fbpx

وصف الجمهوريات التي كانت تُعرف بالجمهورية اللبنانية (8): بيروت والطرق العجيبة لعمل العقل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

نظراً إلى عدم ترسيم الحدود بين جمهورية بيروت وجمهورية الضاحية الجنوبية، بسبب استمرار الخلاف حول مترين مربعين من مساحة منطقة الجناح، ينفّذ شبان بيروتيون عمليات تسلل ليلية وتخريبية وراء حدود الضاحية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ينشر موقع “درج” على حلقات كتاباً صدر هذا العام (2050) في نيويورك لكاتبه مارك دبوسي، وهو صحفي أميركي من أصل لبناني عاش في بيروت قرابة عشر سنوات. الكتاب، كما يقول عنوانه، يصف واقع الجمهوريات التي انقسم إليها ما كان يُعرف حتى العام 2040 بدولة لبنان.

الحلقات السبع السابقة تناولت جمهوريات جبل لبنان وطرابلس والبقاع والجنوب ومشروع الوحدة بين صيدا وجزين وإمارة البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا وضاحية بيروت الجنوبية. هنا الحلقة الثامنة عن جمهورية بيروت حيث يعمل العقل بطرق غريبة.

من يقرأ كتب التاريخ القديمة عن بيروت ثمّ يزورها اليوم يخال أنّ تلك الكتب لا تكتب إلا الأكاذيب. لنتخيل للحظة أن هذه المدينة البحرية التي وصفت قبل نصف قرن بـ”باريس الشرق الأوسط” و”عاصمة العالم العربي”، صارت بلا مرفأ، تتعاقد من أجل استيرادها وتصديرها مع مرافىء صغيرة في طرابلس وجونية وصيدا تفرض على سلعها ضرائب باهظة. أما المطار الذي يستعمله البيروتيون، أي مطار خلدة، فيقع في أراضي جمهورية الضاحية الجنوبية، بحيث أن من يسافرون منه وإليه يرافقهم الهلع الدائم بسبب العلاقات السيئة بين الجمهوريتين.

وفي السياسة لا يبدو إلا الضباب في أفق هذه الجمهورية الكئيبة. فقد اتُفق في الفجيرة على نظام عجيب لبيروت: فهي، من جهة، جمهورية مستقلة تمتد من المرفأ شمالاً والمتحف شرقاً إلى الروشة غرباً والجناح جنوباً، لكن رئيس هذه الجمهورية، من جهة أخرى، مواطنٌ من أمراء إمارة الفجيرة يعينه حاكمها، على أن يساعده كنائب رئيس سياسي منتخب من الطائفة البروتستانتية الصغيرة والأقل تورطاً في النزاعات الطائفية. ولأن البروتستانت أقل عدداً من أن يوصلوا نائباً إلى البرلمان، انتهى الأمر إلى تسميته بالتعيين. على هذا النحو، كما تصوّر واضعو اتفاق الفجيرة، يتم كف أيدي الطوائف الكبرى عن القرارات السيادية.

والأدهى أن مساحة تلك الجمهورية مقسمة إلى أحياء للطوائف لا يدخلها أبناء الطوائف الأخرى إلا بتصريح إداري يصدره مجلس الحي بعد إخضاع من يدخل لفحص أمني وآخر طبي. فمثلاً هناك ثلاثون حياً للمسلمين السنة ثلاثة منها للأكراد، وعشرة أحياء للمسيحيين، سبعة منها للروم الأرثوذكس واثنان للكاثوليك وواحد للبروتستانت، وخمسة أحياء للشيعة، وهناك أيضاً حيان للدروز وحي للأرمن وآخر للعلويين. 

لكن نظراً إلى عدم ترسيم الحدود بين جمهورية بيروت وجمهورية الضاحية الجنوبية، بسبب استمرار الخلاف حول مترين مربعين من مساحة منطقة الجناح، ينفّذ شبان بيروتيون عمليات تسلل ليلية وتخريبية وراء حدود الضاحية، وهو ما يرد عليه شبان من الضاحية بأعمال مماثلة وراء حدود بيروت، الأمر الذي يعزز المشاعر الطائفية الملتهبة في الجانبين. كذلك تشن “ألوية عمر بن الخطاب” الطرابلسية حرب عصابات في بيروت، فضلاً عن صيدا، بهدف “تحرير المدينتين وإعادتهما بالكامل إلى أيدي أهل السنة والجماعة”. ويبدو أن “الألوية” التي تستهدف خصوصاً مواطنين يقيمون في الأحياء الشيعية، كحيّ اللجا ومنطقة الخندق الغميق وسواهما، بدأت تستقطب شباناً من السنة البيارتة الأفقر والأقل تعليماً، إنما الأشد حماسة وعصبية.

أما عدد الأحزاب في جمهورية بيروت فيتجاوز بكثير عدد الطوائف، لأن بعض الطوائف تتمثل بأكثر من حزب واحد تبعاً للمنافسات العائلية والشخصية داخل الطائفة الواحدة. فإذا أضفنا البعد الإثني، حيث بلغ عدد الأحزاب الكردية مثلاً 24 حزباً، وكذلك البعد العائلي حيث هناك 179 حزباً ورابطة، بتنا أمام خريطة شديدة الغنى والتعقيد. وما يلفت المراقب بصورة خاصة مدى التعلق بكلمة عشيرة التي تسمي بها العائلات نفسها علماً بأن أعداد بعضها لا يتعدى الأربعين شخصاً. وإلى هذا كله هناك أحزاب قليلة غير طائفية أو إثنية، إلا أن قائمة بأسمائها تدل على طبيعتها المتواضعة والتي لا يجهل مؤسسوها حدودهم وصعوبة اختراقهم الحياة السياسية: فهناك “حزب الأزرار أولاً”، وهو يمنح الأولوية للتقنية كطريق للتقدم، ويقول هؤلاء بكثير من التباهي إنهم على وشك أن يخترعوا طائرة تقطع مسافة ثلاثة كيلومترات من دون أن تتزوّد بالوقود. وهناك “عصبة شبان هارلي ديفيدسون” وتضم المولعين بسباق السيّارات كمهمّة لا يجيدها إلا “العنصر المتفوق” وفق قاموسهم العنصري. ومن جهة أخرى، ينتشر في بعض الأوساط حزب “إلا البقلاوة…”، وهي حلوى يشتهر بها البيروتيون، وحزب “المال والبنون” الذي يمثل بعض الصيارفة المتقاعدين، وأحزاب تشدد على أهمية مناطق مؤسسيها، كـ “حزب  حي التمليص”، أو تحض على العلم كحزب “ولو في الصين…”. وحتى هنا لا يخلو الأمر من بعض الفرز الطائفي كما هي حال الانقسام بين السنّة والروم الأرثوذكس حول التباهي بالأرنبية، وهي وجبة رائعة المذاق يُعرف بها البيروتيون دون سواهم. ذاك أن الروم أنشأوا حزب “الأرنبيون الغساسنة” فيما أنشأ السنة حزب “الأرنبية خط أحمر”. إلا أنني علمت من مختار رأس بيروت حنا مجاعص أن أرثوذكس منطقته شديدو التململ، بل الامتعاض، مما أسماه “ادعاءات أرثوذكس المزرعة” الذين يقولون إن الأرنبية طُبخت عندهم للمرة الأولى.

خارج هذه الأجواء التي تتفاوت بين الحذر والتوتر، قادتني أقدامي إلى الجامعة الأميركية في بيروت التي شكلت، طوال عقود، منارة تعليمية، ليس في لبنان فحسب بل في الشرق الأوسط كله. لكن ما رأيته هناك يبعث فعلاً على الأسى. فقد شاهدت الأساتذة يتجمّعون وراء البوابة الرئيسية للجامعة وهم يحتفلون بذبح خروف توافقوا على شَيّه وأكله في إحدى حدائق الجامعة الخضراء، فيما كانت ترفرف فوقهم يافطة بيضاء كُتب عليها بخط أسود كثيف وكبير الحجم: “العقل السليم في الجسم السليم”. وقد علمت أن مجلس الأمناء السابق للجامعة الأميركية باعها قبل ثلاث سنوات إلى جامعة القاهرة استجابة لرغبة أميركية في الانسحاب النهائي والشامل من منطقة الشرق الأسوط التي وصفتها واشنطن بـ “غير الآمنة على رعايانا فضلاً عن كونها ميؤوساً منها لسكانها”. لكن يبدو أن جامعة القاهرة التي ضمت الجامعة الأميركية إلى جامعة بيروت العربية، وهي أيضاً مصرية، تديرها بطريقة تسميها “الجمع بين الأصالة والحداثة”. فحين دقّقت مع رئيس  الجامعة الدكتور عبد الخالق محمد أحمد عبد الخالق في معنى التعبير هذا، قال لي بالحرف: “لقد آن أوان التباهي بحضارتنا والتخلص من عقدة الغرب، خصوصاً في مجال العلوم”. وهذا ما يتضح معناه على نحو أدق في المستشفى التابع للجامعة الأميركية حيث يتاح للمريض أن يختار بين العلاج بالطب الغربي وأنواع كثيرة أخرى من الطب معظمها آسيوي، لكن يبقى الأكثر طلباً عليه هو ما يسمى “الطب النبوي” المبنيّ على نصائح وتوجيهات منسوبة إلى النبي محمد تتعلق بالصحة والأمراض.

وقد دفعني فضولي إلى معرفة الجانب التطبيقي من معادلة “الأصالة والحداثة” إلى مختبرات الجامعة ومستشفاها لأكتشف انشغالاً حقيقياً باستنساخ خروف ينكبّ عليه الأطباء وأساتذة العلوم. ويبدو أن جناحاً شعبوياً من علماء الجامعة مهتمّ بتوليد أعداد كثيرة من الخرفان بهدف “إطعام الفقراء والجوعى” لأنه، كما شرح لي أحدهم، “ينبغي إنهاء القطيعة التي فرضتها الرأسمالية بين ما ينتجه العلم والحاجات الفعليّة للمنتجين”. ومع أن عملية الاستنساخ التي بدأت قبل سنتين لم تتقدم خطوة واحدة حتى الآن فإن الكثيرين من الأساتذة يعترضون عليها بحجة تحديها لله ولاحتكاره وحده عملية الخَلق.

وإذ يئن سكان جمهورية بيروت، الذين قُطعوا عن العالم الخارجي، تحت وطأة ضائقة اقتصادية خانقة، ترتفع في المدينة يافطات يدعو بعضها إلى التقشف والزهد وإلى القناعة بوصفها “كنزاً لا يفنى”، وأخرى تمتدح إمارة الفجيرة التي ينتمي إليها رئيس الجمهورية وتتغنى بكرمها الذي يعول عليه البيروتيون لإنقاذهم. وقد أتيح لي أن أحضر مؤتمراً صحفياً للرئيس استهله بالتذمر من الحريات أكانت سياسية أم ثقافية أم جنسية. ذاك أن الإنسان الصالح، في رأيه، هو من يطيع أباه وأمه والذين هم أكبر سناً. وهذا كلام مألوف في الشرق لكن غير المألوف كان إعلان الرئيس، فيما هو محاط بعدد من اقتصاديي الجامعات، أن احترام الأب والأم هو وحده طريق التنمية الاقتصادية والحصول على المعونات الخارجية. ويبدو، بسبب غياب الإعلام الحر، أن الصحيفة الوحيدة  التي لا تزال تصدر في بيروت، “النهار البيروتيّ”، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي العديدة، باتت مكلفة، تحت طائلة المسؤولية، بنقل هذه التوجهات الرسمية. وقد أفادني مصدر مقرب من القصر الرئاسي، طلب عدم ذكر اسمه، أن المهمة الوحيدة لنائب الرئيس البروتستانتي هي مراقبة الإعلام واقتراح ما يلزم عقاباً لمخالفي التعليمات الرسمية.

وهذا، في الأحوال كافة، ليس سوى وجه من وجوه الانحطاط الذي يعانيه الإعلام في جمهورية بيروت. فقد أدهشني أن أعرف أنّ جريدة “النهار البيروتيّ” توزّع سندويش حمّص مجّانيّاً لكلّ من يشتري عدداً منها. وهو ما دفع بعض مواقع التواصل التي تنسب نفسها إلى يسار ما، إلى نشر مقالات تنتقد الجريدة وتطالبها بسندويشات تحتوي على بعض اللحم الحلال على الأقل.

إلا أن تلك الأوضاع الضاغطة لم تحل دون قيام تنظيم سري دعا في أحد بياناته التي وُزعت ليلاً إلى ممارسة العنف ضد ما أسماه “إمبريالية الفجيرة وعملائها المحليين”. ويوزّع هذا التنظيم، رداً على قصائد المديح الشائعة للرئيس، قصائد هجاء تشكل معظم أدبياته السياسية. وتخفيفاً للاحتقان قرر الرئيس إجراء مباراة شعرية بين شعراء الموالاة والمعارضة، وهما مفهومان يكتنفهما الكثير من الغموض في هذه الجمهورية. فأكثر المواقف حدةً التي عُرفت عن قائد المعارضة نهاد المشنوق، وهو أيضاً حفيد لسياسي قديم، تلك الدراسة المطولة التي كتبها منتقداً فيها قِصر شاربي الرئيس ومطالباً بإطالتهما.

وفيما أهمّ بمغادرتها، تستعد بيروت اليوم لاستقبال أمير الفجيرة التي سيقوم بزيارته التفقدية الأولى لها بعد توقيع اتفاق الفجيرة. وإذ تتبارى الطوائف والعائلات والأحزاب كلها، بحيث تبدو كل منها الأكثر فرحاً وتهليلاً للزيارة، يتردد أن بعض العقال يتداولون فكرة ليست قليلة الشعبية، وهي مطالبته بإعلان بيروت مستعمرة فجيرية. وبالفعل فقد صرّح أحد هؤلاء، الحاج مصطفى عبد الرحيم شاتيلا، بأن تسليم الرئاسة لأمير من الفجيرة لا يكفي، إذ المطلوب أكثر من ذلك بكثير. لكنني علمت أيضاً من أوساط مقربة من الأمير أن الأخير سيعتذر بلباقة عن هذا العرض لأنه “لا يجد في بيروت ما يغري إمارته باستعمارها، ويتخوف من تحولها إلى مجرد عالة علينا”. وهكذا، وللمرة الأولى، سيضطر البيروتيون إلى مواجهة مصائرهم بأنفسهم من دون التعويل على أطراف خارجيّة. 

إقرأوا أيضاً:

على العموم، وبعد هذه الرحلة الطويلة إلى جمهوريات ما كان يُعرف بلبنان، يمكن التأكيد على أمرين يجمعان بين تلك الجمهوريات بسائر طوائفها وعائلاتها وأحزابها: الأول، أن مستقبلها كلها سيكون أسوأ من حاضرها الذي وصفته في هذا الكتاب، والثاني، أن تاريخها منذ 1920، حين نشأ لبنان كبلد واحد، هو تاريخ تراجع متواصل كان فيه الأمس أفضل من اليوم واليوم أفضل من الغد.

وهذا ما فعلته مؤخراً المنظمة الوحيدة التي لا تزال تتواجد في سائر الجمهوريات وتسمي نفسها “النجاة من حالة الموات”. فهذه المنظمة، التي تضم بضعة نشطاء، وجهت دعوة إلى علماء ما كان يُعرف بلبنان جاء فيها بالحرف الواحد: “إن الأمل الوحيد لإعادة الحياة إلى أوصال هذه الجمهوريات هو في إقدام علمائنا على تحويل الرجال إلى نساء، والنساء إلى رجال، والأطفال إلى كبار، والكبار إلى صغار، والمباني إلى أشجار، والأشجار إلى سيارات، وقلب كل ما تقع عليه العين رأساً على عقب. إنها مهمة نقر بصعوبتها، لكنها تبقى الطريقة الوحيدة المتوفرة لجعل أحوالنا تتحسن”. 

إن من يعش ير.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!