fbpx

حينما فجّر الرئيس التركي قنبلة في وجهي: “جدتي كردية”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما اطّلعت في اليوم التالي على النشرة التي ضمت ترجمة مقابلتي مع أوزال أدركت التأثير الصادم لاعتراف رئيس الدولة التركية بأصوله الكردية. كانت الترجمة المنشورة كاملة باستثناء تلك العبارة “المحرّمة”!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

زيارتي الصحافية الأولى إلى تركيا كانت في خريف 1990 ولم تكن لها علاقة مباشرة بمتابعة الوضع الكردي هناك أو بتعبير أدق الوضع الكردي لم يكن التبرير للذهاب إلى تركيا. المهمة الأساسية كانت لإجراء تحقيق صحافي عن مشروع السدود الكبرى الذي يعرف بـ”غاب” GAP: Great Anatolian Project. وكان وقتها موضع نقاشات واسعة في تركيا فيما كان الرئيس تورغوت أوزال يعتبره في رأس أولويات اهتماماته مذ كان رئيساً للوزراء. المشروع الذي يقوم على بناء سدود في حوض نهريّ دجلة والفرات كان أيضاً موضع جدل واعتراض من السكان الكرد الذين يشكلون الغالبية الساحقة في المحافظات التسع التي تتأثر بالمشروع في جنوب شرقي تركيا، إذ اعتبروا أنه وسيلة أخرى لإخلاء مناطق كردية واسعة من سكانها، نتيجة لبناء السدود وجرف القرى لإقامة خزانات المياه. من جهة أخرى، كان المشروع، وما زال، يثير احتجاجات عراقية وسورية في ظل مخاوف من أنه يعزز سيطرة الأتراك على التحكم بتدفق مياه النهرين اللذين يشكلان شرياناً حياتياً للبلدين. 

إلى ذلك كانت سياسات أوزال المميزة والمختلفة جداً عن سياسات أسلافه على صعيدي الداخل والخارج موضع اهتمام لافت من الصحافة الغربية التي كان مراسلوها يتوافدون على تركيا لتغطية التطورات المستجدة، وإجراء لقاءات صحافية مع أوزال. 

كان على المراسلين الأجانب أن يحصلوا قبل البدء بمهماتهم الصحافية على بطاقة اعتماد من مديرية الإعلام التابعة لرئاسة الوزراء في أنقرة، ومعها تخصيص أحد العاملين في المديرية للمساعدة في ترتيب لقاءات مع مسؤولين حكوميين. كما كان يتعين إعلامهم بنية المراسل في السفر إلى المحافظات (الولايات) الكردية التي لم تكن طبعاً تعترف رسمياً بأنها كردية. وقتها كان محافظ (والي) أكبر تلك المحافظات، تحديداً ديار بكر (آمد كما يسميها الكرد) بمثابة كبير المحافظين وكان يكنى بـ”سوبر والي”. قبل أن أغادر لندن كنت اتصلت بالمستشارة الصحافية في السفارة التركية فأوضحت لي الإجراءات المطلوبة في أنقرة، وأبدت سرورها بأن صحيفة عربية رئيسية في لندن مهتمة أكثر من غيرها بتغطية الأحداث في تركيا، والاطلاع على مشروع “غاب”. في الأثناء زودني صديقي الصحافي الأميركي جوناثان راندل مراسل صحيفة “واشنطن بوست”، وكان حينها يقيم في باريس، برقم هاتف شاب كردي اسمه إيلكر في جامعة دياربكر يعمل مع دراسته مترجماً ومرافقاً للمراسلين الأجانب وسبق لراندل ان استعان به خلال جولاته الصحافية في المناطق الكردية. 

في أنقرة حصلت على الموافقات المطلوبة للاتصال بمديرية مشروع “غاب” في مدينة شانلي أورفة عاصمة ولاية أورفة في جنوب شرقي تركيا لترتيب زيارتي إلى السدود التي لم يكن قد اكتمل تشييدها بعد. شانلي أورفة يسميها الأتراك مدينة الأنبياء التي هي وفقاً للأسطورة السائدة مسقط رأس النبي ابراهيم وفيها عاش النبي أيوب منفياً وفيها أيضاً عاش وتزوج النبي يعقوب. من أشهر معالم المدينة بحيرة الأسماك التي تشير الأسطورة إلى أن الملك البابلي الطاغية نمرود أمر بإشعال النار في مكان البحيرة فيها وأحرق ابراهيم فيها، لكن النار تحولت بقدرة إلهية إلى ماء والحطب إلى أسماك. 

في مقاهي المدينة لم يكن صعباً تمييز رجال الأمن من بين روادها الكرد.

يعملون على مراقبة واعتقال كل من يجرؤ على التكلّم بالكردية.

لم أسافر من أنقرة إلى شانلي أورفة مباشرة بل توجهت أولاً إلى دياربكر حيث وجدت إيلكر وبقيت هناك بضعة أيام، تعرفت خلالها إلى معالم المدينة فيما عرفني أيلكر إلى نشطاء كرد بينهم محامون أطلعوني على معاناتهم وأساليب القمع التي تستخدمها أجهزة الأمن ضدهم. طبعاً كان يهمهم أن يتحدثوا إلى صحافي كردي يعمل في صحيفة عربية بارزة لإيصال أصواتهم إلى الرأي العام، يمكن الوثوق به والانطلاق في الحديث معه بصراحة تامة. إضافة إلى هؤلاء سعيتُ للقاء شخصيات كان أصدقاء كرد في لندن نصحوني بضرورة التعرف إليها. من بين الذين التقيتهم زبير أيدار (حيدر) الذي فر لاحقاً من تركيا إلى أوروبا وهو حالياً عضو بارز في المجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني KCK التي هي في الواقع غطاء لتنظيمات وشخصيات تابعة لحزب “العمال الكردستاني”. لاحقاً في منتصف التسعينات كانت لي معه مواجهة كلامية، سأروي تفاصيلها في ما بعد. إلى ذلك تعرفت إلى المحامي أورهان دوغان الناشط الكردي في مجال حقوق الإنسان وكان مكتبه في بلدة جزري القريبة من الحدود العراقية. عام 1994 كان هو والنائبة ليلي زانا بين نواب كرد آخرين حكمت عليهم محكمة أمن الدولة بالسجن 15 عاماً، بتهمة الانتماء إلى “العمال الكردستاني” وأفرج عنهم بعدما امضوا في السجن 6 أعوام. توفي دوغان في مدينة وان في 2007 وهو يدافع عن متهمين في إحدى المحاكم هناك. 

في مقاهي المدينة لم يكن صعباً تمييز رجال الأمن من بين روادها الكرد. يعملون على مراقبة واعتقال كل من يجرؤ على التكلّم بالكردية التي لم تكن موجودة أصلاً وفقاً للسياسة الرسمية وكانت تُعتبر في أحسن الأحوال لهجة تركية يتكلم بها “أتراك الجبل”. حتى الأغاني الكردية كانت ألحانها كردية لكن كلماتها تركية، وتنتشر بين السكان باللغة الأم على أوسع نطاق مسجلة في “كاسيتات” تباع سراً ويستمع الناس إليها في بيوتهم أو في سياراتهم. وكان لافتاً أنني عندما كنت أتنقل بالسيارة في المنطقة كان السائق يحرص على تشغيل المسجل للاستماع إلى أغان كردية وطنية، الكثير منها في تمجيد “آبو” (عبدالله أوجلان) لكن ما أن كانت السيارة تقترب من إحدى نقاط السيطرة الأمنية كان يسارع إلى إخفاء “الكاسيت” الذي كان يعتبر مادة جرمية ويشغّل مكانه كاسيت لأغاني تركية.

مهدي وليلى

في تلك الزيارة أيضاً تعرفت إلى مهدي زانا وزوجته ليلى. أخبرني إيلكر أن نشطاء كرد في المدينة يزورون منزلهما لتهنئة مهدي بإطلاق سراحه، صباح ذلك اليوم في اطار عفو شمله بعدما أمضى 11 عاماً من مدة محكوميته. في السبعينات انتمى زانا إلى “حزب العمال التركي” وفي 1977 انتخب محافظاً لدياربكر، وبدأ يشجع الكرد على استخدام لغتهم الأم فيما عمل على توسيع النشاطات الكردية إلى أن اعتقل إثر الانقلاب العسكري عام 1980 وحكم عليه بالسجن. لاحقاً اعتقل وسجن مرة أخرى نحو عامين، عام 1994. بعد انتهاء مدة سجنه اتخذ قراراً بعدم التكلم بالتركية أبداً وما زال ملتزماً قراره.

كان مهدي زانا في عمر 51 عاماً بعد إطلاق سراحه، وبدا نحيلاً ومتعباً وأكبر سناً من عمره الحقيقي. إلى جانبه في غرفة الاستقبال الصغيرة كانت تجلس زوجته ليلى التي اشتهرت بين الناس بتحدّيها المستمر طوال فتره سجن زوجها، أجهزة الأمن والشرطة التي كانت تمنعها من زيارته، لكنها كانت تواصل المطالبة بالسماح لها بالزيارة ولم تتوقف عن ذلك على رغم طردها وإهانتها وأحياناً ضربها من قبل حراس السجن. كانت ليلى شابة بسيطة غير متعلمة ولا تجيد القراءة والكتابة لكن ولاءها لزوجها ومشهدها اليومي أمام السجن جعلاها رمزاً للنضال الكردي في دياربكر قبل أن تتحول ناشطة بارزة وانتخبت في 1991 نائبة في البرلمان التركي، حيث أثارت ضجة غير مسبوقة خلال جلسة الافتتاح عندما أضافت بالكردية عبارة مفادها أنها تؤدي القسم لتعميق الأخوة الكردية – التركية. 

ليلى زانا

كيف حدث هذا التحول في حياة ليلى زانا؟ وجهت إليها هذا السؤال غداة جلسة افتتاح البرلمان في جلسة معها ومع زميلها النائب الكردي خطيب دجلة. أجابت زانا في مقابلة صحافية نشرتها وقتها في “الحياة” قائلة: “كان عمري 14 سنة عندما انتقلت من القرية إلى دياربكر أمّاً لطفلين. بين 1975 و1980 كنت منصرفة فقط للاهتمام بشؤون البيت وتربية طفليّ ولم أعرف سوى الجدران الأربعة لبيتي. في 1980 (تاريخ اعتقال وسجن زوجها) بدأت مرحلة جديدة في حياتي استمرت عشر سنوات أمضيت معظمها أمام أبواب السجون. هكذا اكتشفت هويتي أمام هذه الأبواب وتحولت تدريجاً إلى مناضلة من دون أن أدري”. تضيف: “كنت أميّة فأخذت أعلّم نفسي القراءة من الصحف وعندما تحسنت لغتي التركية بحلول 1984 بدأت أقرأ كتباً مدرسية وتقدّمت بالامتحانات المطلوبة فحصلت على شهادة مدرسية من دون ان أدخل صفاً. بعد عام آخر نجحتُ في امتحان الحصول على شهادة ليسيه. لكنني لم أستطع تحقيق حلمي بالدراسة الجامعية إذ نجحت بتفوق في العلوم الاجتماعية لكنني فشلت في دراسة الرياضيات وسأحاول مجدداً في العام المقبل”. وعن انتهاكها القواعد البرلمانية التي كانت تحرّم استخدام أي لغة غير التركية وتجرّمه، أوضحت: “كان التحدي مهماً بالنسبة إلي وما فعلته منحني رضاً عميقاً حتى ولو شنقوني بل قلت لنفسي إنني مستعدة لمساعدة الجلاد في وضع حبل المشنقة على رقبتي”. 

زانا وخطيب دجلة كانا من بين 22 نائباً كردياً فازوا في الانتخابات على قائمة “حزب الشعب الجمهوري”. النواب الكرد كانوا أعضاء في “حزب العمل الشعبي” (الكردي) الذي لم يسمح له بخوض الانتخابات لأن القانون التركي لا يسمح بمشاركة حزب قومي في العملية “الديموقراطية”. لذلك عقد الحزب صفقة مع “حزب الشعب الجمهوري” لإدراج مرشحيه في المناطق الكردية في قائمته، وفي حال فوز عدد كاف منهم فإن النظام البرلماني يسمح بتشكيل كتلة برلمانية تضم كحد أدنى 20 نائباً. “الشعب الجمهوري” وافق على الصفقة لإدراكه أن أصوات أنصاره وحدها لم تكن كافية لفوز مرشحيه في المناطق الكردية. لكن زانا لم تكن الوحيدة التي أثارت تلك الضجة في الجلسة الافتتاحية للبرلمان وأغضبت النواب، الذين هتف بعضهم مطالباً بمحاكمتها فيما سارع المدعي التركي العام إلى تهديدها بأقصى عقوبة بما في ذلك الحكم بإعدامها. دجلة ألقى قبل أدائه اليمين الدستورية محاضرة على النواب تحدث فيها عن مظلومية الكرد وحرمانهم حقوقهم والقمع الذي يمارَس ضدهم. قصارى الكلام الهيجان الذي أثاره النائبان الكرديان أدى إلى أن يطالبهما زعيم “الشعب الجمهوري” إردال إينونو بالاستقالة، لكنهما رفضا طلبه وذكّراه بأن النواب الكرد انتخبوا بفضل أصوات أنصار “العمل الشعبي” فحسب. الخلاف بين الطرفين أدى أيضاً إلى قرار إينونو حرمان النواب الكرد من المشاركة في اللجان البرلمانية فأعلنوا تشكيل كتلة خاصة بهم. 

“كان التحدي مهماً بالنسبة إلي وما فعلته منحني رضاً عميقاً حتى ولو شنقوني بل قلت لنفسي إنني مستعدة لمساعدة الجلاد في وضع حبل المشنقة على رقبتي”

المواجهات عام 1990 بين قوات الجندرمة ومقاتلي “العمال الكردستاني” كانت ساخنة وكانت مجموعات من المقاتلين الكرد تقوم بعمليات جريئة في أماكن مختلفة منها قطع طرق عامة وإقامة نقاط سيطرة هنا وهناك والانسحاب منها قبل وصول الجندرمة. كانوا ينفّذون عمليات مفاجئة حتى داخل المدن الكردية الكبيرة مثل دياربكر كمهاجمة مقر للشرطة واغتيال عناصر منها. خارج المدن كانوا يشنون هجمات ضد قوات الجندرمة والقرى الكردية التي كان رجالها أعضاء في مجموعات حراس القرى ولم تكن عائلاتهم تسلم احياناً من انتقام الثوار. وقتها كان جبل آكري (أرارات) حصناً منيعاً للثوار الكرد ينطلق منه المقاتلون في مواجهاتهم ضد قوات الجندرمة. لكن آكري لم يكن الحصن الوحيد لمقاتلي “العمال الكردستاني” (الغوريلا كما يسميهم الحزب) إذ ينشطون في جبال أخرى تمتد على طول الحدود مع إيران والعراق، فيما كان مقاتلون آخرون يتسللون إلى تركيا عبر الحدود الطويلة من سوريا التي كان يقيم فيها أوجلان متنقلاً بين دمشق وبر الياس في لبنان حيث المعسكر التدريبي التابع للحزب. الرئيس الراحل حافظ الأسد تبنى سياسية مزدوجة تجاه الكرد. كان يسمح لـ”العمال الكردستاني” بأن يتخذ سوريا قاعدة لمقاتليه ونشاطهم، على أنيتدرّبوا في معسكرهم في الأراضي اللبنانية، وسمح بتسللهم من سوريا إلى الأراضي التركية. النظام البعثي لم يكن يعترف بحقوق الكرد السوريين لكنه في مسعاه لاحتواء إحباطهم سمح لهم بالانضمام إلى “العمال الكردستاني” والمشاركة في صفوفه ضد “الدولة التركية الفاشية”. 

ملاحقة النشطاء

في المقابل، كانت الأجهزة الامنية التركية تنشط في المدن الكردية في ملاحقة النشطاء واعتقالهم والتصدي لتجمعاتهم وتظاهراتهم خصوصاً مع اقتراب المناسبات الكردية، وأبرزها نوروز عيد رأس السنة الكردية في الحادي والعشرين من آذار/ مارس. كان المتظاهرون يواجهون القوات الأمنية في عمليات كر وفر، غالباً ما كانت تنتهي بوقوع قتلى وجرحى وكنتُ أحياناً من بين صحافيين أجانب ومحليين شاهداً على هذه المواجهات. أما خارج المدن، في المناطق الجبلية ومحيطها، فكانت قوات الجندرمة لا تتورع عن إحراق قرى بكاملها بذريعة تعاون سكانها مع مقاتلي “العمال الكردستاني” وتهجيرهم إلى المدن الكبيرة خصوصاً دياربكر التي كان عدد سكانها يتزايد بنسب كبيرة لتزداد البطالة بين الشباب وتتعمق كراهيتهم للنظام. وكان كثيرون منهم يفرّون إلى الجبال للانضمام إلى “الغوريلا”. لكن أعداداً متزايدة من سكان القرى كانوا يتوجهون إلى إسطنبول حيث فرص أكبر لإيجاد عمل، وبالتالي أصبحت اسطنبول أكبر مدينة كردية في تركيا وبالتدريج صار كردها يلعبون دوراً حاسماً في تقرير نتائج الانتخابات المحلية والبرلمانية فيها. هكذا أدت سياسة “الأرض المحروقة” وتهجير سكان القرى الكردية إلى تحويلها مصدراً لا ينضب لرفد “الغوريلا” بالمقاتلين الشباب. 

في ظلّ تلك الاوضاع فرضت الاجهزة الامنية قيودا على تحركات ونشاطات المراسلين الأجانب لكنها سمحت لهم بحرية نسبية في التحرك في المناطق الكردية والتنقل بين مدنها وريفها. أتاحت لي تلك الفسحة من حرية التنقل فرصة زيارة مدن وقرى كردية والتعرف إلى شخصيات كردية كثيرة، فضلاً عن صحافيين أتراك ومراسلين أجانب كانوا مثلي معنيين بتغطية التطورات والأحداث في تلك المناطق. في حالات عدة كنت، كما غيري من المراسلين الأجانب، أشاهد أحياناً ونحن نمر بالسيارة في الطرق التي تربط بين المدن، قرى ترتفع في سمائها أعمدة الدخان، بعدما أحرقتها قوات الجندرمة. 

أصبحت اسطنبول أكبر مدينة كردية في تركيا وبالتدريج صار كردها يلعبون دوراً حاسماً في تقرير نتائج الانتخابات المحلية والبرلمانية فيها.

بعد نحو أسبوعين، عدت إلى أنقرة وأمضيت فترة أخرى متنقلاً بينها وبين اسطنبول. الحق كانت زيارتي الصحافية الأولى إلى تركيا استطلاعية لبناء فكرة عامة عن التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية، خصوصاً في ما يتعلق بالوضع الكردي. في أنقرة واسطنبول التقيت سياسيين وباحثين وكتّاب أعمدة وأكاديميين، ونشرتُ في “الحياة” أحاديث وحوارات مع عدد كبير منهم. خلال تلك اللقاءات والأحاديث كنت أسأل كل من أجري معهم لقاءً صحافياً عن “المسألة الكردية” وكانت الإجابات دائماً تنكر وجود مثل هذه المسألة أو حتى وجود الكرد في تركيا. 

لقاء أوزال

مع اقتراب نهاية زيارتي إلى تركيا أبلغني موظف مسؤول في مديرية الصحافة بأن مؤتمراً لوزراء خارجية منظمة التعاون الاسلامي سيعقد في اسطنبول واقترح أن انضم إلى مراسلين أجانب لتغطية وقائعه. غادرت أنقرة إلى اسطنبول وحصلت على بطاقة الاعتماد الصحافية المطلوبة لتغطية المؤتمر. كانت مناسبة لمزيد من التعارف مع صحافيين أجانب وأتراك ومسؤولين أيضاً منهم كايا توبيري الذي كان المستشار الإعلامي للرئيس أوزال ومحل ثقته المطلقة. طلبت من توبيري ترتيب لقاء مع أوزال لإجراء حديث صحافي فتردد بذريعة أن الرئيس مشغول جداً. قلت له إنني ربما كنت المراسل الوحيد الذي يمثل وسيلة إعلام عربية لتغطية وقائع المؤتمر، راجياً أن يبذل جهده لترتيب لقاء مع أوزال. بعد ساعات ابلغني توبيري بموعد للقاء الرئيس. 

انصبت الأسئلة على مؤتمر وزراء الخارجية والسياسة الخارجية لتركيا لكنني لم أفوت الفرصة لسؤاله عن “المسألة الكردية” في بلاده. توقعت أن السؤال سيزعجه. لكن لم يبد عليه أي انزعاج بل جاء رده هادئاً. قال إن المجتمع التركي يتألف من اثنيات متنوعة، فإضافة إلى الأتراك، هناك شيشان وشركس ولاز وأوزبك ومن أصول بلقانية وطبعاً كرد ولا يمكن التفريق بينهم على أساس الانتماء الأثني فكلهم بحسب القانون متساوون في الحقوق والواجبات. ثم فجرّ قنبلة: “شخصياً جدتي كانت كردية”. هنا نظر توبيري إلى ساعته في إشارة إلى أن وقت اللقاء انتهى فنهضت لتوديع أوزال الذي استدعى مصوره الخاص لالتقاط صورتنا معاً.

خرجت من اللقاء وأنا لا أصدق ما كشف عنه أوزال لجهة أصوله الكردية في حديث للنشر. توقعت أن هذه العبارة القصيرة ستثير رد فعل يصعب تحديد تداعياته بعد ترجمة اللقاء وتوزيعه على وسائل الإعلام التركية. كانت مديرية الإعلام التابعة لرئاسة الوزراء تصدر نشرة يومية تضم عرضاً لما تكتبه الصحافة العالمية عن تركيا لبعض التقارير، إضافة إلى تصريحات كبار المسؤولين الأتراك بما فيها ترجمات كاملة لمقابلات صحافية لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. عندما اطّلعت في اليوم التالي على النشرة التي ضمت ترجمة مقابلتي مع أوزال أدركت التأثير الصادم لاعتراف رئيس الدولة التركية بأصوله الكردية. كانت الترجمة المنشورة كاملة باستثناء تلك العبارة “المحرّمة”! لكن ذلك لم يمنع أوزال من تغيير المعادلة بانفتاحه تجاه المسألة الكردية في خطوات صدمت المؤسسة العسكرية والمجتمع التركي.

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.