fbpx

جمهور كرة القدم: الأمر ليس مجرد صخب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فاجأ منتخب آيسلاند أوروبا والعالم، عندما تغلب على منتخب انجلترا في بطولة أوروبا عام 2016. فرضوا هيبتهم ونالوا إعجاباً استثنائياً إلا أن أجمل ما قدموه حينها هو أسلوبهم الخاص بالتشجيع. “صرخة الفايكنغ”منحت ذاك الصيف طعماً خاصاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فاجأ منتخب آيسلاند أوروبا والعالم، عندما تغلب على منتخب انجلترا في بطولة أوروبا عام 2016 بنتيجة 2-1 جاء الآيسلانديون كغزوة مباغتة وصادمة إلى تلك البطولة. فرضوا هيبتهم بسرعة ونالوا إعجاباً استثنائياً لتفانيهم واندفاعهم الهائل وروحهم القتالية. إلا أن أجمل ما قدموه حينها والذي سيظل ساطعاً في تاريخ الفوتبول هو أسلوبهم الخاص بالتشجيع، والذي أصاب الجميع بالقشعريرة والمهابة. “صرخة الفايكنغ”، كما سميت، منحت ذاك الصيف طعماً خاصاً وبثت روحاً جديدة في المدرجات.

ليس مجرد صخب

في مونديال 1986، عندما أصبح البث التلفزيوني ميسّراً على نطاق واسع، اكتشف من يعيش خارج أميركا الشمالية، لأول مرة، “الموجة المكسيكية”، حين يتحول الجمهور كله إلى كتلة انسيابية واحدة منسجمة الإيقاع كموج البحر، الملعب كله يشتعل ويهب بصرخة (Olla) هادرة تمنح المشاركين فيها حساً فائقاً بالتضامن والاحتشاد كجسد واحد. أعطت “الموجة المكسيكية” للمشجعين قدراً كبيراً في السيطرة على إيقاع المباراة، إذ غالباً ما كان اللاعبون يستجيبون لها حماسة وتحفيزاً. فهذه الموجة الشبيهة بتدحرج أحجار الدومينو كان يصنعها الجمهور أحياناً لا تعبيراً عن فرح بل احتجاجاً وتململاً من رتابة المباراة. وبهذا المعنى أضفت تلك الموجة حيوية إضافية في العلاقة بين اللاعبين والجمهور، بقدر ما منحت الملاعب طابعاً احتفالياً.

يعكس نمط التشجيع التاريخ الفلكلوري والذاكرة الثقافية لكل بلد. ويمكن القول أن أداء النشيد الوطني قبل بداية المباراة هي السلاح المعنوي الأول الذي يستعمل. وما هو غير قابل للنسيان مثلاً لحظة التي وقف فيها المنتخب الإيطالي عام 2006 ليؤدي النشيد الوطني قبل بداية مباراته أمام فرنسا. الجميع شعر أن فريقاً بهذه الروح المتزنة والواثقة لنشيدها القومي لن يهزم أبداً. واحدة من المفاجآت التاريخية في كرة القدم حدثت عام 1966، حين تغلبت كوريا الشمالية على إيطاليا. وصف البعض حينها أن المنتخب الكوري أدى نشيده الوطني كما لو أنه يطلب النصر أو الموت.

تبقى هتافات الجمهور وانفعالاته وصرخاته هي المحرك الأقوى. الرايات الكبيرة والمفرقعات والطبول والأهازيج، صيحات الاستهجان والصفير، حرارة التصفيق أو حتى التلويح بالمناديل احتجاجاً هي الأسلحة الفتاكة التي تشد العزائم أو تحبطها. هي التي تستنفر الطاقات وتشد العصب وتدفع اللاعبين لاستنفاد الهواء من رئاتهم وإحراق عضلاتهم.

الزمور الأفريقي اللعين

كان مونديال 2010 هو الأسوأ في التشجيع على الإطلاق. ذاك الزمور المسمى “فوفوزيللا” أفسد أجواء الملاعب بضوضائه التي لا تُحتمل. صوته المزعج حتى لمشاهدي التلفزيون، دفع  العديد من اللاعبين والفرق لتقديم الشكاوى إلى اللجنة المنظمة، لعدم قدرتهم على التركيز أثناء اللعب، فضلا عن عدم تمكنهم من سماع التعليمات أو الكلام فيما بينهم، وطالبوا بحجبه. النوادي الإنكليزية أصدرت قراراً بتحريمه في ملاعبها. ويمكننا أن نحمد الرب أن “فوفوزيللا” لم يلق رواجاً في الملاعب، خارج جنوب أفريقيا.

الملايين في الساحات

من الممتع استعادة الأجواء الآسيوية في اليابان وكوريا الجنوبية عام 2002. كانت أول بطولة خارج أوروبا وأميركا، ولأول مرة تشترك دولتان معاً في تنظيمها. في هذا الحدث تجلت الثقافة الأسيوية في الانضباط والروح الجماعية، والحس الأخلاقي المهذب. وتزامن ذلك مع تطور تكنولوجيات التصوير والشاشات العملاقة، ما أتاح خلق ثقافة جديدة من التشجيع، أو ما يسمى بالتشجيع في الشوارع. كان مشهد الجمهور الذي ملأ الشوارع والساحات في منتصف الليل مبهراً لشعوب العالم. ففي مباراة الدور قبل النهائي بين المنتخبين الكوري والألماني، خرج إلى الشوارع 6،6 مليون شخص، أي ثُمن عدد سكان كوريا. والظاهرة الملفتة كانت أن الكوريين واليابانيين لم يقتصر تشجيعهم على فريقيهم الوطنيين، فهم كانوا يملأون الملاعب لتشجيع الفرق الأجنبية المفضلة لديهم. كان ذاك المونديال بالنسبة للجمهور اللآسيوي مناسبة للترحيب بالأجانب وللافتخار بأنفسهم كبلاد ناجحة. بالطبع هذا لم يمنع أن يستبسل منتخب كوريا الجنوبية ويطيح بإيطاليا بهدف “ذهبي” خالد.

الحرارة البرازيلية

لا يتصدر فريق بروسيا دورتموند الألماني لائحة أفضل الفرق، مع ذلك فإن مشجعيه هم الأكثر حضوراً واحتشاداً في الملاعب مقارنة بكل أندية العالم. روح الإخلاص هي ميزة الجمهور الألماني. لا يكل عن ترداد أغنية “سوبر دويتشلاند”. التاريخ الكروي لـ”المانشافت” سبب إضافي لثقة الألمان وإيمانهم بمنتخبهم. وعندما استضافت ألمانيا كأس العالم عام 2006، سيُسجل أعلى معدل للحضور الجماهيري في الملاعب الجديدة التي كانت مفخرة الإنجاز الهندسي والتنظيمي والتكنولوجي.

تزامن هذا المونديال مع انتشار ظاهرة روابط المشجعين المتعصبين، الألتراس. مجموعات شديدة التطرف في التشجيع، ينتسب الشبان إليها بنظام العضوية، بولاء والتزام دائم. هم أكثر المشجعين استخداماً للمفرقعات، ويصنعون يافطات عملاقة ليفردوها في المدرجات، إضافة إلى صناعة الملبوسات والقبعات والرايات الخاصة. يؤلفون الأناشيد الصاخبة. هم السبب في ارتفاع أعداد الشرطة في الملاعب خوفاً من ميولهم للشغب. ومن عادتهم أنهم لا يجلسون إطلاقاً طوال المباراة. هتافاتهم تظل تهدر حتى بعد انتهاء المباراة. وبما أنهم مشجعو أندية على الأغلب لا المنتخبات القومية، فهم لم يطغوا على مونديال 2006، إلا أن المشجعين التقليديين والجماهير الوطنية اقتبست من ثقافة “الألتراس” بعض أساليب التشجيع داخل الملاعب وفي الشوارع والساحات العامة.

كرة القدم شبه ديانة في البرازيل. هي أسلوب حياة وهوية وثقافة. تنصهر فيها كل تجليات الروح البرازيلية: الموسيقى والرقص والإيقاع وكرنفال الأجساد وشهوانيتها وحرارة الغرائز، والاحتفال الدائم بالحواس والعواطف المفرطة. كرة القدم البرازيلية وأسلوبها التي يتجاوز الرياضة إلى السحر والشعوذة، هي معبر الفقراء إلى الثراء ولتحقيق الأحلام، كما هي الممارسة التي تمحو الحدود بين السود والبيض والخلاسيين. فهي كانت جزءاً أساسياً من تكوين الهوية الوطنية وتزامن انتشارها مع الصحوة القومية لتحقيق الاستقلال. من تراث الثائرين ضد الاستعمار والعبودية ابتكارهم لاسلوب قتالي يدعى بحركة “الجينجا” أو فن “الكابويرا”، يجمع بين الرقص والقتال، للتمويه وكي لا يتفطن الأسياد إلى أنه تدريب قتالي. هذا الفن سيكون مصدر إلهام الأسلوب الفريد لكرة القدم البرازيلية، الذي رآه العالم مدهوشاً بمونديال 1958 مع بيليه وغارينشا.

البعد الروحي لهذه اللعبة عند البرازيليين هو السبب الأول في انتصاراتهم القياسية (خمس مرات أبطال العالم). وهو الذي يجعل الجمهور البرازيلي الأكثر عاطفة وانفعالاً وشغفاً واحتفالية. تشجيعه عبارة عن كرنفال. مزاج السامبا يقصي أي علامة عنف. وحيث يوجد جمهور برازيلي تأتي متعة التفرج على المدرجات بقدر متعة التفرج على فنون ومهارات اللاعبين. ملاعب البرازيل في مونديال 2014، كانت فرصة جديدة لمشاهدة هذا النوع المبهج من التشجيع. القوة العاطفية للتشجيع البرازيلي تتفوق على أي جمهور آخر. ما من شعب غمره الحزن والفجيعة مثل البرازيليين في ذاك العام، بعد الهزيمة الصاعقة أمام ألمانيا.

الخوف في روسيا

روسيا في المرتبة العالمية الأولى في عدد تجمعات “الهوليغنز”، المشجعون المشاغبون. هؤلاء هم كابوس كرة القدم وجمهورها بقدر ما هم كابوس السلطات الأمنية. في أثناء بطولة أوروبا بفرنسا قبل عامين نشبت معركة كبرى عمت شوارع مارسيليا بين الهوليغنز الروس والهوليغنز الإنجليز. العداوة بينهما تفوق الوصف. وثمة تقارير عن تحضيرات تجريها المجموعتان للمواجهة على الأرض الروسية. فلاديمير بوتين أقر قانوناً قبل انطلاقة المونديال يخول السلطات منع أي مشاغب أجنبي من دخول البلاد، وتوقيف أي مشجع محلي يحاول الشغب وحبسه 15 يوماً، ومنعه من حضور أي مناسب رياضية لسبع سنوات، مع فرض غرامات مالية باهظة.

في إحدى المقابلات مع وكالة الصحافة الفرنسية يقول مشجع روسي من روابط “الهوليغنز”: “هناك اختلاف بين مثيري الشغب الروس ومشجعي الإنكليز، هم كبار في السن يشربون كميات كبيرة من البيرة، بينما يتراوح عمر مثير الشغب الروسي بين 20-30، ومعظمهم يقوم بالرياضة، مثل الملاكمة وبعض أنواع الفنون القتالية الأخرى، وهدف بعضهم القدوم إلى مثل هذه المسابقات فقط لإثبات أن المشجعين الإنكليز ليسوا مثيري شغب، ولا يعرفون كيفية القتال.. إنهم نساء. الإنكليز يستخدمون الكراسي والزجاجات المكسورة للقتال، لكن الطريقة الروسية مختلفة، لا نستعمل سوى قبضاتنا، استخدام الأسلحة يسبب الكثير من الإصابات التي لا داعي لها، بالنسبة لنا هذا الأمر مثل الرياضة، ليس لدينا رغبة في القتل أو الجرح، هناك رغبة لإظهار قوتنا”.

قبل عام، نشرت صحيفة “ميرور” تقريراً ذكرت فيه أن الهوليغنز الروس بعثوا برسالة إلى نظرائهم الإنكليز جاء فيها: “إذا كنتم تعتقدون أن واقعة فرنسا كانت سيئة، انتظروا حتى كأس العالم في العام المقبل”. وحتى الآن تقلل السلطات الروسية من مخاوف اندلاع الشغب، وتؤكد أن الجمهور سيتمتع بأجواء آمنة. ففي نهاية المطاف، يبقى معيار نجاح روسيا في تنظيم مونديالها، هو طمأنينة الجمهور ورحابة البلاد باستقبالهم.  

ولأنها ليست رياضة فقط، ولأنها علاقة حب أولاً، كرة القدم بلا جمهور هي الرقص بلا موسيقى. كرة القدم بلا تشجيع هي جنازة رجل مجهول.