fbpx

اختفاء الأدوية من لبنان: كيف نتفادى النتائج الكارثية لرفع الدعم؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتحتّم على أيّ حلّ يهدف إلى استمرار الحصول على الأدوية بأسعار معقولة أنْ يكفل إتاحتها لجميع الفئات السكّانيّة حتّى الذين لا تشملهم التغطية التأمينيّة، لا سِيَّما في ظلّ ارتفاع نسبة البطالة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأت صيدليّات عدة في لبنان، الإبلاغ عن نقص الكثير من الأدوية لديها. قد يكون هذا النقص ناجماً عن تهريب الأدوية المدعومة خارج البلاد، وتوجّه المرضى وأصحاب المستودَعات المحلّيّة إلى تخزين أدوية الأمراض المزمنة، وفرْض مصرف لبنان آليّةً لاستيراد الأدوية تتطلّب وقتاً طويلاً للحصول على الموافقة وفتح الاعتمادات. وزاد الأمور سوءاً، ما أعلنه حاكم مصرف لبنان عن أنّ “المركزي” لا يمكنه الاستمرار في تقديم الدعم لاستيراد الأدوية، الأمر الذي تسبَّب في انتشار الذعر، والاندفاع إلى شراء المزيد من عبوات الأدوية، بل ربّما تخزين المرضى الأدوية على نحو مفرِط. وعلى رغم ضرورة وجود خطّة عاجلة تسمح بحصول الناس على الدواء بسعر معقول، فإنّ هذه الخطّة لا بدّ أنْ تكون واقعيّة وعمليّة وقابلة للتنفيذ. في ما يلي محاولة لإيجاد حلول لاختفاء الأدوية من لبنان، وضعتها مجموعة متخصصين في الطب والصيدلة هم نديم الجمل، ألفت أُسطة، مُنى نصر الله، ایلي الشاعر، غسّان حمادة وحسين إسماعيل.

تبلغ حصّة صناعة الأدوية المحلّيّة من حجم سوق المستحضرات الصيدلانيّة في لبنان 7 في المئة فقطّ (ويُقدَّر حجم سوق الأدوية اللبنانيّ بنحو 1.98 مليار دولار أميركيّ عام 2019). ولذا ثَمّة اعتماد كبير على الأدوية المستوردة لتلبية احتياجات السكّان المقيمين في البلاد. يتمكن نظام الدعم الذي يقدِّمه مصرف لبنان من توفير 85 في المئة من النقد الأجنبيّ اللازم لاستيراد الأدوية بسعر الصرف الرسميّ، أي 1500 ليرة مقابل الدولار، في حين يشتري المستورِدون النسبة المتبقّية، وهي 15 في المئة، من السوق السوداء بسعر الصرف الموازي (الذي يتجاوز حالياً 8000 ليرة مقابل الدولار). وقد حافظ ذلك على استمرار سلسلة التوريد بسعر مستقرّ وفقاً لهيكل التسعير القائم بالفعل، الذي حدّدته وزارة الصحّة العامّة.

يقوم المستورِدون بعد ذلك بتزويد الموزّعين الذين يخزّنون الأدوية في مستودعات ويوزّعونها على الصيدليّات تبعاً لاحتياجاتهم وطلباتهم. في أحيان كثيرة، يقوم المستورِدون أنفسُهم بالتوزيع. إلّا أنّه في الآونة الأخيرة، أشار وزير الصحّة إلى أنّ قيامَ الموزّعين والصيدليّات بتخزين الأدوية لتهريبها خارج لبنان، أو ممارَسة المحسوبيّة عند البيع للمرضى، من الأسباب التي تسبّب نقص الأدوية. وقد داهم الوزير بالتعاون مع دائرة التفتيش الصيدليّ في وزارة الصحّة المستودعات والصيدليّات للتصدّي لهذه الظاهرة، وقد ضُبطت صيدليّات وفُرِضت عليها عقوبات. إلّا أنّه من دون معالجة السبب الرئيس الذي يؤدّي إلى حدوث مثل هذه الممارَسات، المتمثّل بأنّ سعر الأدوية في لبنان ما زال منخفضاً للغاية مقارنة مع الدول المجاورة (بعد انهيار العملة اللبنانية أمام الدولار، إذ كان سعر الدواء في لبنان مرتفعاً جداً قبل الانهيار الاقتصادي بالمقارنة مع الدول المجاورة)، سيظل لبنان يعاني من محاولات تهريب الأدوية.

يُقدَّر حجم سوق الأدوية اللبنانيّ بنحو 1.98 مليار دولار أميركيّ عام 2019

بموجب القانون، لا يُسمَح للصيادلة بتوزيع الأدوية غير المدرَجة في “لائحة الأدوية المسموح بصرفها من دون وصفة طبّيّة”، التي وضعتها وزارة الصحّة العامّة من دون وصفة طبّيّة موحَّدة يحرّرها الطبيب. ولكنْ في الواقع العمليّ، يقوم الصيادلة بصرف أدوية كثيرة غير مدرَجة في “اللائحة” من دون وصفة طبّيّة، باستثناء أدوية لها قد تؤثر في الصحة العقلية. وفي هذه الحالة، يدفع المرضى ثمن هذه الأدوية من مالهم الخاصّ. أما أولئك الذين يستفيدون من صناديق الضمان ، فيُردّ إليهم جزءٌ من التكاليف من خلال “الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ” أو بعض الجهات الخارجيّة التي تتكفّل بالدفع. وبإمكان أولئك الذين يعتمدون على وزارة الصحّة العامّة (التي تُمثّل الملاذ الأخير بالنسبة إلى اللبنانيّين غير المشمولين بالتأمين الصحّيّ) الحصولُ على الأدوية المجّانيّة لعلاج المشكلات الطبّيّة المزمنة، استناداً إلى “قائمة الأدوية الأساسيّة النموذجيّة لمنظّمة الصحّة العالميّة” التي تشتريها وزارة الصحّة العامّة وتوزّعها على مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة المتعاقدة معها.

يتحتّم على أيّ حلّ يهدف إلى استمرار الحصول على الأدوية بأسعار معقولة أنْ يكفل إتاحتها لجميع الفئات السكّانيّة حتّى الذين لا تشملهم التغطية التأمينيّة، لا سِيَّما في ظلّ ارتفاع نسبة البطالة. بإمكان هذا النهج أنْ يكون مكمِّلاً للأدوية التي تؤمِّنها وزارة الصحّة العامّة لأكثر الفئات ضعفاً.

يمكن في هذا السياق اقتراح مجموعة من الإصلاحات التي تضمن توفر الأدوية باستمرار على رفوف الصيدليات والتخفيف من الضغط على احتياطيّات مصرف لبنان من النقد الأجنبيّ. تركز هذه الإصلاحات على خفض تكاليف نظام الدعم والتأكّد من توزيع الأدوية المدعومة توزيعاً عادلاً على المرضى الذين يحتاجونها. 

تعديل نظام الدعم

عندما تعاني من نقص في النقد الأجنبيّ -مثلما هو الحال في لبنان حاليّاً- يصبح من الضروريّ دعم الأشياء الأساسيّة فقطّ. لكنْ عند استعراض الدليل الوطنيّ للأدوية المسجَّلة في لبنان نلاحظ توافر أدوية لعلاج الأمراض نفسها من مصنِّعين مختلفين وبأسعار متفاوِتة. في المقابل، يدعم مصرف لبنان جميع الأدوية المستوردة بالمعدل ذاته. تتمثّل الخطوة الأولى في خفض التكاليف من خلال دعم استيراد أرخص الأدوية من دون المساس بالتأثير العلاجيّ. على سبيل المثال، هناك أكثر من 20 اسماً تجاريّاً مختلفاً لدواء “أتورفاستاتين” -أحد أدوية عائلة “الستاتينات”، الذي يستخدم للوقاية من أمراض القلب والأوعية الدمويّة- كلّها مدعومة، مع أنّ سعر علبة “أتورفاستاتين” (بتركيز 10 ملغ) التي تحتوي على 30 قرصاً يتراوح بين 8977 ليرة لبنانيّة و42470 ليرة لبنانيّة. يُساهم دعم منتجين فقط من دواء “أتورفاستاتين” -يتمّ اختيارهما بناءً على تأثيرهما العلاجيّ القويّ وسعرهما المنخفض- في تخفيف العبء عن كاهل مصرف لبنان، وضمان حصول جميع المرضى الذين وُصف لهم دواء “أتورفاستاتين” عليه، مع إرغام المستورِدين الآخرين من الشركات المصنِّعة الأخرى على خفض أسعارهم حتّى تمكنهم المنافسة في السوق الجديدة.

السبب في اقتراحنا منتجين من كلّ دواء هو أنّه ليس من الحكمة الاعتماد على مصدر توريد واحد، وهو ما علّمتنا إيّاه تجربة “كورونا”، فقد كانت جميع سلاسل توريد الأدوية الدوليّة منهَكة ومضغوطة إثر هذه الأزمة. إضافة إلى ذلك، ننصح بشدّة أنْ يكون اختيار أحد الدواءين من مصدر محلّيّ. إذ إنّ كثيراً من الأدوية التي تعالج حالات مرضيّة مختلفة تُصنَّع محلّيّاً ومتاحة بالفعل في الأسواق. سيفسح هذا المجال لحدوث تغيير استراتيجيّ مفيد للسوق على صعد عدّة وسيدعم أيضاً قطاع الصناعات الدوائيّة المحلّيّ.

سعر علبة “أتورفاستاتين” (بتركيز 10 ملغ) التي تحتوي على 30 قرصاً يتراوح بين 8977 ليرة لبنانيّة و42470 ليرة لبنانيّة.

ينبغي أنْ يخضع اختيار العلامات التجاريّة المصنِّعة للأدوية التي تستحقّ الدعم لأعلى درجات الشفافية الممكنة. وقد وضع “الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ” قائمة تضم بالفعل أسماء الأدوية المشمولة في تغطيته. ويمكن اللجوء إلى هذه القائمة لتحديد الأدوية التي ستستفيد من الدعم الموجه للاستيراد. عموماً، ينبغي أنْ تُجري وزارة الصحّة العامّة دراسة تبيِّن ما يمكن ادّخاره عند اعتماد هذه الاستراتيجيّة واستخدامها لضمان موافقة وتأييد الأطراف المعنيّة كهيئات التغطية الصحّيّة التي ستستفيد بالتبعيّة من الانخفاض الناتج عن هذه الاستراتيجيّة في الفواتير العلاجيّة.

عندما تصبح البدائل المدعومة متوافرة في السوق، سيعاد تسعير البدائل غير المدعومة وفقاً لسعر الصرف الحقيقيّ في السوق. ستتيح هذه الترتيبات للصيدليّات إمكان إعادة الرسملة، في حين سيسمح للمرضى المستعدين والقادرين على تحمّل تكلفة العلامات التجاريّة غير المدعومة من مواصلة هذا الخيار. سيسمح لنا هذا أيضاً بتقييم النسبة بين استهلاك العلامات التجاريّة غير المدعومة والمدعومة، والتخطيط لإجراء مزيد من الإصلاحات في سلسلة توريد الأدوية، وهو ما قد يؤدّي إلى تقليص نظام الدعم بالكامل خلال إطار زمنيّ معقول. 

إنفاذ قوانين الوصفات الطبّيّة (“الروشتّات”)

يقال إن أحد أسباب نقص الأدوية على رفوف الصيدليّات هو قيام المرضى وعملاء الصيدليّات بتخزين الأدوية في منازلهم. إذ يستطيع زبائن الصيدليّات شراء معظم الأدوية في لبنان من دون الحاجة إلى وصفة طبّيّة. وحتّى مع القيود المفروضة على عدد الجرعات التي تستطيع الصيدليّة أنْ تصرفها لكلّ مريض، يظلّ بإمكان المريض أنْ يشتري من موارد مختلفة إلى أنْ يصل إلى الكمّيّة الاحتياطيّة المطلوبة. وُضِعَت القوانين لإلزام الصيدليّات وموزّعي الأدوية بصرف الكمّيّات التي يحدّدها الطبيب باستخدام نموذج موحّد للوصفات الطبّيّة. وسيكون تنفيذ هذه القوانين خطوة جيّدة باتّجاه منع تكديس الأدوية في المنازل. ومع ذلك، في سياق وباء “كورونا” وعجز مرضى كثر عن تحمّل تكاليف زيارات الأطبّاء بانتظام لتجديد الوصفات الطبّيّة، فإنّ مطالبة المرضى بالتردّد على عيادات الأطبّاء ليس خياراً عمليّاً على الدوام. يتمثّل أحد البدائل في أنْ تُصدِر وزارة الصحّة العامّة قراراً وزاريّاً يسمح للأطبّاء بتقديم الوصفات الطبّيّة عبر الاتّصال الهاتفيّ بالصيدليّات التي يطلبها المرضى. ثمّ يقوم الصيادلة بتوثيق تلك الطلبات في أنظمتهم الحاليّة الخاصّة بالتوثيق، وستكون هذه خطوة جريئة من وزارة الصحّة العامّة باتّجاه اعتماد نظام لتقديم الوصفات الطبّيّة إلكترونيّاً ونظام السجلّات الطبّيّة الإلكترونيّة، في تنسيق مع نقابات الأطبّاء والصيادلة والمستشفيات.

عوائق أمام التنفيذ

كثيرة هي التحدّيات التي تقف أمام تنفيذ المقترحات المُشار إليها آنِفاً. فقد يؤدّي دعم أدوية بعينها فقط إلى قيام كثر من المستورِدين، ممّن لن تُدعَم أسماؤهم التجاريّة، إلى ترك السوق. وهذا بدوره قد يؤدّي إلى فقدان البعض وظائفهم وأعمالهم التجاريّة. بطبيعة الحال لن يُرحّب مجتمع مستورِدي الأدوية بهذه الخطوة، لكن يمكن تجاوز هذه العقبة عبر إعادة تسعير الأسماء التجاريّة الأخرى، غير المدعومة، بناءً على القيمة السوقيّة لسعر الصرف الحقيقيّ. وإمكان السماح بتصدير فائض الأدوية -غير المدعومة- من الأسواق اللبنانيّة خلال فترة شهرين من التطبيق الصحيح لتلك القوانين. 

تركز الإصلاحات على خفض تكاليف نظام الدعم والتأكّد من توزيع الأدوية المدعومة توزيعاً عادلاً على المرضى الذين يحتاجونها. 

سيتطلّب الانتقال إلى تقديم الوصفات الطبّيّة رقميّاً واستخدام السجلّات الطبّيّة الإلكترونيّة قراراتٍ وزاريّة لتنفيذ القوانين المتعلّقة باعتماد معرِّف فريد وتوقيع إلكترونيّ لكلّ مريض. ونشبَت راهناً معركة نفوذ بين نقابتَي الصيادلة والأطبّاء في لبنان، بشأن تقديم وصفات للقاحات وصرفها وتوصيلها إلى المرضى (فقد صار مسموحاً للصيدليّات إعطاء اللقاحات بعدما كان الأمر من مسؤوليّات الأطبّاء). وتمكن المراوغة في صراعٍ مماثل من خلال الحفاظ على الحافز الماليّ الذي تجنيه نقابة أطبّاء لبنان عبر النظام الورقيّ الموحّد في تقديم الوصفات الطبّيّة. فهذا الحافز الماليّ يمثّل مصدر الدخل لصندوق التقاعد، إذ توضَع على كلّ ورقة للوصفات الطبّيّة دمغة مضمَّنة بقيمة 250 ليرة لبنانيّة تُصدِرها النقابة. إضافةً إلى ذلك، اقترحَت بالفعل وزارةُ الصحّة العامّة، بالتعاون مع هيئات رعاية صحّيّة، خارطة طريق للتقدّم في نظم الصحّة الرقميّة، وينبغي أنْ يكون أيّ تنفيذ لعمليّة تقديم الوصفات الطبّيّة رقميّاً جزءاً من تلك الخارطة. وعلاوةً على ذلك، فممّا يسهِّل تنفيذ هذا الإجراء هو الخبرة التي اكتسبتها وزارة الصحّة العامّة من إعداد شبكة الموزِّعين بالتعاون مع “جمعيّة الشبّان المسيحيّة”، التي تستخدم السجلّات الطبّيّة الإلكترونيّة لتعقّب المرضى وتناوُلِهم الأدوية. وقد يكون توسيع نطاق هذه الخدمة القائمة بالفعل حلّاً سريعاً وفعّالاً.