fbpx

عام على “كورونا” : اللقاح عدو أم صديق؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كما مع كل وباء مر عبر العصور، يظهر علينا أولئك المشككون بفعالية اللقاحات، أو الرافضون إياها والمروجون لمقاطعتها بسبب معتقداتٍ أو معلوماتٍ مغلوطة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 لا شك في أن تصميم لقاح فايروس “كوفيد- 19” ودراسته وإنتاجه في وقت قياسي خلال عام واحد فقط منذ بدء الأزمة، هو إنجاز علمي يحسب للبشرية جمعاء، إلا أنه في الوقت نفسه أثار أسئلة كثيرة. 

ما يبقى مؤكداً أن اللقاحات هي من أعظم قصص النجاح البشري، فللأوبئة التي أصابت البشر جذورٌ تبدو ضائعة في زمن ما قبل التاريخ، والتي ساعدتنا اللقاحات على الانتصار على الكثير منها عبر الأزمنة وحتى يومنا هذا. 

ادوارد جينر مكتشف لقاح الجدري

سفينة النجاة

في القرن الثامن عشر، أي منذ أكثر من 200 عام، وفي زمنٍ كان فيه الجدري مرضاً مميتاً يحصد الأرواح بلا كلل أو ملل، كان إدوارد جينر يسمع قصصاً من حوله في الريف الإنكليزي، حيث ولد وعاش عن حصانة الكثير من العاملات في حلب البقر ضد مرض الجدري المعدي والمميت. سبب مناعتهن كان ما يعرف بجدري البقر، وهو مرض شبيه بالجدري ينتقل عادةً من الماشية المصابة ولكنه أقل ضراوةً على البشر. بعد تكهنات كثيرة حول دور جدري البقر وتأثيره المناعي ضد الجدري، بخاصة أن الجدري في ذلك الحين كان من الأمراض الأكثر فتكاً في بريطانيا، قام جينر عام 1796، بتجربته الشهيرة، إذ استخدم مادة من التقرحات على يدي حلابة بقر، تدعى ساره نيلز، كانت مصابة بجدري البقر ليلقح بها صبياً يبلغ من العمر 8 سنوات. بعد أيام قام جينر بتلقيح الصبي مرة أخرى ولكن هذه المرة من تقرحات شخص مصاب بمرض الجدري، ليلاحظ جينر أن الصبي لم يصب بمرض الجدري ليثبت أن ما قام به حمى الصبي تماماً من الإصابة. 

هذه كانت ولادة اللقاح الأول في تاريخنا الحديث ليعرف جينر في ما بعد بـ”أبو علم المناعة والتلقيح”. 

قصة اللقاحات لا تبدأ مع جينر طبعاً فجذورها تمتد إلى أزمان خلت، عندما لاحظ الناس ما قبل جينر ذلك بفطرتهم من دون دراية بأسسها العلمية. ولكن ما حققه جينر كان الخطوة الأولى لإنتاج لقاح مبني على أسس علمية تطبيقية، والتجربة الأولى للسيطرة على الأمراض المعدية بواسطته، عبر منهجية البحث العلمي كما السعي إلى نشر ما توصل إليه وتطبيقه على نطاق مجتمعات بأكملها. خضعت ميثودولوجيا جينر لتغييرات كثيرة بالطبع مع التطور العلمي، التكنولوجي، المعرفي ولكنها خطوة أدت، عبر التلقيح، إلى القضاء على مرض الجدري الذي يقدر ضحاياه بما يقارب الـ500 مليون في القرن العشرين وحده، من دون ذكر التشوهات والعاهات المستدامة التي خلفها عند الملايين من أولئك الذين نجوا. 

فهل لك أن تتخيل كم الأرواح التي كان سيحصدها الجدري لولا وجود اللقاح؟ 

لم يكن الجدري أول وباء يفرض نفوذه على البشرية ولا آخرها طبعاً. وما أسسه جينر مهد الطريق للقاحات ضد أمراض معدية أخرى لتشمل أوبئة فايروسية وبكتيرية نجحت بالسيطرة على العالم لفتراتٍ طويلة. ففي القرن التاسع عشر، نجح العالم الفرنسي لويس باستور في تطوير لقاحات ضد أمراضٍ فتكت بمجتمعات بأكملها كداء الكلب والتيفوئيد والكوليرا وحتى الطاعون (أو ما يعرف بالموت الأسود) لتكر سبحة النجاحات في هذا المجال وصولاً إلى يومنا هذا. 

على الأرجح أنك لا تعرف جينر ولم تسمع بباستور سابقاً، ولكنهما عالمان تحديا الموت ووقفا في وجهه ليخلصانا من شبحه الحائم فوق رؤوسنا منقذين بذلك الملايين من براثنه. وصراع هذا الزمن ليس سوى صراع بين أمثال هؤلاء الذين يواجهون في أيامنا هذه “كورونا” بدل الحصبة والطاعون وغيرها في وجه الجهل ودعاته. 

اللقاحات لحمايتنا وأطفالنا 

من منا لم يتعرف إلى حقنة اللقاح عند الطبيب كجزء من طفولته، وإن كنتَ أحد الوالدين لطفل أو أكثر، فعلى الأرجح أن جدول مواعيد لقاحات طفلك بات جزءاً من المسؤوليات التي عليك مراعاتها بدقة. فنحن كما أطفالنا قد تلقينا الكثير منها منذ نعومة أظفارنا، من لقاح الصفيرة عند الولادة إلى لقاح شلل الأطفال ولقاحات الحصبة والحصبة الألمانية وابو كعب والشاهوق والخانوق والكزاز وغيرها الكثير ضمن برنامج مدروس لحمايتنا كما أطفالنا من هذه الأمراض الخطيرة وغيرها. وبفضل عملية التلقيح هذه، اختفت أمراض كثيرة من عالمنا حتى كدنا ننسى وجودها، وهي أمراض كانت لتحصد أرواح الملايين لولا وجود اللقاحات. فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن لقاح الحصبة، المرض شديد العدوى للغاية، بحسب تقديرات “منظمة الصحة العالمية”، أنقذ وحده ما يزيد على 17 مليوناً من الموت خلال السنوات العشرين الماضية فقط. 

قبل اللقاحات كان العالم مكاناً أكثر رعباً بكل تأكيد، كان الواحد منا ليخسر عزيزاً بسبب حصبة مثلاً، مرض ننظر إليه الآن على أنه مرض سخيف أو كنا نرى أطفالنا عاجزين بسبب شلل أطفالٍ بات بالنسبة إلينا الآن ماضياً لا عودة إليه. ولأن ذاكرة الإنسان سريعة العطب ربما، نحن ننسى ملايين الضحايا وسنوات الرعب التي كان على أجدادنا الخضوع لقهرها بسبب أوبئة الزمن الماضي، ولكن ما يجب ألا يغيب عن ذاكرتنا أن اللقاحات هي التي خلصت البشرية من شبح تلك الحقبات ولها يعود الفضل. 

في هذا الإطار، جاء وباء “كورونا” لينعش ذاكرتنا قليلاً، ولكن كما مع كل وباء مر عبر العصور، يظهر علينا اليوم أولئك المشككون بفعالية اللقاحات، أو الرافضون إياها والمروجون لمقاطعتها بسبب معتقداتٍ أو معلوماتٍ مغلوطة. إن خوف البشر من المجهول ليس بجديد بل متوقع ومفهوم، ولكن ما ليس مقبولاً هو تعزيز هذه المخاوف من دون وجه حق أو علم من وجوه فنية أو سياسية أو حتى طبية عبر نشر المغالطات ومحاولات محو ذاكرة الجموع لإعادتنا إلى شبح الأزمان الغابرة التي يفترض أن نكون قد تخطيناها. ففي الأونة الأخيرة ظهرت علينا وجوه معروفة أحدثت جدلاً بدءاً من الون ماسك صاحب شركات تسلا وSpace-x الذي شكك بدقة فحوصات “كوفيد- 19” التي خضع لها، وصولاً إلى فنانين لبنانين كهيفاء وهبي التي أعلنت موقفها الرافض تلقي لقاح “كوفيد- 19″، أو كارول سماحة التي اعتبرت اللقاح “لعبةً” عالمية، وكانت صرحت في وقت سابق عن رفضها اللقاحات والتلقيح عموماً، لأن بعضها يسبب مرض التوحد بحسب سماحة. هذا الادعاء الذي كان أثبت العلماء عبر دراساتٍ علمية منشورة أن لا أساس له من الصحة بتاتاً. على ما يبدو لم تسمع سماحة بالدارسات العلمية بعد! أو لعلها لا تريد. ما علينا! لم يخلُ التاريخ من مجموعات شبيهة عبر العصور، ولكن تأثير هؤلاء كان محدوداً، فهل نحن جاهزون ليعيدنا أمثال وهبي وسماحة إلى أزمنة ما قبل اللقاح؟ إلى زمان كان فيه الملايين من أطفالنا ليموتوا من الحصبة أو الجدري أو شلل الأطفال؟

 هل لقاح “فايزر” قاتل؟

إضافة إلى ما سبق، وقع كثر كما المواقع الإخبارية في لغط آخر حول أنباء عن وفاة 6 أشخاص خلال التجارب السريرية على لقاح “فايزر/ بيونتيك”، ما أثار ذعر كثيرين. مثال على ذلك، نشر موقع قناة “الميادين” الخبر بعنوان مقلق قبل العدول عنه وتصحيح الخبر لاحقاً. علماً أن إدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA كانت أفادت في تقريرها بأن 4 من هذه الوفيات كانت من المجموعة التي تم اعطاؤها لقاحاً وهمياً ولم تتلق أبداً لقاح “فايزر/بيونتيك”. أما حالتا الوفاة الأخريان، فكانتا في فئة كبار السن ولأسباب لا علاقة لها باللقاح بحسب ما جاء في تقرير إدارة الغذاء والدواء الأميركية، التي أكدت عدم وجود مخاوف تتعلق بالسلامة. وبناءً عليه فقد أعطت إدارة الغذاء والدواء الأميركية الجمعة 11 كانون الأول/ ديسمبر الترخيص على طلب الاستخدام الطارئ للقاح “كوفيد- 19″، الذي كانت تقدمت به شركة “فايزر/ بيونتيك”، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر على أن يتبعها تراخيص مشابهة للقاحات أخرى في القريب العاجل. 

إذاً لا داعي للقلق. وبحسب النتائج الأولية وتقرير إدارة الغذاء والدواء، فإن العوارض الجانبية للقاح “فايزر/ بيونتيك”، شبيهة بتلك المرافقة لأي لقاح آخر وتتضمن ارتفاعاً موقتاً في الحرارة، وجعاً موضعياً عند الحقن، أو تعباً عاماً في بعض الأحيان، وحالات رد فعل تحسسي عند بعض الأشخاص وغيرها، وهي مضاعفات محتملة طفيفة يعرفها كل شخص منا ممن تلقى أي لقاح آخر ولا تشكل أي خطر أو تستدعي القلق. على ضوء ما تقدم، فإن متابعة متلقي اللقاح ستستمر لفترات طويلة، يمكن أن تصل إلى سنوات لجمع المزيد من المعلومات، للإجابة على المزيد من الأسئلة، وإزالة أي مخاوف يمكن أن تقلق الجموع.  

إقرأوا أيضاً:

 ماذا عن عبث اللقاح بجيناتنا؟ هل هذا وارد؟

الجواب البسيط سيكون كلا، هذا غير وارد وغير دقيق علمياً. 

العملية الفزيولوجية وراء التلقيح معروفة علمياً وراسخة. الهدف من ورائها تحفيز الجهاز المناعي والاستجابة المناعية، ما يؤدي إلى إنتاج أجسام مضادة وتوليد خلايا ذاكرة مناعية قادرة على مكافحة الاصابة الفعلية المحتملة لاحقاً. أما الحقن الدوري لبعض اللقاحات فهو لتحسين الفعالية ولضمان استمرارية الحماية التي يمكن أن تكون مؤقتة في بعض الأحيان.

الفايروسات، ومنها “كوفيد- 19″، معقدة في تركيبتها ولكن شركة “فايزر/ بيونتيك”، كما شركات أخرى كـ”موديرنا”، اختارت ألا تستخدم الفايروس كاملاً في تصميم اللقاح إن كان بشكله الموهن مختبرياً، أو المعطل كما فعلت الصين مثلاً. بل إن اللقاح في هذه الحالة هو عبارة عن حمض نووي ريبوسيmRNA  يرمز إلى بروتين واحد فقط لا غير، وهو بروتين السبايك الضروري لتوليد أجسام مضادة neutralizing antibodies، ضد الفايروس، وبذلك يمنعه من دخول خلايانا. عندما تصاب بفايروس “كوفيد- 19″، فأنت تصنع هذا البروتين في أي حال، ولكن إضافة إلى بروتينات أخرى يحتاجها الفايروس في هجومه. 

فإذا كان اللقاح سيعبث بجيناتنا بحسب ما يروج البعض فهل هذا يعني أن من أصيبوا بـ”كورونا” قد عبث الفايروس بجيناتهم أيضاً؟ هذا ليس بوارد إذ إن عملية ترجمة الحمض النووي الريبوزي هذه إلى بروتين تتم خارج نواة الخلية، مكان حفظ جيناتنا، على أن يتم التخلص منها سريعاً بعد ذلك، وبالتالي لا تأثير للقاح على جيناتنا. أما لحماية هذا الحمض النووي الريبوزي من التكسر ولكي يصل إلى داخل الخلايا المنشودة، فقد غلفه العلماء داخل ناقل متناهي الصغر يعرف بالجسيم النانوي أو ما يعرف بين الناس بتكنولوجيا النانو. هذه الجسيمات الصغيرة تصنع عادةً من مركبات دهنية (يمكن استخدام مواد أخرى أيضاً) وهي آمنة، فاستخدامها العلاجي ليس بجديد، بل هنالك تجارب مستمرة منذ سنوات طويلة لاستعمال هذه التقنية لإيصال مركبات علاجية لأمراض أخرى كالسرطان مثلاً أو حتى في مساحيق التجميل. 

اللقاحات آمنة إذاً؟

إلى جانب المضادات الحيوية، يمكن أن نقول بكل ثقة إن اللقاحات هي أفضل دفاع لدينا حتى الآن ضد الأمراض المعدية والمميتة في الكثير من الأحيان. معظمنا إن لم أقل جميعنا قد تلقى لقاحات مختلفة إن كان في مرحلة الطفولة أو حتى بشكل دوري خلال حياتنا (الإنفلونزا، الكزاز… إلخ). على رغم ذلك لا ننظر عادةً بعين الشك إلى سلامة هذه اللقاحات علينا، لأنه لا داعي له.

منذ جينر وحتى اليوم عملية تصميم اللقاحات ودراستها، تخضع للتطوير المستمر، للأفضل طبعاً، في خضم تقدم علمي وتكنولوجي سريع من أجل الحصول على لقاحات أكثر فعالية وأمان باستمرار. ولذلك فإن اللقاحات تخضع لمراحل طويلة ومعقدة من التجارب السريرية والدراسات على آلاف البشر، قبل تصريح استخدمها لعامة الناس. مع الوقت، أصبحت هذه العملية تخضع للمزيد من الحذر والعناية والدقة، لضمان الفعالية والكفاءة والأهم السلامة. أما في ما يتعلق بالموافقة على أي لقاح جديد، فعلى العلماء اختبار اللقاح المحتمل على نطاق واسع والالتزام بمجموعة من القواعد الدولية لضمان الشفافية ورصد أي آثار جانبية محتملة لأي لقاح جديد. كما يعتبر ترخيص أي لقاح عملية طويلة قد تستغرق سنوات في بعض الأحيان، تخضع خلالها نتائج الاختبارات على اللقاح المحتمل للتدقيق والمساءلة من قبل لجان مختصة. 

تسريع هذه العمليات جميعها كان ضرورة ملحة مع بدء انتشار وباء “كوفيد- 19” عالمياً. هذا الوباء الذي فرض حالة من الطوارئ تحول سريعاً إلى أولوية، تطلّب العمل على لقاح ضده جهود العلماء في مختلف أصقاع الأرض مع تعاون دولي لضمان الحصول على النتائج بشكل أوفر وأسرع ولكن من دون المساومة على الدقة أو الفعالية أو السلامة العامة. وفي خضم تطور تكنولوجي سريع يقود البحث العلمي ويسمح بإمكانات أفضل في هذا المجال، فإنه لا دعي للقلق.

ختاماً، وبناءً على هذه المعطيات جميعها من واجبنا أن نثق بالمجتمع العلمي هذه المرة أيضاً كما وثقنا به في اللقاحات السابقة، وأن نتذكر دائماً أهمية اللقاحات وضرورتها، ودورها الحيوي المستمر وأثرها على التجربة البشرية، عسى أن ننتصر مرة أخرى على ظلمة ما نعيشه اليوم وعلى ملوك الليل… بالمعرفة والعلم والوعي. 

إقرأوا أيضاً: