fbpx

“كورونا” يغتال طبيب فقراء آخر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كورونا” الذي حصد آرواح آلاف الأطباء حول العالم، هو الآن سبب إضافي في تراجع أعداد أطباء الفقراء الذين يجعلون الحياة أقلّ قسوة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تحوّل “كورونا” إلى رجل عاديّ يسكن بيننا، يتمشّى في الشوارع، يستأجر غرفة، يشتري الخضر والفاكهة والمثلّجات. تحوّل الوباء إلى كائن يكاد يكون حياً أكثر منا جميعاً، ومرئياً أكثر منا جميعاً. ففيما نحن نختبئ منه، ونتكوّر في منازلنا ونبتعد من أصدقائنا وأحبائنا، ها هو يزداد اتّساعاً ووقاحةً. ولا يفيد الحديث عن لقاحات ممكنة في الأشهر الممكنة في تخفيف أعداد المصابين والوفيات، لا تمكن مواجهة “كورونا” بالحديث وحسب!

في الحيّ الذي أسكن فيه والذي لا تتعدى مساحته الكيلومتر المربع الواحد، سقط ثلاثة رجال، اثنان منهم يناهزان السبعين والثالث رجل خمسينيّ، كنا ندعوه طبيب الفقراء.

كان الدكتور خليل طبيب صحة عامة وطبيب أطفال، لكنّ كشفيته كانت لا تتجاوز الـ20 ألف ليرة لبنانية (13 دولاراً وفق السعر القديم، أي 1500 ليرة للدولار الواحد، وما لا يتعدّى الـ3 دولارات وفق سعر السوق المتأرجح حالياً). وأحياناً كان يكتفي بـ15 ألف ليرة، من دون أن يُشعرك بأن ذلك مهمّ جداً.

يعرفه الجميع هنا، يعرفون أن بإمكانهم اللجوء إليه حتى في أيام الآحد والعطل وفي ساعات الليل المتأخرة، إذ يصحو بسرعة بطرقة صغيرة على باب عيادته، التي هي عبارة عن غرفة في منزله.

أطباء الفقراء يتناقصون في هذا العالم، فيما يزداد أطباء الكياسة الذين قد يشعرون بإهانة كبيرة إن اكتفوا بمقابل بسيط مقابل أتعابهم، ويزداد الأطباء الذين لا يتعاملون مع مهنتهم بما يكفي من الإنسانية والعطف والشفقة، لتتحوّل صحة البشر وأحوالهم إلى سلعة تجارية لا أكثر، مثل أي باقة خضر أو علبة سجائر.

لا أعرف ماذا قد يفعل فقراء الحيّ ومساكين البلدة الآن، وقد خلع الرجل اللطيف ثوبه الأبيض من أجل نوم طويل، إنما بعيداً من طَرقات أصابعهم على عيادته. أفكّر بالأطفال الذين كان يعالجهم أو يتابع طعومهم مقابل بدل يستطيع أهلهم تحمّله، ماذا سيحصل للأطفال الآن؟ ماذا ستفعل الأمهات؟

أطباء الفقراء يتناقصون في هذا العالم، فيما يزداد أطباء الكياسة الذين قد يشعرون بإهانة كبيرة إن اكتفوا بمقابل بسيط مقابل أتعابهم.

أعرف الدكتور خليل كثيراً، وتعرفه نوبات الوجع التي أمرّ بها أحياناً، كنت حين أزوره يخيّل إليّ أنه كان بانتظاري، وكأنه يعرف مواعيد الوجع، ويحتسبها جيداً.

أتذكّر جدالاتنا حول الدخان، وحين كان يقيس معدّل الأوكسيجين في جسمي، وتكون النتيجة جيّدة، فأتنطّح بسرعة لأؤكد له أن النرجيلة غير مؤذية. ثمّ يودّعني بابتسامة مطمئنة.

كنت أشعر بأن الدكتور خليل يعرف كل شيء ولا يستعصي عليه أي مرض، تنتابني راحة تامة وأنا أستشيره حتى في أبسط قصصي وأكثرها تعقيداً.

وكان طبيب الفقراء السوري إحسان عز الدين أصيب بفايروس “كورونا” منذ فترة قصيرة واستطاع التغلّب عليه، وعز الدين أمضى حياته يعالج الناس من دون أجر أو بأجر رمزي. وإصابته بـ”كورونا” أثارت خوف كثيرين عرفوه وعالجهم، وخشي الفقراء من أن يخسروا أملاً آخر يعلّقون به حيواتهم.

ومنذ أشهر قليلة ودّعت مصر “طبيب الغلابة” محمد مشالي الذي كان يتقاضى 10 جينهات مقابل كشفه على الفقراء والمساكين.

“كورونا” الذي حصد آرواح آلاف الأطباء حول العالم، هو الآن سبب إضافي في تراجع أعداد أطباء الفقراء الذين يجعلون الحياة أقلّ قسوة، ويشكّلون وحدهم حبل نجاة المساكين والذين لا تسمح مداخيلهم بزيارة الأطباء الآخرين الذين يتقاضون أضعاف ما يمكن أن يجنيه طبيب يشفق على الفقراء.

أعرف الدكتور خليل كثيراً، وتعرفه نوبات الوجع التي أمرّ بها أحياناً، كنت حين أزوره يخيّل إليّ أنه كان بانتظاري، وكأنه يعرف مواعيد الوجع، ويحتسبها جيداً.

ثلاثة رجال طيبين غادروا الحي الذي أسكن فيه، لأنّ “كورونا” قتلهم، وهي مأساة تنسحب على أحياءٍ كثيرة حول البلدان، وإذ كنا سابقاً نتعامل مع الوباء كشرّ بعيد نراقبه من أمكنتنا الهانئة، فإنه الآن أقرب إلينا من أي شيء، وقد استطاع أن يصطاد أصدقاء وجيراناً وأفراداً من العائلة، واستطاع أن يهدّد حياتهم وحياتنا.

في وداع الدكتور خليل، قد لا يحدث شيء مهمّ، الأرض ستواصل دورانها وستبقى مكاناً يضيق بالفقراء وأصحاب الدخل المحدود الذين لا يملكون ترف المرض والحصول على علاج. وهذه مأساة إضافية. سيغادر الحيّ واليوميات، من دون أن نستطيع توديعه كما كنا نتمنّى بسبب إجراءات الرحيل التي يفرضها القاتل، “كورونا”. لن نستطيع حتى أن نشكره أو نكرّمه أو نعانقه أو نعتذر منه لأننا كنا مرضاه المزعجين الذين كانوا يوقظونه في الليل وفي أيام الإجازة، من أجل ألم في البطن أو في القلب. رحل الدكتور خليل، ونقص العالم وردة.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!