي العام العالمي والعربي. 

المفارقة ان الخازن بعد هذه التحولات وعلى مدى سنوات لاحقة، صار يصف الزعيم الكردي بانه “صديقه” من زمان!

تطورات العراق بعد غزو الكويت جعلتني من دون تخطيط مسبق أتحول تدريجيا من الاهتمام بالشؤون السوفياتية الى تغطية الشؤون العراقية والكردية والتركية ايضاً، ليس بالخبر والتقرير فحسب، بل عبر تعليقات كنت أكتبها بين حين وآخر في العمود اليومي في صفحة الرأي وهو عمود خصص لتعليقات يكتبها محرّرو الصحيفة ومراسلوها والمساهمين الخارجيين بكتاباتهم. في الإطار نفسه، قمت بأسفار متعددة الى تركيا وكردستان العراق التي أصبحت في حكم المنفصلة عن بقية البلاد خصوصا بعدما قرر صدام حسين سحب قواته واداراته من المحافظات الكردية الثلاث أربيل والسليماني ودهوك. 

في الأثناء أثارت مواقف تركيا ورئيسها الراحل تورغوت أوزال على الصعيدين الدولي والإقليمي اهتمام العالم، خصوصاً عندما اتخذ أوزال موقفا حازماً مناهضا للنظام البعثي في العراق وأعلن انحياز بلاده الى الولايات المتحدة التي بدأت في حشد قوات من دول عدة في إطار التحالف الدولي من أجل تحرير الكويت في حال رفض صدام حسين سحب قواته منه. سياسة أوزال تلك كان لها تداعيات جدية على الصعيد الداخلي بما في ذلك لجهة التعامل مع الكرد في تركيا والعراق، الأمر الذي أثار حفيظة المؤسسة العسكرية التي كانت تخوض حرباً ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني بزعامة مؤسسه عبدالله أوجلان، خصوصاً بعدما تحدى أوزال العسكر بقراره اقامة علاقات مباشرة مع القيادة الكردية في العراق، تحديدا مع طالباني وبارزاني. 

خلال أسفاري المنتظمة الى تركيا مندوبا لـ”الحياة” أجريتُ خلالها لقاءات صحافية مع مسؤولين وسياسيين ومعلّقين بارزين من الأتراك والأكراد، بمن فيهم الرئيس أوزال الذي أدت لقاءاتي معه الى أن أتحول، عن غير قصد، من شاهد الى لاعب.