fbpx

وصف الجمهوريات التي كانت تُعرف بالجمهورية اللبنانية (6): البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا وحرب الروبوتات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

طرح العضو الأرثوذكسي في المجلس، إيلي الفرزلي، وهو ابن حفيد لسياسيٍ كان يحمل الاسم نفسه في جمهورية لبنان السابقة، اقتراحاً غريباً على مجلس أعيان طائفته، وهو أن تستورد طائفة الروم الأرثوذكس من روسيا آلةً لتفقيس أولاد…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
  • ينشر موقع “درج” على حلقات كتاباً صدر هذا العام (2050) في نيويورك لكاتبه مارك دبوسي، وهو صحفي أميركي من أصل لبناني عاش في بيروت قرابة عشر سنوات. الكتاب، كما يقول عنوانه، يصف واقع الجمهوريات التي انقسم إليها ما كان يُعرف حتى العام 2040 بدولة لبنان. الحلقات الخمس السابقة تناولت جمهوريات جبل لبنان وطرابلس والبقاع والجنوب ومشروع الوحدة بين صيدا وجزين. هنا الحلقة السادسة عن إمارة البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا وحروب الروبوتات الدائرة فيها:

كان مما توصل إليه اتفاق الفجيرة قبل عشر سنوات (2040) إنشاء إمارة تضم ما كان يُعرف، في عهد لبنان الموحد القديم، بأقضية البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا. الاسم هذا، فضلاً عن طوله، غريب من دون شك: “إمارة البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا”. لكن غرابته ربما كانت بسيطة متى قيست بغرابات أخرى. فهي ربما كانت أول إمارة في التاريخ من دون أمير ومن دون عائلة ملكية تنجب الأمراء. إلا أن الصيغة هذه كما استقرت عليها الأمور، بعدما فرضها التعدد الطائفي الهائل في تلك البقعة الجغرافية، تقضي بأن يتشكل “مجلس إمارة” تتمثل فيه الطوائف: للطائفة السنية أربعة ممثلين ولكل من الطائفتين الشيعية والدرزية ممثلان ولكل من الطائفتين المارونية والأرثوذكسية ممثل واحد. هكذا نكون أمام مجلس من عشرة أعضاء يتوزّعون المهام الأساسية في الإمارة الجديدة. 

لكن المدهش أن القرار الأول الذي أصدره مجلس الإمارة هذا قضى بمنع المواطنين جميعاً من السفر إلى الخارج، كي لا يختل التوازن الطائفي الحساس الذي تقوم عليه الإمارة. ذاك أن اختلالاً كهذا يجعل تغيير تركيب المجلس أمراً لا بد منه. أما الأدعى للدهشة، وللسبب نفسه، فكان القرار الثاني الذي يمنع جميع العائلات من سكان الإمارة من إنجاب عدد من الأولاد يتجاوز الإثنين للعائلة الواحدة. ويبدو أن فيصل الداوود، أحد العضوين الدرزيين الإثنين في المجلس، لا يزال معارضاً لهذا القرار، مطالباً بأن تُستثنى منه العائلات الدرزية بسبب الحجم الصغير أصلاً للطائفة. والداوود، كما يعرف أهل المنطقة، ينتسب إلى عائلة من وجهاء الدروز وزعمائها هناك، ممن ترجع زعامتهم عشرات السنين إلى الوراء. 

على أي حال فقد تحول هذا الموضوع إلى محور الحياة السياسية والسجالات الفكرية والإعلامية في جب جنين، عاصمة الإمارة الجديدة. 

هكذا طرح العضو الأرثوذكسي في المجلس، إيلي الفرزلي، وهو ابن حفيد لسياسيٍ كان يحمل الاسم نفسه في جمهورية لبنان السابقة، اقتراحاً غريباً على مجلس أعيان طائفته، وهو أن تستورد طائفة الروم الأرثوذكس من روسيا آلةً لتفقيس أولاد أرثوذكس يفتحون أعينهم على الدنيا وهم يصلّبون بالثلاثة. وقد نقل عن الفرزلي أنه قال في أوساطه إن التكنولوجيا الروسية صارت تنتج آلات كهذه وتنتج معها آلات موازية لتربيتهم تربية أرثوذكسية قويمة. هكذا يمكن أن يتكاثر أبناء تلك الطائفة الذين لم ينجبهم أهلٌ بعينهم، وهو ما يجعلهم معفيين من القرار الذي ينحصر في الحد من الإنجاب البشري.  

بنتيجة تسرّب الخبر هذا انفجر جو متشنج لدى الطوائف الأخرى في الإمارة، خصوصاً وأن كنائس الأرثوذكس لم تتوقف منذ ذلك الحين عن قرع أجراسها احتفالاً وابتهاجاً. وهذا الجو هو ما عبر عنه خصوصاً جمال الجراح، أحد الأعضاء السنّة في المجلس، وهو الآخر حفيد لسياسي حمل الاسم نفسه قبل عشرات السنين. فقد صرح الجراح، الذي بدا غاضباً جداً في مؤتمره الصحفي، بأن لدى الطائفة السنية حلها الخاص لمشكلة التوازنات العددية وقوامه استيراد البشر. فما دام أن الهجرة ممنوعة عن سكان الإمارة فيما استقبال الزوار والسياح مسموح به، بات من الممكن دعوة “إخوتنا من أهل السنة والجماعة في مصر وباكستان وإندونيسيا وسواها من البلدان إلى التدفق على الإمارة والسكن فيها، وهذا ما يضمن تفوقنا العددي الذي لا تزحزحه الآلات أكانت روسية أو غير روسية”. ويبدو أن الجراح، الذي يُلقب بـ “الثري الذي لا يعرف أحد كيف أثرى”، تعهد بتمويل عمليات الانتقال من تلك البلدان من ماله الخاص.

وكان من الطبيعي في وضع كهذا أن ترتفع باقي أصوات ممثلي الطوائف احتجاجاً. هكذا هدد العضو الشيعي في المجلس حسان وهبة شمس الدين بـ “النضال لضم الإمارة إلى جمهورية البقاع الإسلامية شمالاً”، وهي ذات أكثرية شيعية كاسحة كما هو معروف. وهو لم يتردد في وصف الإمارة نفسها بأنها صنيعة “مشاريع التجزئة الاستعمارية التي انطلقت من الفجيرة”، ما أثار استغراباً واسعاً لأنّ شمس الدين ذاته هو أحد أعضاء مجلس الإمارة الحاكم، فضلاً عن أن اتهام إمارة الفجيرة بالاستعمار بدا لكثيرين مبالغة يصعب هضمها.

بيد أن رد فيصل الداوود على الاقتراح الأرثوذكسي كان لا يقل تطرفاً من رد زميله الشيعي، وإن في اتجاه مختلف. فقد عقد مؤتمراً صحفياً وكان محاطاً بعشرات المسلحين الذين لبسوا ثيابهم التقليدية التي لبسها أجداد الأجداد، وكانوا يحملون بنادق قديمة قالوا إنهم ورثوها أيضاً عن أجداد أجدادهم في حرب 1860 الطائفية، أي قبل قرابة قرنين. أما اقتراحه فقضى بإعلان مملكة درزية في خلوات البياضة، قريباً من حاصبيا، بسبب الموقع الديني الموقر الذي تحظى به الخلوات عند رجال الدين الدروز، على أن يدين بالخضوع لتلك المملكة “جميعُ إخواننا الدروز في جمهوريات سوريا وفي إسرائيل ودولة جبل لبنان المسيحية”. لكن ما سرق الضوء من المؤتمر الصحفي واقتراحاته كان ما حصل لأستاذ جامعي يدرّس العلوم السياسية في جامعة راشيا. فهذا الأستاذ الذي حضر مؤتمر الداوود طرح عليه أسئلة في غاية المنطقيّة، فقال: “كيف يمكن للمملكة الدرزية أن تنشأ ضمن إمارة، ومن سيكون الملك، وكيف يمكن لسكّان دروز ينتمون إلى دول أخرى أن ينتموا أيضاً إلى هذه المملكة، وأخيراً كيف تتعاملون مع “جبهة الموحدين الثورية” في الشوف التي تعلن الثورة على جمهورية الجبل المسيحية لإقامة دولة درزية أخرى؟”. وبعد لحظة صمت، أضاف الأستاذ بسخرية واضحة لم يحتملها المناخ الجدي للمؤتمر الصحفي: “يبدو لي أن مشروعكم هذا هزيل ومضحك ويصعب حمله على محمل الجد”. لكن ما إن صمت الأستاذ وعاود الجلوس على كرسيه حتى عاجلته رصاصة استقرت في هاتفه المحمول.

تلك الحادثة المهينة وتّرت الوضع كثيراً في الإمارة، خصوصاً بعدما أعلن الداوود أن من أطلق الرصاصة على الأستاذ الدرزي شاب أرثوذكسي على صلة بالفرزلي، وحينما سئل عن براهين تدعم اتهاماته اكتفى بالقول: “إسألوا الآلات الروسية العجيبة التي يملكونها”. 

والوضع اليوم بالغ التشنج فعلاً، خصوصاً وأن ميليشيات الطوائف تفتش المارّة وتعتقلهم تبعاً لهوياتهم الطائفية. ويبدو، بحسب معلومات استطعت الحصول عليها من رجل دين أرثوذكسي مستنير، أن الفرزلي يعمل على خطوط ثلاثة دفعة واحدة: من جهة، الحصول على إمدادات عسكرية من جمهورية حمص بحجة أن أرثوذكس الإمارة يعودون إلى أصول عربية في حمص، وكذلك الحصول على إمدادات مشابهة من جزيرة قبرص بحجة “خطر تعرض الأرثوذكس للإبادة على يد عرب مسلمين قدموا من حمص”. أما الخط الثاني فهو البرهنة على أن الدرزية والأرثوذكسية إنما هما تسميتان لدين واحد، وهو لهذا الغرض كلّف عدداً من الأكاديميين والمؤرخين الأرثوذكس ببرهنة هذه النقطة التي تنافي كل المعارف التاريخية. والفرزلي، كما وصفه رجل الدين الذي تحدثت إليه، “يتمتع بقدرات كلامية هائلة تجعله يبرهن، ساعة يشاء، أن الأسود أبيض والأبيض أسود”. أما الخط الثالث الذي يعمل عليه، وهو الأشد إثارة للاهتمام، فقوامه شراء روبوتات صنعت في الولايات المتحدة، تستطيع أن تخطط للمعارك ثم تخوضها بكفاءة قتالية لا تتمتع الجيوش الكلاسيكية بمثلها.

ويبدو أن شيوع خبر الروبوتات خلق مناخاً غير مألوف في الإمارة، بحيث راحت كل واحدة من الطوائف تحجز حصتها من الروبوتات هذه من مصنع “روبوتس أدفانسد تكنولوجي” في شيكاغو بالولايات المتحدة. وبدورها استجابت الشركة التابعة للمصنع والتي تعرف بالتأكيد أن السفر إلى الخارج ممنوع على سكان الإمارة. هكذا أقامت مكتباً تمثيلياً في جب جنين عرضت فيه بعض منتجاتها الأحدث عهداً.

واليوم، في ساحات القرى والبلدات، نستطيع أن نسمع من يقول متباهياً إنه سيكلف الروبوتات بقصف حاصبيا، ومن يريد منها أن تقصف راشيا أو جب جنين أو الفرزل. وقد علمت أن عائلات من كلّ الطوائف أطلقت على مواليدها الذكور الجدد اسم روبوت، وعلى مواليدها الإناث اسم روبوتة. أما التجار ورجال الأعمال فبدأوا يعلنون عن حفلات للملاكمة والمصارعة بين روبوتين من طائفتين مختلفتين، كما بدأت تُعلّق على جدران الإمارة ملصقات عن هذه الحفلات مذيّلة بعبارة: “يرجى من الحضور الكريم أن يأتي ويترك السلاح في المنازل”.

وقد أتيح لي أن أرى روبوتات معروضة تحمل أسماء كلٍ من مار نقولا ومريم العذراء وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب والموحدون وسواها. كذلك صُنّفت الروبوتات المعروضة إلى فئات: فهناك تلك التي تقتل للفور، وتلك التي تقتل على مدى أطول، وتلك التي تهدم أو تحرق، وتلك التي تدمر مراكز العبادات الدينية، أما الأغلى ثمناً بينها فهي التي تقوم بتلك الوظائف كلها بمجرد كبسة زر واحدة. لكن هناك روبوتات تقوم، على عكس ذلك، بـ “ممارسة السياسة العاقلة نيابة عن السكان”. وقد علمت أن الطلب على هذا الصنف الأخير قليل جداً، يكاد يقتصر على أفراد “الحزب الليبرالي الديمقراطي”. ذاك أن المبدأ الذي يدين به هذا الحزب الصغير إنما العابر للطوائف واليائس من مكافحة الطائفية، يختصره شعاره المركزي: “دع الروبوتات تحكمنا لأننا لا نجيد حكم أنفسنا”.  

وفي مطلق الحالات فإن الجميع ينتظرون الشرارة التي ما إن تندلع بين طائفتين حتى ينشب لهيب لن يتمكن أحد من إطفائه. ولهذا استقبل مجلس الإمارة في الآونة الأخيرة وفوداً رسمية من إسرائيل وجمهوريات جبل عامل وجبل لبنان والبقاع وسواها على الأرجح، إلا أن كل محاولاتهم لترطيب العلاقة باءت بالفشل على ما يبدو. وذات مرة بلغ الأمر حداً فضائحياً، إذ في حضور أحد الوفود الأجنبية بدأ أفراد المجلس يتبادلون الضرب بالقبضات والتهديد بروبوتات الطائفة (كذلك تردد أن أحد الأعضاء بال على زميله في المجلس).

وهذا، على العموم، يجعل التدخل الخارجي، ولو بالقوة، ضرورة ملحة لسكان الإمارة ولاستقرار تلك المنطقة الساحرة الجمال التي لا تستحق عذاباً كهذا.