fbpx

كمامة الوجه: أصل الفَن وُجوه الناس…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بزوال الكِمامة، سنستعيد، نحن الناس، أصالة وُجوهنا وأصواتنا وقلوبنا في الفن رقصاً، غناء، شِعراً، عِناقاً وقُبَلاً. ولكن يبقى السؤال الأصعب مُعلقاً من دون جواب في الوقت الراهن: متى تُزال الكمائم والحُجب عن وجوه الحقيقة?

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أقتبسُ عنوانَ مقالي من أغنية للفنان أحمد قعبور تقول كلماتها:

“أصل الرقص قلوب الناس / أصل المغْنى أصوات الناس/ أصل الفن وجُوه الناس”.

 لا شيء يُوَحّد البشرية، شكلاً ومظهراً، في هذه الأيام أكثر من وضع الكِمامة. لا يهم لونها، سوداء، بيضاء أم مزركشة، المهم أنها تحمينا إلى حد بعيد من الإصابة بعدوى ” كوفيد- 19″، كما تؤكد منظمة الصحة العالمية، وانا اُصدّقها.

أصل معنى الكمِامة هو قطعة القماش التي يُكَمُّ بها فمُ الحيوان لمنعِهِ من الأكل أو العضّ. أما مع “كوفيد- 19” فسيتحول المعنى في الاستعمال إلى حجابِ الوَجْهِ وسدِّهِ المنيع لعدم تسرب هذا الفايروس القاتل إليه أو منه.

تغطي الكِمامة الفم والذقن، إضافة إلى الأنف وأعلاه مع الوجنتين. أي ما يُعادل ثلاثة أرباع الوجْهِ.

الربع الباقي يبقى للعينين وحاجبيْهما. وبين احتجاب الجزء الأكبر وسفور الأصغر، تنحسر تعابير الوجه وتذوي إلى حدودها الدنيا وتكاد تختفي لغته الصريحة المُنبثقة عنه.  

فالعيْنان من دون الوجنتين لن تستطيعا الإشارة إلى أي تعبير يعكس حالة المزاج. أمّا الحاجبان فكل ما باستطاعتهما قولاً هو حركةُ القبول أو الرفض بشدّ عضلات الجبين صعوداً أو هبوطاً. تستطيع العين الواحدة أن تغمز، ولكن الإيحاءَ غمزاً على الأرجح سيكون غير محدد المقاصد. أيكون مثلاً غمزاً للإغراء، أو للتواطؤ ام غمزُ المُزاح والخفة؟ لا شكّ في أن الغمْز المُثير والصادر من عَيْن المُغنية سميرة توفيق كان ليكون من دونِ تأثير يُذكَر في مُحبيها لوْ أن وجهها كان مُكمماً وشامتها الشهيرة على خدها الأيسر مُحتجبة. تماماً مثل لوْ أن الرسام ليوناردو دافنشي قرر إضافة كِمامة لوجه لوحته الشهيرة “الجيوكندا”، فلا شك في أنّ أهم ما يميزها كان سيختفي ويزول معها سحر الابتسامة المُحيّرة على فم الموناليزا.

يبدو لي أن الفم هو مركزُ الوجه ومنطلقُهُ الأول للإشارة والتعبير عن حالات النفس وإيحاءاتها المجازية.

الفمُ بما فيه من عضلاتِ الشفتينِ واللسان، وبما يحتوي على عظام الفكَّيْن والأسنان، يتصل طبيعياً بالوجنين اللتين تربطانه بغمازات العينين، لتتشكل في النهاية دائرة متكاملة للوجه تُظَهِّر سيماته وتعبيراته المتنوعة، فرحاً، غضباً انشراحاً، دهشةً، ألماً، ابتسامة… يتربَّعُ الفمُ في مركز هذه الدائرة، ومنه تنطلق شهقة الهواء الأولى عند الولادة، كما منه يخرج الزفير الأخير لحظة الموت. عبره نُدخل السوائل والأطعمة إلى الجسد. وعبره أيضاً يُخرج الجسد رغباته في الكلام شِعراً، غِناءً، نفخاً موسيقى وقُبلاً مُرطّبة بسوائل الحب والشهوة. ولكن أهمية الفم المطلقة تكمن في قدرته على النطق ترميزاً والإفصاح تجريداً لمفاهيم كالحرية والعدالة والمساواة، وهذا ما يجعله مُتميّزاً عن الجنس الحيواني ويرفعه إلى مرتبة الإنسان العاقل Homosapien.    

دائرةُ الوجهِ هذه تتصدرُ الرأسَ من أمامه، مُستسلمة وظاهرة للعيان مرئية في مدى تبلغ درجته 180.

وهذا ما يُعطي فعل تكميم الوجه قصْراً وحجْبُه جبراً عن الأعين كُلياً أو جزئياً، صفة الانعزال والجمود وينزع عنه سِماته الطبيعية، وذلك سعياً لعدم الوقوع في الحرام والخطيئة وغواية الصورة ومنعاً لعُبورِ “جراثيم” الحقيقة “وفايروسات” الجمال.

أمّا الرأس بكُلِّيَتِهِ فما هو إلا تكثيف للفرد في فكره وأهوائه الطبيعية. الجسد لا يعدو كونه حاملاً للرأس، ومن دونهِ هو جُثّة مجهولة لا يتعرّف إليها أحد. لذا ينطوي قطع الرأس عن الجسد على فعلٍ رمزيٍّ بالغ في دلالته على قتل الفكر والتنكيل بالجسد بوضعهما في دائرة الحرمان والنفي.

شهد منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، بداية انهيار الدولة العباسية وتلاشي إنجازات العصر الذهبي للدولة الإسلامية في العلوم والفلسفة والادب والفنون. امّا القرن الذي تلاه فتميّز بكونه جسر عبور التقى في منتصفه عصْران. كلّ عصر اتّجه في طريق معاكس للآخر. الأول كان عصر النهضة والاكتشافات العلمية في أوروبا التي شقَّت طريقاً طويلاً محفوفاً بالصراعات والحروب، أوصلها أخيراً إلى زمن الجمهورية ومنه إلى الدولة الديموقراطية الحديثة وفيها سيادة سلطة العلم والقانون التي تحمي حرية الرأي والفكر والمعتقد وتصونها. أمّا الثاني فكان عصر أفول الدولة الإسلامية، يعْبُر مُتَّجهاً إلى الوراء ناحية التفتُّت والتعصب وإعلاء شأن الخرافة على العلم.

كل الشعوب قاطبة في فترات من تاريخها مارست وحشية قطع الرأس أو فرضت حُجُباً وكمائم على الوجه.

فللمقصلة تاريخها الطويل والرهيب في أوروبا وتحديداً في فرنسا، إذْ بدأ استعمالها إثر الثورة الفرنسية 1789. المشهد الأخير لإعدام مجرم محكوم بقطع رأسه تحت شفرة المقصلة حدث في باريس عام 1939 بحضور حشد غفير من الناس، وبعدها أثير جدل واسع النطاق حول أخلاقية هذا الفعل في مجتمع يعتدُّ بتحضُّره. أوقفت فرنسا عام 1977 العمل بالمقصلة وبعدها ألغت عقوبة الإعدام كلياً.

مشهد القتل ذبحاً بفصل الرأس عن الجسد استمر في الشرق العربي من المحيط إلى الخليج حتى حاضرنا الحالي، مستمداً شرعيته من نظام القبيلة وعادات النشأة الأولى في الإسلام

الفن في أوروبا الحديثة وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية ساهم إلى حد كبير في انتقال مجتمعاته من عادات التوحش إلى حياة أكثر إنسانية. نشوء فن “البورتريه” في أوروبا وتطوره إلى الفوتوغرافيا ومن ثم إلى السنيما، كان له الفضل في إعادة الاعتبار للوجه، كهوية وذاكرة للفرد. وتطور الرواية والمسرح والغناء الموسيقى جعل الفم أداة للتعبير عن التنوع، عبر إدخال تعدد الأصوات والدراما. أمّا تطور الرقص فقد أزال الحُجب والممنوعات عن الجسد وأطلق حريته في التعبير. ولكن لا بد من ملاحظة أن هذا التطور في الفنون لم يكن ليتحقق لولا نشوء الدولة المدنية العلمانية التي أمّنت حرية المعتقد والتعبير عن الرأي وشرعة حقوق الإنسان وخلقت مفهوم المواطنة والعقد الاجتماعي.

العرب تاريخياً أبخست حقَّ الوجه والجسد في الوجود والإفصاح عن هويته ومكنوناته الطبيعية، وذلك درءاً للفتنة ومنعاً للإشراك في وحدانية الإله. كان هذا في بدايات تكوين العرب دولتهم الإسلامية. فمن الأمور الكثيرة التي حُرِّم على الناس فِعلها في الإسلام هو التصوير والنحت والرقص والغناء. وأكثر ما حرّمته في التصوير والنحت كان صورة وجه النبيّ محمد، على رغم أن هذا الحُرم تحديداً لم يؤتَ على ذكره في نصوص القرآن. الصراع والجدل حول حدود الحرام والحلال، وأهمية العقل في التشريع، استمرت لقرون بين فقهاء المُعتزلة في إخضاعهم النص القرآني للعقل وبين الفقهاء الحنفيين في تشديدهم على قُدسية النص القرآني وأحاديث الصحابة الأوائل التي لم تُدوَّن إلا بعد مرور نحو 200 عام.

مشهد القتل ذبحاً بفصل الرأس عن الجسد استمر في الشرق العربي من المحيط إلى الخليج حتى حاضرنا الحالي، مستمداً شرعيته من نظام القبيلة وعادات النشأة الأولى في الإسلام، مدعوماً بآياتٍ في القرآن والشريعة الإسلامية. وإذا كانت بلدان عربية حديثة قد ألغت من قوانينها المدنية الإعدام بقطع الرأس، إلّا انّ بعضها ما زال يُشرّعها قانوناً. المؤسسات الدينية الرسمية للإسلام تدين هذا الفعل ولكنها أمام ضغط الإسلام السياسي الجهادي، تقف عاجزة مع دُوَلها عن فعل ما يمنع هذه الظاهرة المتوحشة.

ففيما يصدر عن البابا فرانسيس أعلى مرجعية للكنيسة الكاثوليكية تصريح واضح بوجوب تقبُّل مُثليّي الجنس في المجتمع كأبناء للكنيسة وكمواطنين تراعاهم الدولة وتخُصُّهم بقوانين تُنظم حقوقهم وحياتهم، نرى الإسلام السياسي عبر فروع تنظيماته الجهادية الإرهابية يُنفِّذ جريمة وحشية بقطع رأس أستاذ فرنسي في باريس، فقط لأنه، وبزعمهم، أساء للنبيّ محمد عبر عرض رسم صورته كاريكاتورياً.

تزامُن الحدثين إن دلَّ على شيء، فعلى أمرين متعاكسين في الاتجاه والمضمون. 

الأمر الأول يدل على قدرة الكنيسة في أوروبا على التكيف مع الحداثة والسير في ركبها، أما الثاني فيدل على رفض المؤسسات الدينية الإسلامية والإسلام السياسي تحديداً، لكل ما أنتجته الحداثة من قيم إنسانية في المساواة وحرية الفكر والمعتقد والإصرار على السير عكس اتجاه تقدم التاريخ استحضاراً لأكثر صوره توحشاً.

نشوء فن “البورتريه” في أوروبا وتطوره إلى الفوتوغرافيا ومن ثم إلى السينما، كان له الفضل في إعادة الاعتبار للوجه، كهوية وذاكرة للفرد

الدول حديثة النشئة نسبياً لمجتمعات الشعوب الإسلامية بمعظمها استندت في دساتيرها على أسس الجمهورية وشرعة حقوق الانسان. بعضها القليل فقط استند إلى قوانين الشريعة الإسلامية. ولكن الجدير ذكره أن جميع هذه الدول الحديثة، عربية كانت أم لا، هجَّنت دساتيرها بقوانين الشريعة الإسلامية وطعَّمت سياساتها بأعراف القبَليّة والطائفية والتفرقة على أساس الطائفة والمذهب والجندر. خلاصة القول هو حصول تشوه كبير أثناء ولادة هذه الدول، ما انعكس سلباً في قدرتها على النمو والتطور. وما الانقلابات العسكرية والحروب المتناسلة والفقر والتطرف الديني وفساد السلطة وعدم القدرة على حل النزاعات سلمياً، إلّا تجليات واضحة لهذا التشوه الجينيّ.

الثقافة والفن في مجتمعات هذه الدول يعانيان حالة فصام وشلل. فعلى رغم قدرة المثقفين في هذه المجتمعات على أن يراكموا كماً ونوعاً من نتاجاتهم الإبداعية في الشعر والرواية والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، وان يدخلوا في استقطاب وتفاعل نسبيّ مع التيارات الحداثية في العالم، إلا أن تأثير هذه النتاجات يكاد يكون غير منظور لناحية تراكم الوعي الاجتماعي والسياسي لجمهور مجتمعاتهم. لا أعتقد أن سبب هذا الشح في التأثير، إن صحَّ التعبير، يكمن دائماً في شكل هذه النتاجات ومضمونها، بل وعلى الأرجح يعود سببه إلى آليات عمل السلطة في هذه المجتمعات، وهي آليات قامعة للرأي ومُكمِّمة للإبداع، تُشجع على التفكير الغيْبي، تُهمّش الثقافة والمُثقفين، وتنظر إلى دور الفن من باب الاستهلاك السياحي فقط.                       

ستمُرُّ بضعة اشهر، وربما سنة أو أكثر بقليل، ليُصبح “كوفيد- 19” فايروساً عادياً مُسيطَراً عليه علمياً وطبياً العلم، وعندها فقط سيكون بإمكان البشرية أن تخلع الكِمامة ليعود الوَجه بكامله إلى سابق عهده في الظهور والتجلي بأبهى صُوَرِه الإنسانية. بزوال الكِمامة، سنستعيد، نحن الناس، أصالة وُجوهنا وأصواتنا وقلوبنا في الفن رقصاً، غناء، شِعراً، عِناقاً وقُبَلاً. ولكن يبقى السؤال الأصعب مُعلقاً من دون جواب في الوقت الراهن: متى تُزال الكمائم والحُجب عن وجوه الحقيقة في هذا الشرق العربي الحزين الذي ما زال فيه من يُبرر جرائم متوحشة كالذبح وقطع الرأس عن الجسد.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.