fbpx

60 عاماً وجدّتي تنتخب عبد اللطيف الزين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد أيام يصبح عمر جدتي 95 سنة، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل يصبح عمر النائب عبد اللطيف الزين 86 سنة، أمضى ستين منها في المجلس النيابي، وأمضتها جدتي معيدة انتخابه دورة إثر أخرى. موعد الانتخابات النيابية المقبلة في 6 مايو/ أيار، سيمرّ بلا أهمية، على الأقل بالنسبة إلى جدتي، التي لن تنتخب، لأن ابن عمها عبد اللطيف لم يترشح.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد أيام يصبح عمر جدتي 95 سنة، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل يصبح عمر النائب عبد اللطيف الزين 86 سنة، أمضى ستين منها في المجلس النيابي، وأمضتها جدتي معيدة انتخابه دورة إثر أخرى. موعد الانتخابات النيابية المقبلة في 6 مايو/ أيار، سيمرّ بلا أهمية، على الأقل بالنسبة إلى جدتي، التي لن تنتخب، لأن ابن عمها عبد اللطيف لم يترشح.

عبد اللطيف كما تمط جدتي الياء في اسمه على طريقة أهل الجنوب، هو ابن عمها. صلة القربى بينهما بعيدة نسبياً. يرجع نسبهما، عبد اللطيف لجهة والده وجدتي لجهة والدتها، إلى الشيخ سليمان الزين.

الشيخ سليمان الزين أنجب إسماعيل (وريثه السياسي) والد النائب يوسف الزين، الذي هو والد عبد اللطيف، وأنجب كذلك الشيخ حسين الزين (وريثه الديني) والد الشيخ خليل الزين جد جدتي، والد أمها.

هكذا أصبح عبد اللطيف في عُرف جدتي ابن عمها، على رغم كل هذا التعقيد. عبد اللطيف أيضاً يعتبر جدتي ابنة عمه بكل بساطة. لا يمرّ عيد أو مناسبة إلا ويزورها هي شخصياً. يرسل الهدية قبل مجيئه بيوم أو يومين فتعرف أنه آتٍ. تبلِغ من في البيت أن يتحضروا إذا كانوا راغبين. فابن العم لا يقصد غيرها، لكن لا بأس في وجود آخرين.

في حمأة الانتخابات لا يزور عبد اللطيف أحداً من أقاربه، هم الذين يزورونه. بيك لا يهوى التملق ولا استجداء الأصوات. وعلى عكس غيره من النواب، يظل يطل على الناس طوال فترته النيابية، يتابع أدق تفاصيل شؤونهم

بعد أيام يصبح عمر جدتي 95 سنة، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل يصبح عمر النائب عبد اللطيف الزين 86 سنة، أمضى ستين منها في المجلس النيابي، وأمضتها جدتي معيدة انتخابه دورة أثر دورة. موعد الانتخابات النيابية المقبلة في 6 أيار/مايو، سيمر بلا أهمية، على الأقل بالنسبة لجدتي، التي لن تنتخب، لأن ابن عمها عبد اللطيف لم يترشح.

عبد اللطيف كما تمط جدتي الياء في اسمه على طريقة أهل الجنوب، هو ابن عمها. صلة القربى بينهما بعيدة نسبيا. يرجع نسبهما، عبد اللطيف لجهة والده وجدتي لجهة والدتها، إلى الشيخ سليمان الزين.

الشيخ سليمان الزين أنجب إسماعيل (وريثه السياسي) والد النائب يوسف الزين، الذي هو والد عبد اللطيف، وأنجب كذلك الشيخ حسين الزين (وريثه الديني) والد الشيخ خليل الزين جد جدتي، والد أمها.

هكذا أصبح عبد اللطيف في عرف جدتي ابن عمها، رغم كل هذا التعقيد. عبد اللطيف أيضا يعتبر جدتي ابنة عمه بكل بساطة. لا يمر عيد أو مناسبة إلا ويزورها هي شخصيا. يرسل الهدية قبل مجيئه بيوم أو يومين فتعرف أنه قادم. تبلّغ من في البيت أن يتحضروا إذا كانوا راغبين. فابن العم لا يقصد غيرها، لكن لا بأس في وجود آخرين.

في حمأة الانتخابات النيابية لا يزور عبد اللطيف أحدا من أقاربه، هم الذين يزورونه. بيك لا يهوى التملق ولا استجداء الأصوات. وعلى عكس غيره من النواب، يظل يطل على الناس طوال فترته النيابية، يتابع أدق تفاصيل شؤونهم ولا يبخل عليهم بالخدمات، كما يقولون. في فترة الانتخابات يتحولون إلى ماكينة انتخابية عفوية له.

في قرية جدتي جبشيت، لا تغمض أعين الأحزاب وجماهيرهم عن آل الزين أو “الزينية” كما يسمونهم. فهم منذ عادت الانتخابات النيابية إلى ربوعنا بعد انتهاء الحرب الأهلية، يشكلون كتلة بشرية صلبة، تحيط بابن عمهم عبد اللطيف، من دون أن يوحي إليهم بذلك. همهم ألا يغيب اسم العائلة عن سجلات المجلس النيابي. يعقدون الاجتماعات سرا، ما يحكونه في خلواتهم لا يخرج إلى العلن، يقفلون عليه ألسنتهم وآذانهم، وفي يوم الانتخاب يتحركون دفعة واحدة باتجاه صندوقة الاقتراع، يسقطون فيها اسم عبد اللطيف فقط ويشطبون ما عداه من أسماء، ضاربين عرض الحائط بكل الوعود والعهود التي تقطعها الجماهير بعدم التشطيب. اللهم إلا في دورتي 1992 و1996 حين كان الجنوب دائرة انتخابية واحدة، في تلك الدورتين انتخبوا نبيه بري وفاء وبهية الحريري من باب الصداقة!

حال “الزينية” بعدما انتشروا من شحور في قضاء صور باتجاه النبطية وكفررمان وجبشيت، شبيهة بحال الأقليات، التي تنشأ نتيجة هجرة طوعية أو تهجير قسري. يعيشون متكتلين حفاظا على جذورهم وحماية لهويتهم. أقلية عائلية ضئيلة، لكنهم يملكون شعورا متفوقا بالعظمة، ينبع من دورهم التاريخي ومركزهم الديني ونفوذهم السياسي في المنطقة.

في القرن الثامن عشر، فرّ الشيخ علي الزين صاحب شحور كما هو معروف، من العثمانيين الذين طلبوا رأسه، بعدما انتقم والفلاحين من المتسلم العثماني الذي قتل الزعيم العاملي ناصيف النصار، ووصل إلى الهند، وبسبب علمه وسعة معرفته أصبح وزيرا لأحد ملوكها، كما تزوج من امرأة هندية سمراء ذات حسن وجمال وعاد إلى بلاده بعد قدوم المستعمر البريطاني، أنجب أطفالا تعلو وجوههم سمرة نقية وجمال غير معهودين في بلادنا. وفي سلالة الشيخ سليمان بكره، الذي درس العلوم الدينية في مدرسة جباع العلمية، توزعت مهام العائلة بين ذكورها، على الشأن الديني والسياسي والثقافي وحتى الإقطاعي.

ظل “الزينية” حتى آخر دورة انتخابية قبل الحرب الأهلية، التي جرت في العام 1972، “أسعديين”، أو متحالفين مع آل الأسعد، العائلة الإقطاعية، التي حكمت الجنوب سياسيا قبل نشوء حركة “أمل” والأحزاب اليسارية المدعومة من المقاومة الفلسطينية. ورغم الخصام الثقافي والسياسي بين الثنائية الشيعية وبين الأسعديين، استقر اسم عبد اللطيف على لوائح الثنائية منذ أول انتخابات بعد الحرب إلى آخر تمديد للمجلس النيابي الحالي.

تقول جدتي إن الفرنسيين يفرضون عبد اللطيف على نبيه بري، والده يوسف بيك كان صديقهم، بين العائلة والفرنسيين تاريخ طويل من المال والأعمال والأسرار السياسية.

في هذه الانتخابات لم يتدخل الفرنسيون على ما يبدو، عزف عبد اللطيف عن الترشح لأسباب صحية، وفشل في فرض ابن أخيه سعد مكانه. خطفت حركة “أمل” المقعد النيابي. لمن سيصوت “الزينية” إذا؟ جدتي عازفة مثل ابن عمها، لن تنتخب أحدا. أسألها عن موقف أقاربها فتشيح بوجهها بلا إجابة.

رغم “النشفان” الذي ضرب ذاكرتها، لا تنسى جدتي يوم ذهبت إلى دارة أحمد بيك الأسعد في الطيبة، لتشكو زوجها وأهله لقريبها يوسف بيك، الذي كان هناك برفقة أصدقائه الفرنسيين.

مرضت جدتي في صباها، بعدما أنجبت أبي وعمتي، مرضا تسبب لها بالعقم، بينما كانت بطون “سلفاتها” تنتفخ سنة بعد سنة أمام عينيها وهن يتسابقن بالإنجاب. وفي يوم من الإيام أخبرها أحدهم أن الأخوة مجتمعون في القبو حول زوجها، يحاولون إقناعه بالزواج من امرأة أخرى حفاظا على سلالته. ثارت ثائرتها في ذلك اليوم، رمتهم بالحجارة والشتائم، وعادت مسرعة إلى بيتها لبست فستانها المعرق وتحته سروال له “كشكش” عريض وانتعلت “كندرتها” البلاستيكية، وهبت باتجاه الطيبة.

قطعت على “القدومية” خراجات القرى وخلاتها ووعورها، الشمس تضرب رأسها بسياط اللهب والأشواك تنخر قدميها فتدميهما والدموع لا تتوقف، إلى أن وصلت إلى مطحنة الصفرا على ضفة الليطاني، جلست على صخرة بحذاء النهر غسلت وجهها وقدميها، ثم تمددت تستريح في ظل “دفلاية”. استيقظت مذعورة، وركضت باتجاه الجسر، الذي يربط بلاد ما بعد النهر (القاطع) بما قبلها، بعدما بدأت تتناهى إلى أذنيها أغنيات جنيات الماء وهن يدرن حجر المطحنة. الجنيات السيئات الصيت، كن قد أغوين “غزيل” وخطفنه منذ سنوات. المسكين قرر أن يسبق أهل القرية إلى طحن القمح، فمشى مع أذان الفجر وصل والعتمة مازالت تسرح في الوعر فتلقفته أيدي جنيات الماء. كان فلاحو تلك المنطقة، أو العابرون فيها، يرونه والجنية أحيانا جالسين يتبادلان القبل على سفح صخرة أو عاريين يتطارحان على بيدر قمح.

على يسار الجسر ينفتح أمام عينيها طريقان يؤديان إلى الطيبة، واحد صعودا صوب علمان ثم الشومرية ثم دير سريان فالطيبة، وآخر نزولا صوب وادي الحجير، الذي تتصاعد منه حكايا الثعابين “المؤلفة” أي التي تجاوز عمرها الألف سنة، التي تصطاد البشر كما تصطاد القطة العصافير، والضباع التي “تسبع” الناس بعدما تنثر قطرات من بولها على وجوههم فيتبعونها إلى مغاراتها ليصبحوا طعاما لصغارها، والخنازير البرية السوداء التي تجثم على صدر الفريسة حتى الاختناق والنسور التي تنقض من الأعالي، فاختارت الأول.

وصلت إلى الطيبة مع غياب الشمس منهكة، مكسورة، دامية الروح والقدمين، دامعة القلب والعينين. عرفت عن نفسها فقادها أحدهم إلى حيث يجلس قريبها، فحكت وبكت وشكت له ضيمها، أمام الأصدقاء الفرنسيين الذين أكثروا من قول كلمة “أووه” بصوت عال، حين رأوا دموعها.

ليلتها باتت جدتي عند الست فاطمة (زوجة أحمد بيك الأسعد)، التي خصصت لها غرفة وسريرا أبيض نظيفا وأعطتها ثوبا للنوم وردي اللون، مزينا عند ياقته وكميه ببعض الدنتيلا الناعم، استفاقت صباحا فوجدت أمامها امرأة جميلة سافرة، فصبحتها وشكرتها ظنا منها أنها الست فاطمة، وحين طال سكوتها، اكتشفت أن الذي أمامها مرآة تعكس صورتها هي!

قبل الظهر كان قريبها قد أرسل سيارته ليقلها من الطيبة إلى دارته في كفررمان. حل آل الزين قضية ابنتهم بالتي هي أحسن، تتكتم جدتي عن سرد تفاصيل الحل. تكتفي بالقول إن خالها الشيخ محمد خليل الزين، الذي كان يسكن في النويري، أشرف على علاجها عند أشهر الأطباء وأشطرهم في بيروت، واحتضن ولديها، رغم انشغالاته بجمعية “الهداية والإرشاد” وسفراته الكثيرة، خصوصا إلى الأزهر في مصر برفقة الشيخ حسن خالد. وهو الذي رسم مسيرة حياة وحيدها لاحقا، حين أقنعه بالسفر إلى النجف، وكان قبلها قد وضع مكتبته القيمة بتصرفه، فتعرف فيها إلى طه حسين وسعيد عقل، كما تقول جدتي.

وتقول جدتي أيضا، إن أقاربها “الزينية” علموها بعدما لمع اسم وحيدها في النجف، حكاية عن اللبوة والواوية (أنثى ابن آوى) لترويها ل”سلفاتها” المتباهيات بكثرة الإنجاب، أن الواوية تنجب كل موسم “مجرية” أي عدد كبير من الجراء، أما اللبوة فتنجب مرة واحدة في حياتها ألا وهو الأسد.

تجلس جدتي قبالة التلفزيون تتابع أخبار المرشحين باهتمام. تسأل للمرة الألف عن المرشحين عن دائرة النبطية، وتتفاجأ أن عبد اللطيف غير مرشح، “النشفان” يروح ويجيء، رغم ذلك مازالت تذكر أغنية انتخابية طالما رددوها بعد فوز لوائح آل الأسعد – الحلفاء، تضارع أغنية “كامل الأوصاف” لعبد الحليم حافظ:

كامل الأسعد فتني

وأنور الصباح أخذني

من هواهم رحت أغني

آه يا فهمي آه يا زين.

09.04.2018
زمن القراءة: 7 minutes

بعد أيام يصبح عمر جدتي 95 سنة، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل يصبح عمر النائب عبد اللطيف الزين 86 سنة، أمضى ستين منها في المجلس النيابي، وأمضتها جدتي معيدة انتخابه دورة إثر أخرى. موعد الانتخابات النيابية المقبلة في 6 مايو/ أيار، سيمرّ بلا أهمية، على الأقل بالنسبة إلى جدتي، التي لن تنتخب، لأن ابن عمها عبد اللطيف لم يترشح.

بعد أيام يصبح عمر جدتي 95 سنة، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل يصبح عمر النائب عبد اللطيف الزين 86 سنة، أمضى ستين منها في المجلس النيابي، وأمضتها جدتي معيدة انتخابه دورة إثر أخرى. موعد الانتخابات النيابية المقبلة في 6 مايو/ أيار، سيمرّ بلا أهمية، على الأقل بالنسبة إلى جدتي، التي لن تنتخب، لأن ابن عمها عبد اللطيف لم يترشح.

عبد اللطيف كما تمط جدتي الياء في اسمه على طريقة أهل الجنوب، هو ابن عمها. صلة القربى بينهما بعيدة نسبياً. يرجع نسبهما، عبد اللطيف لجهة والده وجدتي لجهة والدتها، إلى الشيخ سليمان الزين.

الشيخ سليمان الزين أنجب إسماعيل (وريثه السياسي) والد النائب يوسف الزين، الذي هو والد عبد اللطيف، وأنجب كذلك الشيخ حسين الزين (وريثه الديني) والد الشيخ خليل الزين جد جدتي، والد أمها.

هكذا أصبح عبد اللطيف في عُرف جدتي ابن عمها، على رغم كل هذا التعقيد. عبد اللطيف أيضاً يعتبر جدتي ابنة عمه بكل بساطة. لا يمرّ عيد أو مناسبة إلا ويزورها هي شخصياً. يرسل الهدية قبل مجيئه بيوم أو يومين فتعرف أنه آتٍ. تبلِغ من في البيت أن يتحضروا إذا كانوا راغبين. فابن العم لا يقصد غيرها، لكن لا بأس في وجود آخرين.

في حمأة الانتخابات لا يزور عبد اللطيف أحداً من أقاربه، هم الذين يزورونه. بيك لا يهوى التملق ولا استجداء الأصوات. وعلى عكس غيره من النواب، يظل يطل على الناس طوال فترته النيابية، يتابع أدق تفاصيل شؤونهم

بعد أيام يصبح عمر جدتي 95 سنة، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل يصبح عمر النائب عبد اللطيف الزين 86 سنة، أمضى ستين منها في المجلس النيابي، وأمضتها جدتي معيدة انتخابه دورة أثر دورة. موعد الانتخابات النيابية المقبلة في 6 أيار/مايو، سيمر بلا أهمية، على الأقل بالنسبة لجدتي، التي لن تنتخب، لأن ابن عمها عبد اللطيف لم يترشح.

عبد اللطيف كما تمط جدتي الياء في اسمه على طريقة أهل الجنوب، هو ابن عمها. صلة القربى بينهما بعيدة نسبيا. يرجع نسبهما، عبد اللطيف لجهة والده وجدتي لجهة والدتها، إلى الشيخ سليمان الزين.

الشيخ سليمان الزين أنجب إسماعيل (وريثه السياسي) والد النائب يوسف الزين، الذي هو والد عبد اللطيف، وأنجب كذلك الشيخ حسين الزين (وريثه الديني) والد الشيخ خليل الزين جد جدتي، والد أمها.

هكذا أصبح عبد اللطيف في عرف جدتي ابن عمها، رغم كل هذا التعقيد. عبد اللطيف أيضا يعتبر جدتي ابنة عمه بكل بساطة. لا يمر عيد أو مناسبة إلا ويزورها هي شخصيا. يرسل الهدية قبل مجيئه بيوم أو يومين فتعرف أنه قادم. تبلّغ من في البيت أن يتحضروا إذا كانوا راغبين. فابن العم لا يقصد غيرها، لكن لا بأس في وجود آخرين.

في حمأة الانتخابات النيابية لا يزور عبد اللطيف أحدا من أقاربه، هم الذين يزورونه. بيك لا يهوى التملق ولا استجداء الأصوات. وعلى عكس غيره من النواب، يظل يطل على الناس طوال فترته النيابية، يتابع أدق تفاصيل شؤونهم ولا يبخل عليهم بالخدمات، كما يقولون. في فترة الانتخابات يتحولون إلى ماكينة انتخابية عفوية له.

في قرية جدتي جبشيت، لا تغمض أعين الأحزاب وجماهيرهم عن آل الزين أو “الزينية” كما يسمونهم. فهم منذ عادت الانتخابات النيابية إلى ربوعنا بعد انتهاء الحرب الأهلية، يشكلون كتلة بشرية صلبة، تحيط بابن عمهم عبد اللطيف، من دون أن يوحي إليهم بذلك. همهم ألا يغيب اسم العائلة عن سجلات المجلس النيابي. يعقدون الاجتماعات سرا، ما يحكونه في خلواتهم لا يخرج إلى العلن، يقفلون عليه ألسنتهم وآذانهم، وفي يوم الانتخاب يتحركون دفعة واحدة باتجاه صندوقة الاقتراع، يسقطون فيها اسم عبد اللطيف فقط ويشطبون ما عداه من أسماء، ضاربين عرض الحائط بكل الوعود والعهود التي تقطعها الجماهير بعدم التشطيب. اللهم إلا في دورتي 1992 و1996 حين كان الجنوب دائرة انتخابية واحدة، في تلك الدورتين انتخبوا نبيه بري وفاء وبهية الحريري من باب الصداقة!

حال “الزينية” بعدما انتشروا من شحور في قضاء صور باتجاه النبطية وكفررمان وجبشيت، شبيهة بحال الأقليات، التي تنشأ نتيجة هجرة طوعية أو تهجير قسري. يعيشون متكتلين حفاظا على جذورهم وحماية لهويتهم. أقلية عائلية ضئيلة، لكنهم يملكون شعورا متفوقا بالعظمة، ينبع من دورهم التاريخي ومركزهم الديني ونفوذهم السياسي في المنطقة.

في القرن الثامن عشر، فرّ الشيخ علي الزين صاحب شحور كما هو معروف، من العثمانيين الذين طلبوا رأسه، بعدما انتقم والفلاحين من المتسلم العثماني الذي قتل الزعيم العاملي ناصيف النصار، ووصل إلى الهند، وبسبب علمه وسعة معرفته أصبح وزيرا لأحد ملوكها، كما تزوج من امرأة هندية سمراء ذات حسن وجمال وعاد إلى بلاده بعد قدوم المستعمر البريطاني، أنجب أطفالا تعلو وجوههم سمرة نقية وجمال غير معهودين في بلادنا. وفي سلالة الشيخ سليمان بكره، الذي درس العلوم الدينية في مدرسة جباع العلمية، توزعت مهام العائلة بين ذكورها، على الشأن الديني والسياسي والثقافي وحتى الإقطاعي.

ظل “الزينية” حتى آخر دورة انتخابية قبل الحرب الأهلية، التي جرت في العام 1972، “أسعديين”، أو متحالفين مع آل الأسعد، العائلة الإقطاعية، التي حكمت الجنوب سياسيا قبل نشوء حركة “أمل” والأحزاب اليسارية المدعومة من المقاومة الفلسطينية. ورغم الخصام الثقافي والسياسي بين الثنائية الشيعية وبين الأسعديين، استقر اسم عبد اللطيف على لوائح الثنائية منذ أول انتخابات بعد الحرب إلى آخر تمديد للمجلس النيابي الحالي.

تقول جدتي إن الفرنسيين يفرضون عبد اللطيف على نبيه بري، والده يوسف بيك كان صديقهم، بين العائلة والفرنسيين تاريخ طويل من المال والأعمال والأسرار السياسية.

في هذه الانتخابات لم يتدخل الفرنسيون على ما يبدو، عزف عبد اللطيف عن الترشح لأسباب صحية، وفشل في فرض ابن أخيه سعد مكانه. خطفت حركة “أمل” المقعد النيابي. لمن سيصوت “الزينية” إذا؟ جدتي عازفة مثل ابن عمها، لن تنتخب أحدا. أسألها عن موقف أقاربها فتشيح بوجهها بلا إجابة.

رغم “النشفان” الذي ضرب ذاكرتها، لا تنسى جدتي يوم ذهبت إلى دارة أحمد بيك الأسعد في الطيبة، لتشكو زوجها وأهله لقريبها يوسف بيك، الذي كان هناك برفقة أصدقائه الفرنسيين.

مرضت جدتي في صباها، بعدما أنجبت أبي وعمتي، مرضا تسبب لها بالعقم، بينما كانت بطون “سلفاتها” تنتفخ سنة بعد سنة أمام عينيها وهن يتسابقن بالإنجاب. وفي يوم من الإيام أخبرها أحدهم أن الأخوة مجتمعون في القبو حول زوجها، يحاولون إقناعه بالزواج من امرأة أخرى حفاظا على سلالته. ثارت ثائرتها في ذلك اليوم، رمتهم بالحجارة والشتائم، وعادت مسرعة إلى بيتها لبست فستانها المعرق وتحته سروال له “كشكش” عريض وانتعلت “كندرتها” البلاستيكية، وهبت باتجاه الطيبة.

قطعت على “القدومية” خراجات القرى وخلاتها ووعورها، الشمس تضرب رأسها بسياط اللهب والأشواك تنخر قدميها فتدميهما والدموع لا تتوقف، إلى أن وصلت إلى مطحنة الصفرا على ضفة الليطاني، جلست على صخرة بحذاء النهر غسلت وجهها وقدميها، ثم تمددت تستريح في ظل “دفلاية”. استيقظت مذعورة، وركضت باتجاه الجسر، الذي يربط بلاد ما بعد النهر (القاطع) بما قبلها، بعدما بدأت تتناهى إلى أذنيها أغنيات جنيات الماء وهن يدرن حجر المطحنة. الجنيات السيئات الصيت، كن قد أغوين “غزيل” وخطفنه منذ سنوات. المسكين قرر أن يسبق أهل القرية إلى طحن القمح، فمشى مع أذان الفجر وصل والعتمة مازالت تسرح في الوعر فتلقفته أيدي جنيات الماء. كان فلاحو تلك المنطقة، أو العابرون فيها، يرونه والجنية أحيانا جالسين يتبادلان القبل على سفح صخرة أو عاريين يتطارحان على بيدر قمح.

على يسار الجسر ينفتح أمام عينيها طريقان يؤديان إلى الطيبة، واحد صعودا صوب علمان ثم الشومرية ثم دير سريان فالطيبة، وآخر نزولا صوب وادي الحجير، الذي تتصاعد منه حكايا الثعابين “المؤلفة” أي التي تجاوز عمرها الألف سنة، التي تصطاد البشر كما تصطاد القطة العصافير، والضباع التي “تسبع” الناس بعدما تنثر قطرات من بولها على وجوههم فيتبعونها إلى مغاراتها ليصبحوا طعاما لصغارها، والخنازير البرية السوداء التي تجثم على صدر الفريسة حتى الاختناق والنسور التي تنقض من الأعالي، فاختارت الأول.

وصلت إلى الطيبة مع غياب الشمس منهكة، مكسورة، دامية الروح والقدمين، دامعة القلب والعينين. عرفت عن نفسها فقادها أحدهم إلى حيث يجلس قريبها، فحكت وبكت وشكت له ضيمها، أمام الأصدقاء الفرنسيين الذين أكثروا من قول كلمة “أووه” بصوت عال، حين رأوا دموعها.

ليلتها باتت جدتي عند الست فاطمة (زوجة أحمد بيك الأسعد)، التي خصصت لها غرفة وسريرا أبيض نظيفا وأعطتها ثوبا للنوم وردي اللون، مزينا عند ياقته وكميه ببعض الدنتيلا الناعم، استفاقت صباحا فوجدت أمامها امرأة جميلة سافرة، فصبحتها وشكرتها ظنا منها أنها الست فاطمة، وحين طال سكوتها، اكتشفت أن الذي أمامها مرآة تعكس صورتها هي!

قبل الظهر كان قريبها قد أرسل سيارته ليقلها من الطيبة إلى دارته في كفررمان. حل آل الزين قضية ابنتهم بالتي هي أحسن، تتكتم جدتي عن سرد تفاصيل الحل. تكتفي بالقول إن خالها الشيخ محمد خليل الزين، الذي كان يسكن في النويري، أشرف على علاجها عند أشهر الأطباء وأشطرهم في بيروت، واحتضن ولديها، رغم انشغالاته بجمعية “الهداية والإرشاد” وسفراته الكثيرة، خصوصا إلى الأزهر في مصر برفقة الشيخ حسن خالد. وهو الذي رسم مسيرة حياة وحيدها لاحقا، حين أقنعه بالسفر إلى النجف، وكان قبلها قد وضع مكتبته القيمة بتصرفه، فتعرف فيها إلى طه حسين وسعيد عقل، كما تقول جدتي.

وتقول جدتي أيضا، إن أقاربها “الزينية” علموها بعدما لمع اسم وحيدها في النجف، حكاية عن اللبوة والواوية (أنثى ابن آوى) لترويها ل”سلفاتها” المتباهيات بكثرة الإنجاب، أن الواوية تنجب كل موسم “مجرية” أي عدد كبير من الجراء، أما اللبوة فتنجب مرة واحدة في حياتها ألا وهو الأسد.

تجلس جدتي قبالة التلفزيون تتابع أخبار المرشحين باهتمام. تسأل للمرة الألف عن المرشحين عن دائرة النبطية، وتتفاجأ أن عبد اللطيف غير مرشح، “النشفان” يروح ويجيء، رغم ذلك مازالت تذكر أغنية انتخابية طالما رددوها بعد فوز لوائح آل الأسعد – الحلفاء، تضارع أغنية “كامل الأوصاف” لعبد الحليم حافظ:

كامل الأسعد فتني

وأنور الصباح أخذني

من هواهم رحت أغني

آه يا فهمي آه يا زين.