fbpx

لبنان: طابع بريدي أو جريمة بلا عقاب؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مهما تمادى خيال المجرم العاديّ لن يصل إلى درجة أيقنة جريمته والتباهي فيها على منوال مكتب البريد الذي قرر جعل لحظة الانفجار خالدة في سجل الجرائم التي ارتكبت على مر السنين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مضى أكثر من مئة يوم على جريمة الرابع من آب/ أغسطس من دون أن نعرف من خزّن نيترات الأمونيوم ومن فجّرها ببيروت وأهلها، وقضى على متنفس مدينة بهذا الحجم، ومن دون أن نعلم من مِن مكونات النظام كان يعلم بوجود المواد الخطرة في مرفأ بيروت، وبقي صامتاً، حتى انفجرت وأسقطت حوالى 200 إنسان. أكثر من مئة يوم كانت كافية لمكتب البريد الوطني ليصدر طابعاً تذكارياً، يخلّد تلك الجريمة بحقنا. قبل أن نصل إلى خواتيم التحقيق باتت الجريمة طابعاً بريدياً، ينضم إلى إنجازات العهد الحاكم، تروي مآثره وما حققه وما شهد عليه من قتل أبرياء وتدمير منازل وتعطيل أعمال. إنجاز كهذا كان يستحق مشانقَ لا طوابع بريدية في بلد عادي، لكن متابع سيرورة هذا النظام وأذياله لن يتوقع أكثر من ذلك، لا بل قد لا يدهشه هؤلاء المجرمون الذين لطالما احترفوا التباهي بجرائمهم وحوّلوها إلى إنجازات وانتصارات. لطالما جعلوا الجريمة من دون عقاب، وقد حوّلوها الآن طابعاً بريدياً.

مهما تمادى خيال المجرم العاديّ لن يصل إلى درجة أيقنة جريمته والتباهي فيها على منوال مكتب البريد الذي قرر جعل لحظة الانفجار خالدة في سجل الجرائم التي ارتكبت على مر السنين. درجت العادة في الدول أن تصدر طوابعها البريدية لتكريم أشخاص قدموا إنجازات لوطنهم أو للإنسانية، أو لتخليد ذكرى ما، تدعو إلى الفخر أو تحفّز على الإيجابية. أما إذا أردتَ أن تخلّد ذكرى أليمة في طابع بريدي، فأبسط الإيمان ألا تكون أنت متسبباً بها. لكن العهد القويّ الذي نعيش في كنفه، أراد أن يخلد جريمة المرفأ ليقول لنا إنه الأب النموذجي الذي يضرب أولاده ويعنّفهم لمصلحته، ويترك آثار انتهاكاته طوابعَ على أجسادهم. فيما ما زالت الجريمة مفتوحة بتداعياتها وآثارها، قرر النظام أسرها وختمها وتأبيدها. أراد أن يجعلها ذكرى مضت، لا بل أن يصنع آخر لحظة في سيرورة الرسالة، وضع الطابع عليها قبل إسقاطها في عتمة صندوق البريد.

كان المجرم في الأفلام التي تحاكي بقصصها الواقع، ذلك الغامض المحاط بالسرية الذي يتقن إخفاء آثار جريمته، ويخشى أن يُكشف أمره، المختلّ الذي يتلذذ بقتل ضحاياه في السر ويتوارى بسرعة. كان من الصعب جداً أن تتعرف إليه. لكن المجرمين الذين نختبرهم يوماً بعد يوم، أسسوا لمدرسة جديدة في عالم الجريمة، مدرسة الجريمة الظاهرة التي تكون بالعلن وفي وضح النهار وأمام أعين الجميع، في مسرح مجهّز عن سابق إصرار وترصد، بأدوات ظاهرة وضحايا مختارين. مجرمون محترفون، يوفرون على المحقق وقتاً لاكتشافهم. فهؤلاء يعلمون تماماً ماذا يفعلون، إنهم يثأرون منا ويتشفون بجثثنا ويتباهون بفعلتهم ويخلدونها في طابع تذكاري، كي لا ينسى أولادنا يوماً ما فعلوه بنا. المجرمون من هذا النوع، يعرفون جيداً أن عقابهم لن يأتي، لا بل يحضرون مسرحاً آخر لأولادهم ويعلمونهم فنون القتل ويُعدّون لهم ما استطاعوا من أدوات لازمة للتحكم بمصائر أولادنا من بعدنا.

العهد القويّ الذي نعيش في كنفه، أراد أن يخلد جريمة المرفأ ليقول لنا إنه الأب النموذجي الذي يضرب أولاده ويعنّفهم لمصلحته، ويترك آثار انتهاكاته طوابعَ على أجسادهم.

لم تتعافَ أجساد أهل بيروت ولا نفسياتهم بعد، لكن المجرم لا يأبه، لا لأجسادهم ولا لاضطرابات ما بعد الصدمة. المجرم الذي ذلهم على أبواب المصارف ونهبهم وأفقرهم لن يأبه لجروحهم مهما بلغت، لا بل سوف يوثّقها بطوابع تذكارية. النظام الذي اعتاد على إذلال الناس ضمن مؤسساته المختلفة، لن يتردد بالاستغناء عن بعض زبائنه الذين على ما يبدو أنهم باتوا حملاً زائداً، فها هو يتركهم لمصيرهم، للموت جوعاً، أو الموت على أبواب المستشفيات، أو يرتكب جريمة من نوع التفجير الذي نفذه في الرابع آب الماضي. إنه السيكوباثي الذي يتقن اللعب بالمشاعر والجثث على حد سواء. سوف يستكمل جريمته بالفن وبأي أدوات أخرى قد تلزمه. سيخرق سيرة المجرمين ويبرر لنا فعلته على طريقة النظام الأبوي. ليلصق الطابع على جريمته ويختمها لتصبح قيد الكتمان والطمس، سوف يمضي إلى جريمة أخرى ومسرح مأساة جديد.

لا يكفي هذا النظام أن ينتهك كامل حقوق مواطنيه “الزبائن”، لا بل أنه، وعند كل حدث، يبادر للتنصل من ارتكاباته وجرائمه. يأخذ التنصل عادة شكل الإحالة، أي استبعاد من دائرة الحدث، ليصبح الحدث يتيماً من دون فاعل، من دون أب. في جريمة المرفأ تحديداً، انسحب القاتل وترك المشهد بتداعياته تحت إمرة مؤسساته الرديفة، وأطلق صرخة الاستغاثة ليحيل إلى جهات محلية ودولية، مهمة تنظيف المسرح وإعادة ترتيب المشهد، لتبدو الجريمة كارثة طبيعية. لم يكتفِ بهذا أيضاً، فاجترح فكرة الطابع التذكاري كونها تصلح لأمرين: أولاً، إيصال الجريمة إلى خواتيمها عبر سلبها راهنيتها وجعلها ذكرى. ثانياً، للتنصل من مسؤوليته في تحمل تداعيات الجريمة وجعل المردود المالي من بيع الطوابع لإغاثة ما تبقى من ضحاياه. بهذه البساطة يبرر البعض تخليد الجريمة وتداعياتها، بجعلها نداء استغاثة وعملاً إنسانياً لجريمة ضد الإنسانية. يريدون أن يجعلوا من القاتل مغيثاً. لم (ولن) يدفع النظام يوماً أثمان ما يرتكبه، لا عبر القانون ولا عبر الانتفاض عليه، ليس لأنه لا يريد أن يدفع فحسب، بل لأن الدفع فيه اعتراف بالمسؤولية عن الجريمة.

يبرر البعض تخليد الجريمة وتداعياتها، بجعلها نداء استغاثة وعملاً إنسانياً لجريمة ضد الإنسانية.

إنه نظام يعيش على الانتهاك والسفك، ويؤمن استدامته وإعادة إنتاج نفسه بخطاب عابر لأزماته. نظام لا يتنصل من مسؤوليته عن المآسي فحسب، بل يحرر نفسه منها ومن العقاب عليها ويؤمن استمرارية الأزمات بتخليدها وتداولها طابعاً بريدياً. فلديه من الإمكانات ما يكفي ليرتكب جريمة ويضيّع فاعلها ويطمس تداعياتها ويعيد تشكيل مسرحها بما يتلاءم وصورته: صورة الأب المرشد المدرك أكثر منا ما يفعله. نظام يرتكب جريمته ويدينها ويوزّع المسؤوليات، ويديرها ويحيلها، ويتنصل منها، ويتباهى بها ويجعل منها ذكرى تستحق طابعاً بريدياً ملوناً بدماء الناس. نظام يريدنا أن نلحس الطابع، أن نلحس دمنا ونمضي إلى مثوانا الأخير.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!