fbpx

في بيتٍ آيل للسقوط: حيث تتقاطع خيوط التاريخ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم أصعد للطابق الأعلى، حيث كنا نجتمع في الأعياد، وكنا نسهر في الشرفة الكبيرة. السلم المتهالك أخافني، هممت بالخروج لكن لوهلة حدثتني نفسي بالبقاء. ما الضير من الاتحاد بهذا البناء المتهالك، من السقوط معه؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسللت إلى بيتي كما لو كنت لصاً. تطلب الأمرُ شجاعةً لم أدرِ أنني أملكها إذ تسلقت إلى الشرفة على خشبة. أول ما أهمني ما إن دخلت كان الخروج! 

البيت آل للسقوط، لا بد من إخلائه، لهذا جئت إليه. السُلم تكسرت أجزاء منه، تطوع أحد أقاربي الشباب للوصول إلى الطابق الأول قفزاً عبر الدَرَج المتهالك ليفتح لي مدخلاً.  كانت هذه أول مرة أعود إلى القرية منذ سبعة أعوام. كثرة المشاغل، وفرط المشاكل ها هنا، وطول الطريق وصعوبته، وعجزي عن السفر المتكرر كما كنت أفعل سابقاً كلها دفعتني بعيداً عن هذا البيت الذي لم أتصور يوماً أن انقطع عنه. 

شاخ البيت في شبابه، المبنى يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، أذكر جيداً أنني رأيت صبّ أعمدته طفلاً. لم يكن الزمن ما أتى عليه، بل المياه التي تمور بها أرض القرية. الجزءُ هذا منها، حيث بيتنا المتهالك، أكثر انخفاضاً من الترعة الكبيرة التي يطل عليها، ترى آثار الرطوبة في الجدران هنا دوماً. دخلت قافزاً إلى غرفة الجلوس. جُمعت أغراضٌ كثيرة على الأرض، تناثرت أشياءٌ أخرى هنا وهناك. أرى مائدة الطعام الخشبية الكبيرة التي كنت أطمع فيها لنفسي مكتباً، لكن سبقتني إليها “سوسة الخشب”، أحد سيقانها الأربعة اختفى، ارى مكانها كومةٌ من ترابٍ بُني ناعم. ما تبقى من المنضدة الكبيرة ولوحها الضخم، الذي يبدو كأنه قطعةٌ واحدة من سنديانة كبيرة، مائلٌ على الأرض كصريعٍ رأى الموت بعينه ولم يستطع منه فكاكاً. أرى حديد السقف صدئاً وقد سقط ما تحته. أحد الجدران بدا لي منحنياً كأنما يطلب النزول إلى راحته الأبدية. 

كفر الدوار، هي أول مكان كشرت فيه مجموعة ضباط الجيش الحاكم عن أنيابها. بعد بضعة أسابيع فقط من الإطاحة بالملك فاروق، وتولي “الحركة المباركة” كما كانت تسمى أولاً، زمام السلطة، في صيف 1952، اُتهم مراهقان لم يتما العشرين عاماً: محمد مصطفى خميس و محمد عبد الرحمن البقري بتزعم إضراب وأعمال شغب

تجنبا لألم ركبتي اليسرى التي تُوجعني إن ثنيتها طويلاً، جلست على الأرض الباردة ماداً ساقي. وقفت أمامي مستندةً على الحائط الأريكةٌ البنية المصنوعة من الاسفنج المضغوط، والتي قضيت عليها شهوراً من مراهقتي. كنت آتي هنا كل صيف بكتبي. على الأريكة هذه كان مما قرأت جمهورية أفلاطون، مقدمة ابن خلدون، الأخوة كرمازوف، الكثير لـ”فردريك نيتشة”، تاريخ الفلسفة لـ”ويل ديورانت”، الأمير لـ”ماكيافيللي”، قصص تشيخوف القصيرة، الكثير من كتب عباس محمود العقاد وغيره عن الفلسفة، كتب عن ابن رشد وابن سينا وغيرهم من فلاسفة المسلمين، كوني فهمت ما قرأت أم لا سؤالٌ آخر فرضته إعادة قراءة بعض هذه النصوص فيما بعد. أذكر جيداً ان هذه “الكنبة” (كما تسمى بالعامية المصرية) المريحة أتت مع أخرى من مصنعٍ بمدينة بورسعيد لم يستمر بالعمل طويلاً، كانتا بالطابق الأعلى حيث كانت تجتمع العائلة في الأعياد. 

قِدامي، بجوار النافذة، الكرسي الكبير الذي كان يجلس عليه جدي لأبي، الشيخ والأستاذ الجامعي الأزهري الذي غادرنا مطلع الألفية. أراه منكباً على نصٍ يراجعه. كان بعض طلبته يزورونه هنا في الصيف، أحدهم أهداه صورةً ما زالت معلقةً على الحائط، يظهر فيها جالساً على سجادة الصلاة على نفس هذه الأرضية التي مددت فوقها ساقي ببلاطاتها المطبوعة بمربعات صفراء وحمراء والتي تبدو كدرجات هرمٍ صاعدٌ أبدياً، تحت الصورة كلمات شكر وعرفان لـ”شيخي وأستاذي”. ملتقط الصورة ابن مدينةٍ قريبة اذكره بوضوحٍ كما أذكر زياراته، هنا وفي بيت جدي في القاهرة، كان أحد أقرب تلامذته له، وكان هو من رافقه إلى مثواه الأخير، إذ أشرف على دفنه، ووقف معنا يتلقى العزاء في أستاذه.  

على طاولةٍ صغيرة مُركبٌ عليها مرآةٌ مكسورة (لا أذكر رؤيتها سليمة) مُنبه أزرق. عقرب الدقائق ساقط خلف الزجاج المستدير الذي تثبته حلقةٌ فضية. فوق العقرب “المنطرح أرضاً”، على الخلفية الزرقاء، مكتوبٌ بالإنجليزية بحروفٍ بيضاء: “صنع في اسكتلندا”. أذكر المنبه هذا من طفولتي، أسمع صوته بالنظر اليه (“تك … تك … تك!). استمر يعمل لسنواتٍ بعد سقوط عقرب الدقائق، هو وجرسه الذي كنت أقول مازحاً أنه يوقظ الموتى، ناهيك عن النيام.  مددت يدي محاولاً ملئه فلم أستطع، أكل قلبه الصدئ، أتى الموت لمن قلت أنه يوقظ الموتى.

أُعدم المراهقان اللذان لم يتما العشرين   يوم 7 أيلول/سبتمبر 1952 في ، الأسكندرية، بعد مرور أقل من سبعة “أسابيع على نجاح “الحركة المباركة

 المنبه هذا يعود إلى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، أتى به والدي من بلاد صناعته حيث ذهب لنيل درجة الدكتوراه. اسكتلندا اليوم، كما هو معروف، جزء من المملكة المتحدة (بريطانيا)، لكنها كانت مملكةً منفصلةً حتى مطلع القرن السابع عشر حين ورث عرش إنجلترا أيضاً ملكها (أي اسكتلندا) جيمس الأول من بيت ستيوارت فاتحد تاج المملكتين، علماً أن الوحدة الكاملة لم تحدث إلا مطلع القرن الثامن عشر. لكن بقيت رغبةٌ اسكتلندية، تخفت حيناً وتظهر أحياناً، في الانفصال عن الجارة الجنوبية الأكبر، وصولاً إلى صعود الحزب القومي الاسكتلندي الذي يدير الشئون المحلية  لهذا البلد الآن ويطالب بعودة استقلاله. مع ذلك لا أظن أنني رأيت الكثير الذي طُبعت عليه هذه العبارة: “صنع في اسكتلندا”. ربما كان لون المنبه الأزرق علامة قومية هو الآخر. علم اسكتلندا أزرق اللون مطبوعٌ عليه بالأبيض صليب القديس اندرو (أندراوس) الذي يشبه الحرف x لكن بالعرض (والمدمج مع العلم الإنجليزي بصليبه الأحمر وخلفيته البيضاء في العلم البريطاني الذي نعرف). روح المنبه التي أتت عليها رطوبة هذه القرية المصرية سُبكت من الصلب الاسكتلندي الذي كان يوماً ما الأشهر في العالم.

اشتراه والدي وقت دراسته في غلاسغو، مدينة اسكتلندا الأكبر التي كانت أحد أهم مراكز الثورة الصناعية قبل أكثر من قرنين، والتي سُميت يوماً “ورشة الإمبراطورية البريطانية”، هنا كانت أهم مصانع الصلب وأهم أحواض السفن التي غذت الإمبراطورية في أوج مجدها، حين سادت ربع الكرة الأرضية. لكن حين غربت شمس الإمبراطورية التي كانت “لا تغرب عنها الشمس” وظهرت منافسة قوية للصلب الاسكتلندي، اضمحلت هذه الصناعة، و معها أحواض السفن التي بنت بوارج البحرية البريطانية التي كانت أسطورية يوماً ما.

ما كان فخر اسكتلندا أصبح عبئاً اقتصادياً ثقيلاً حتى وجهت له رئيسة الوزراء المحافظة مارجريت ثاتشر ضرباتٍ أتت عليه تماماً في ثمانينات القرن الماضي كجزء من سياساتها النيو-ليبرالية التي فككت الكثير من الصناعات البريطانية الثقيلة التي كانت جدواها الاقتصادية محل شك. موت الصناعات الأسكتلندية الثقيلة، وفقدان آلاف الوظائف الذي اقتضاه، ترك مرارةً شديدة في بلد لم ينسَ أبداً هويته المستقلة، مما صعّد نجم القومية الاسكتلندية وشدد العداء لحزب المحافظين (حزب ثاتشر). صُنع المنبه وبعض صناعة الصلب الاسكتلندية حية، مات بعدها، لكنه يحكي تاريخاً أطول بكثير، إن لم يؤشر للمستقبل.

إقرأوا أيضاً:

بجوار مقعد جدي، خلف المنضدة الصغيرة ذات المرآة المكسورة، أريكة ٌعتيقة،  على قماشها الأخضر وسادتان سود مطرزتان بخيوطٍ ذهبية وأخرى ملونة مكتوبٌ عليهما بالإنجليزية: “تذكار بني غازي”، ومطرز عليهما أيضاً مشاهد من المدينة. الوسادتان بعض مما اتي مع جدي الراحل وقت عمله أستاذاً بجامعة هذه المدينة لبضعة سنوات ابتداءً من أواخر ستينيات القرن الماضي. لم يترك جدي مصر والأزهر وقريته التي كان لا يدع فرصةً لزيارتها إلا ليوفر المال  لدراسة ابنه الوحيد في بريطانيا. وكأنما أتت الوسادتان ليحُضرا المنبه. أذكر قصصاً عن سنواته في ليبيا، عن الجامعة هناك، والكتاب ذو الجلد الأسود الذي ألفه لطلبته وطبعته الجامعة، وانطباعه السلبي عن العقيد القذافي الذي حضر بدايات حكمه. 

قريب مني حيث جلست جُمعت أطباقٌ وأدوات طبخ. أرى السكاكين الكبيرة والساطور، هذه كانت عُدة عيد الأضحى. بعد الصلاة في الصباح الباكر وتكبيراتها الكثيرة السعيدة، نعود للبيت، يُسحب الخروف المسكين إلى السطح ويأتي الأعمام، المتنقلون عصبةً واحدة من منزل لآخر، لتولي أمر الأضحية. كنت طفلاً ومراهقاً أشارك في كل مراحل هذا الأمر ( آخر مرة حضرت الذبح كاد أن يغشى علي).  ثم أبدأ في نقل أجزاء الضحية التي أصبحت جاهزةً للطهي إلى المطبخ حيث تنتظر والدتي لبدء يومٍ شاقٍ من العمل، تفوح مع كل ساعة منه رائحة المزيد مما تعد، قبل أن نجتمع حول مائدة عامرة. لم يبق من اجتماعنا إلا ما نذكر وها هو محل الذكرى يهرول إلى الفَناء. 

جمال عبدالناصر

بين أدوات المطبخ أطباقٌ من خزفٍ مطبوعٌ على ظهرها بالإنجليزية بلد صناعتها، بعضها من دولٍ لم تعد موجودة: “اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية” (الاتحاد السوفيتي) و”جمهورية تشيكسلوفاكيا”. أتصور أن هذه أتت مصر ستينيات القرن الماضي، زمن الاقتراب من “الكتلة الشرقية”. تتفاوت جودة الأطباق، ما أتانا من الاتحاد السوفيتي نفسه بهتت ألوانه تماماً تقريباً، اما التشيكيسلوفاكي فقشيب لامع، رسومه ظاهرة، كيوم شرائه. بغض النظر عن أن هوية هذه الأطباق الآتية من قلب الاشتراكية كتبت بالإنجليزية، في اعترافٍ ضمني بتفوق “العدو الامبريالي”، بريطانياً كان ام أمريكياً،  الاشتراكية ليست غريبةً عن هذا المكان. أنا هنا على أطراف مدينة كفر الدوار، حيث عمل حتى عهدٍ قريب عشرات الآلاف، بما في ذلك العشرات من أقاربي أهل هذه القرية، بمصانع الغزل والنسيج التي أممتها، ثم وسّعتها، سلطة يوليو 1952 في ستينيات القرن الماضي. المصانع هذه كانت مصدر رزقهم الرئيس إن لم يكن شبه الوحيد حتى عهدٍ قريب. الأرض الزراعية الموجودة لم تعد كافية منذ زمن. أذكر انني سمعت طفلاً ومراهقاً أقارب كثر يتحدثون عن خسارات هذه المصانع المتكررة سنوياً وديونها المتراكمة، التي لم تمنعها من مواصلة دفع رواتبهم. رأسمالية الدولة التي بناها جمال عبد الناصر لم تكن قابلة للاستمرار اقتصادياً، لكن فشلها ليس ذنب من حُمِلَ الثمن الأفدح. مثلما طالت النيو-ليبرالية الاقتصادَ البريطاني مع السيدة ثاتشر، ابنة البقال التي صعدت لقمة السلطة، أتت هنا أيضاً، لكن مع السيد جمال مبارك الذي بدا لبضع سنوات في سبيله لوراثة كرسي أبيه (الجمهوري). الآلاف هنا دُفعوا لترك وظائفهم لقاء تعويضات مالية زهيدة، فرص العمل التي كانت يوماً متاحةً بوفرة لم تعد كذلك، ولم تعرف المدينة إلى اليوم بديلاً يعادل، أو حتى يقارب، ما خسرت. 

في العام 1995 كانت قريتنا هذه موضوع رسالة ماجستير قدمتها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. نظرياً، أجريت هنا بحثي الميداني، فعلياً لم يكن من كثير داعٍ لذلك، فَجُل ما احتجت لمعرفته كان يدور النقاش عنه في هذا البيت، حيث أجلس الآن، لسنوات سبقت مشروعي البحثي هذا. موضوع الرسالة كان التركيب الطبقي، من جملة ما أعدت ترتيبه وتحليله في ذهني العلاقة بسلطة يوليو 1952 وتباين ردود الأفعال لها في صيغة تكاد تكون متوقعة. عبر سنوات لاحظت كيف يصمت الأقرباء من العمال عند الهجوم على عبد الناصر، المهاجم عادةً من العائلة أو ممن تربطه بها صلة قرابة أو نسب، لكن ليس منهم، بل ابن حياة أخرى مثلي. لكن التأييد، الصامت هنا عادة، لعبد الناصر اقترن بصراع متكرر مع سلطوية سلطة يوليو 1952، صراعٌ ربما لم تكن كل تفاصيله حاضرةٌ دوماً.

كيف نشرت الصحف خبر اعدام متهمي كفر الدوار

هذه المدينة، كفر الدوار، هي أول مكان كشرت فيه مجموعة ضباط الجيش الحاكم عن أنيابها. بعد بضعة أسابيع فقط من الإطاحة بالملك فاروق، وتولي “الحركة المباركة” كما كانت تسمى أولاً، زمام السلطة، في صيف 1952، اُتهم مراهقان لم يتما العشرين عاماً: محمد مصطفى خميس و محمد عبد الرحمن البقري بتزعم إضراب وأعمال شغب سقط فيها أكثر من قتيل يوم 12 أغسطس 1952. تفاصيل الوقائع غير واضحة، لكن كرد فعلٍ على ما جرى، سيق العشرات، بما في ذلك أطفال، إلى محكمة عسكرية، قضت في النهاية بإعدام خميس والبقري بعد محاكمة أقل ما يقال فيها أنها هزلية. تتضارب الروايات فيمن أيد وعارض إعدام المُراهِقين داخل مجلس قيادة “الحركة” من “الضباط الأحرار”، رئيس “الحركة” وقتها، اللواء محمد نجيب هو من صدق على حكم الإعدام، والوحيد الذي تجمع الروايات على معارضته الحكم كان خالد محي الدين.

أما أشد من أيد حكم الإعدام ودافع عنه  في الصحافة فكان سيد قطب، منظر الإخوان المسلمين الأشهر (كان هذا وقت شهر عسل التنظيم مع نظام الحكم الجديد، والذي انتهى قبل أن تنتهي 1954، أما سيد قطب فأعدمته سلطة يوليو 1952 عام 1966). كان من جملة ما كتبه “الشهيد” قطب آنذاك في مجلة روز اليوسف، ضد “خميس والبقري” بعد سجنهما: “أن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت”. وفي جريدة الأخبار، كتب مقالاً آخر بعنوان: “حركات لا تخيفنا”، حيث وصف حادث كفر الدوار بقوله: “لقد أطلع الشيطان قرنيه فلنضرب، لنضرب بقوة،  ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور وأن يهيل التراب”. أعدم المراهقان اللذان لم يتما العشرين (البقري 19 سنة، خميس 17 سنة)  يوم 7 أيلول/سبتمبر 1952 في ، الأسكندرية، بعد مرور أقل من سبعة أسابيع على نجاح “الحركة المباركة”.  

أشّر إعدام خميس والبقري لما تلاه. رد الفعل العنيف هذا على الإضراب ، الذي كان احتجاجاً على نقل عمالٍ إلى مدينة أخرى ومطالبة بتحسين مردود العمل وظروفه، حدث والمصانع مِلكٌ خاص. بعد ذلك بأقل من عقد “أمم” عبد الناصر هذه الشركة مع غيرها وازدادت مزايا وحقوق العمال بشكلٍ كبير، أما ما حدث مع التأميم لكفاءة إدارة المصانع ومردودها الاقتصادي فأمرٌ آخر. مُنِح العمالُ من الحاكم ما طلبوه وربما أكثر، لكنهم حرموا مقابل ذلك، مع البلاد كلها، حرية التنظيم والعمل السياسيين، اللهم طبعاً إلا ما تقرر السلطة القائمة السماح به. لذلك حينما ضغطت على العمال موجة الخصخصة وتفكيك القطاع العام في تسعينيات القرن الماضي، حينما كانت تلك سياسة جمال مبارك، تراوحت قدرة العمال على تأمين حقوقهم بين المحدودة والمعدومة. شهدت المدينة ومصانعها العديد من الإضرابات والاضطرابات، أفرزوا قيادات عمالية ذات وزن، لكن أي من هذا لم يحقق للعمال شيئاً يذكر. ما يُمنح من علٍ مقابل الصمت، يسحب أيضاً من علٍ دون خوفٍ من صوتِ، ناهيك عن فعلٍ، مانع. جسدا خميس والبقري المتدليان من حبل المشنقة أوصلونا ها هنا، وقليل تغير بعدهما.  فعدا من أمر بإعدامهما ، من أيد وبرر إعدامهما: أتباع حسن البنا، يلعبون مراراً وتكراراً  دور الضحية وكأنما لم يرتكبوا خطئاً، بل رأيت شعبيتهم وحضورهم يزداد باضطراد عبر السنوات حتى آخر زياراتي لهذا المكان قبل بضعة سنوات، وها هم عادوا لمكان الضحية  ليهربوا من كل مسئولية ويواصلوا تكرار الأخطاء. 

قلة الوظائف، تقلص مساحة الأرض الزراعية المتاحة، ومحدودية مردودها، نقَل الربح إلى حيث لا يجب أن يكون. القرية هذه على أطراف كفر الدوار، بعض منها داخل فعلاً في الحيز العمراني للمدينة، رويداً تتحول الأرض السمراء شديدة الخصوبة غاباتٍ خرسانيةٍ قبيحة. نصف الحقول التي كنت أسير فيها طفلاً ومراهقاً وشاباً، والتي كنت أصر على العمل فيها يداً بيد مع أقربائي فأثير ضحكهم، نصف هذه الحقول لم تعد أرضاً زراعية، لكن قبل لوم الفاعل المباشر لا بد من محاسبة السياق برمته، فلا مردود يقارن بما سيأتي من تحويل الطين الخصيب إلى ترابٍ ميت مدفون تحت الخرسانة (الباطون)، لا القانون ولا القوة يغيران هذا الواقع، لكن تخطيط متكامل بعيد المدى لم نعرفه بعد.  

لم أصعد للطابق الأعلى، حيث كنا نجتمع في الأعياد، وكنا نسهر في الشرفة الكبيرة. السلم المتهالك أخافني، هممت بالخروج لكن لوهلة حدثتني نفسي بالبقاء. ما الضير من الاتحاد بهذا البناء المتهالك، من السقوط معه؟ في حلي وترحالي وجدت الصحبة كما عرفت الغربة، وها أنا ذا أستشعر الوحشة في عقر داري. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.