fbpx

صراعات غيّرت القوقاز: من روسيا وجورجيا إلى حرب كاراباخ الثانية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تختلف حرب كاراباخ الثانية التي شهدناها جميعاً في الفترة الأخيرة اختلافاً نوعياً عن الحرب الأولى، وسوف تعيد تشكيل المعالم السياسية والأمنية في القوقاز.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان صراع كاراباخ هو أول صراع إثني إقليمي ينشب في الاتحاد السوفياتي، في أوج إصلاحات غورباتشوف، وهو يرمز أيضاً إلى التفكك السريع الذي حل بما كان سابقاً قوة عسكرية عظمى وثاني أكبر اقتصاد في العالم. نتج صراع كاراباخ والصراعات المماثلة التي نشبت في مطلع التسعينات عن انهيار الدولة، متمثلةً في الاتحاد السوفياتي. بيد أن حرب كاراباخ الثانية تُعد تصادماً بين دولتين قوميتين حديثتَي العهد، وبهذا فهي تتشابه من أوجه عدة مع الحرب الروسية- الجورجية عام 2008.

قد تساعدنا مقارنة حرب كاراباخ الثانية التي نشبت عام 2020 بالحرب التي سبقتها عام 2008 بين روسيا وجورجيا -حرب أوسيتيا الجنوبية- في استنتاج بعض التداعيات وتحديد التوجهات العامة في منطقة القوقاز، المسرح الرئيس للقلاقل التي خرجت من تحت أنقاض الاتحاد السوفياتي المنهار. 

الآن أصبح لموسكو موطئ قدم داخل آذربيجان تستطيع أن تستخدمه ضد أي تحديات تواجه نفوذها في منطقة الصراع في كاراباخ. فضلاً عن أن روسيا نجحت في تهميش دور تركيا في اتفاقية وقف إطلاق النار

هناك أوجه تشابه قوية بين حرب كاراباخ الثانية والحرب الروسية- الجورجية عام 2008 لدرجة تستدعي عقد مقارنة بينهما. كانت المجتمعات في جورجيا عام 2008 وأرمينيا عام 2020 مجتمعات في مرحلة ما بعد الثورة. وقد هيمنت القيادة السياسية التي تمخضت عنها تلك الثورات هيمنةً كلية على المؤسسات السياسية. انتخب ميخائيل ساكاشفيلي رئيساً للوزراء في كانون الثاني/ يناير 2004 بعدما حصل على 96 في المئة من الأصوات، في حين فاز تحالف نيكول باشينيان، “خطوتي”، في الانتخابات البرلمانية التي عقدت في كانون الأول/ ديسمبر 2018، بعدما حصد 88 من أصل 132 مقعداً. وصل كلا الزعيمين إلى السلطة رافعين شعارات إرساء الديموقراطية ومحاربة الفساد. لماذا إذاً وقعا في شراك الصراعات الإثنية الإقليمية؟ وكيف أيضاً أثرت حرب 2008 في الأحداث والتطورات الداخلية الجورجية التي من شأنها أن تساعدنا على وضع تصور حول التطورات المحتملة في أرمينيا؟

قبل إجراء تحليل مقارن، من الضروري أن نضع نصب أعيننا بعض الاختلافات بين أرمينيا وجورجيا. واجهت جورجيا نزعات انفصالية إثنية مرتين، في مقاطعتين كانتا تتمتعان بالحكم الذاتي في عهد الاتحاد السوفياتي. واجهت تبليسي أيضاً تحدي فرض السيطرة المركزية على مقاطعاتها الحدودية، ومن بينها مقاطعة أجاريا الغنية بالموارد، وكذلك المناطق الجبلية الخاضعة لسيطرة جماعات مسلحة مثل منطقة “وادي كودوري” ومنطقة “وادي بانكيسي”.

على الناحية الأخرى، واجهت أرمينيا مشكلة تأمين الأشخاص من المجموعة العرقية ذاتها في إقليم ناغورني كاراباخ، وانخرطت في صراع من أجل استقلال الإقليم عن السلطات المركزية الآذرية. لذلك، دعمت تبليسي مبدأ السلامة الإقليمية للدول فيما أيدت أرمينيا مبدأ تقرير المصير. 

ثمة اختلاف مهم آخر بين الاثنين، وهو أن جورجيا عام 2008 كانت تسعى جاهدة للانضمام إلى “حلف الناتو”، وقرر ساكاشفيلي توثيق التعاون مع واشنطن. في المقابل، لم يكن لدى أرمينيا مثل هذه التطلعات، بل كانت جزءاً من التحالف العسكري الروسي. وهو ما يعني أن التوجهات الأمنية التي اختارتها جورجيا عام 2008 كانت متعارضة بصفة أساسية مع تلك التي اختارتها أرمينيا عام 2020. أخيراً، وبينما كانت القيادة الجورجية هي من اتخذت الخطوة العسكرية الأولى من خلال إرسال قواتها إلى المعركة لفرض السيطرة على تسخينفالي، لم تكن أرمينيا هي التي أشعلت شرارة حرب كاراباخ الثانية. فقد أيدت القيادة الآذرية الحل العسكري للنزاع على الدوام، وكانت باكو هي التي بدأت العدوان العسكري في 27 أيلول/ سبتمبر. وبينما سعى ساكاشفيلي إلى تغيير الوضع الراهن، كان هدف باشينيان هو إبقاء الأوضاع على ما هي عليه. 

إقرأوا أيضاً:

بدء الحربين

كان توقيت كلا الحربين مختاراً بعناية ومدفوعاً بأحداث دولية مزدوجة شبيهة. فقد نشبت الحربان قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإن كانت أسبابهما مختلفة. خاف ساكاشفيلي من أن تؤدي هزيمة الجمهوريين في نهاية المطاف إلى خسارة تأييد واشنطن. لهذا، كانت الأشهر القليلة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2008، هي الفرصة الأخيرة للشروع في مواجهة عسكرية، آملين بالحصول على الدعم العسكري الأميركي. أما بالنسبة إلى إلهام علييف، فقد كانت الانتخابات الرئاسية الأميركية وجائحة “كوفيد-19” العالمية، بمثابة مشتتات لصرف أنظار الأطراف الفاعلة الدولية عن حرب كاراباخ، إضافة إلى انشغال وسائل الإعلام العالمية بمواضيع أخرى. تزامنت أيضاً حرب 2008 التي اندلعت بعد هجوم عسكري جورجي في 7 آب/ أغسطس على مدينة تسخينفالي، عاصمة أوسيتيا الجنوبية، مع حدث عالمي آخر كان بمثابة عامل تمويه، وهو افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في بكين في 8 آب.

أحد أهم العناصر التي ينبغي الانتباه لها هو أن أيّاً من أولئك “الحماة” لم يأت لإنقاذ أتباعه من خلال التدخل فعلياً لوقف الحرب. فقد تزامنت حرب 2008 مع نهاية المناورات العسكرية الأميركية- الجورجية المشتركة، وكان أفراد الجيش الأميركي لا يزالون في جورجيا وقت اندلاع الحرب. لكن الإدارة الأميركية، على رغم أنها كانت تحت قيادة المحافظين الجدد، إلا أنها لم تكن لتخاطر بخوض حربٍ مع قوة نووية مثل روسيا. وكانت روسيا في 2020 تتمتع بالوسائل التي تمكنها من التدخل بحزم ووقف الهجوم التركي الآذري المشترك على حليفتها أرمينيا. علماً أن الهجوم الآذري بدأ بعد يومٍ من انتهاء روسيا من تدريبات حربية كبيرة في شمال القوقاز، بمشاركة حوالى 80 ألف جندي، هي مناورات “القوقاز-2020”. وقد بدا واضحاً أن روسيا منزعجة من التدخل العسكري التركي في جنوب القوقاز، ومن وجود آلاف المرتزقة السوريين في منطقة النزاع. لكن روسيا أجرت حسابتها آخذة في اعتبارها التكلفة والمكاسب وقررت عدم التدخل لوقف الحرب. 

في نهاية المطاف، ستتدخل الدول الغربية – متمثلةً في الولايات المتحدة وفرنسا، اللتين لعبتا دور الوسيط في 2008- إلى جانب روسيا لوقف الحرب وإنقاذ الدولة المشمولة في حمايتهم من الهزيمة الكاملة. إلا أنه عام 2008 حدث ذلك بعد أقل من خمسة أيام من اندلاع الحرب. أما في 2020، فقد تدخلت تلك الدول بعد مرور 44 يوماً من الحرب، وبعد أن اضطرت أرمينيا إلى التوقيع على اتفاق مهين ومذل، وتخلت عن بقية الأراضي الأذرية التي كانت لا تزال تحت سيطرتها، ولم تحصل في المقابل على مناطق أرمينية في إقليم كاراباخ، بعدما صار الآن تحت السيطرة الآذرية، ومن دون أي وعد بشأن الوضع النهائي لإقليم كاراباخ، الذي يُمثل جوهر الصراع.

نظراً إلى أن حرب 2008 دامت خمسة أيام فقط، فقد كانت آثارها أقل تدميراً، وكان عدد الإصابات منخفضاً نسبياً، إذ لم تتعدَّ الخسائر في الأرواح بين صفوف القوات العسكرية الجورجيَّة 200 قتيل. واتبعت السلطات الجورجية آنذاك سياسة فرض الرقابة على حملات الكراهية المناهضة لروسيا. على سبيل المثال، منعت السلطات عرض أغنية تعتبر معادية لروسيا على القنوات التلفزيونية المحلية. ومن ناحية أخرى، كانت حرب كاراباخ الثانية أشد فتكاً، ليس بين المدنيين، الذين تم إجلاؤهم من مناطق الحرب، بل بين القوات العسكرية. فضلاً عن أن الحرب أدت إلى ظهور موجة جديدة من الكراهية العرقية، إذ اجتاحت صور الدعاية الحربية وسائل الإعلام التابعة لطرفي الصراع. وتعرضت مدينة ستيباناكيرت (خانكندي) وغيرها من المناطق الأرمينية لقصف مكثف طوال فترة الحرب، بينما تعرضت مدينتا بردا وكنجه في آذربيجان لهجمات صاروخية. في حين انتشر عدد كبير من مقاطع الفيديو التي صورها جنود آذريون، وهم يعذبون أسرى الحرب الأرمن ويغتالونهم على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يشير إلى تبني سياسة منهجية في هذا الشأن. وظهرت أيضاً على الجانب الأرميني مقاطع فيديو مماثلة تُظهر إساءة معاملة أسرى الحرب من الجنود الآذاريين، إلا أن أعدادها كانت أقل بكثير. علاوة على أن تأييد الشعب الآذربيجاني الحرب كان مطلقاً، ولعل التظاهرات التي تؤيد الحرب التي انطلقت في تموز/ يوليو من هذا العام، كانت أحد أهم العوامل التي شجعت على اندلاع حرب كاراباخ الثانية.

نتج صراع كاراباخ والصراعات المماثلة التي نشبت في مطلع التسعينات عن انهيار الدولة، متمثلةً في الاتحاد السوفياتي. بيد أن حرب كاراباخ الثانية تُعد تصادماً بين دولتين قوميتين حديثتَي العهد

في أعقاب حرب 2008، شكل الاتحاد الأوروبي “لجنة دولية مستقلة لتقصي الحقائق بشأن الصراع في جورجيا”، برئاسة الديبلوماسية السويسرية المخضرمة، هايدي تاغليافيني. ومن الضروري تشكيل لجنة مستقلة مماثلة لتقصي الحقائق لتوضيح المسؤول عن حرب كاراباخ الثانية والجرائم التي ارتُكبت خلال الـ44 يوماً. بل في الواقع، من الضروري تشكيل لجنة تاريخية ثانية تعود في بحثها إلى بدايات ظهور الصراع عام 1988 وتحقق في عدد من المحظورات التي لا تزال تغذي العداوة، بما في ذلك المذبحة التي تعرض لها الأرمن في بلدة سومغيت الآذربيجانية وسلسلة من المذابح الأخرى التي حدثت في آذربيجان خلال الحقبة السوفياتية بحق الأرمن، وأعمال التطهير العرقي التي شهدتها أرمينيا وآذربيجان خلال الحقبة السوفياتية، ومذابح خوجالي التي ارتكبها الأرمن ضد الآذاريين، وغيرها من المذابح والجرائم التي وقعت خلال حرب كاراباخ الأولى. في غياب لجنة مستقلة لتقصي الحقائق وبيان الحقائق التاريخية، ستظل الروايات المتضاربة تؤجج الكراهية. مع وجود مثل هذه اللجنة، قد يتمكن أطراف الصراع أخيراً من التمييز بين الجرائم والعدالة، وتبني مسار مختلف في المستقبل.

التداعيات

كانت حرب 2008 بمثابة نقطة تحول في السياسة الدولية، فبعد مضي نحو عقدين على التراجع العسكري الروسي، شهد عام 2008 تحولاً جذرياً في السياسات الروسية. لم تكتف موسكو بوقف التحدي الجورجي المتمثل في طرد قواتها من أوسيتيا الجنوبية، بل وضعت أيضاً حداً لطموح جورجيا في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). وعام 2020 أعيد تأكيد هذا التوجه، إذ إن التدخل الروسي في اللحظة الأخيرة لم ينقذ ما تبقى من كاراباخ من خطر إبادتها على يد القوات الآذرية فحسب، بل فرض أيضاً وجود قوات حفظ السلام التابعة لروسيا داخل آذربيجان، وهو الأمر الذي رفضه كثر من القادة المتعاقبين في باكو سابقاً. والآن أصبح لموسكو موطئ قدم داخل آذربيجان تستطيع أن تستخدمه ضد أي تحديات تواجه نفوذها في منطقة الصراع في كاراباخ. فضلاً عن أن روسيا نجحت في تهميش دور تركيا في اتفاقية وقف إطلاق النار التي عقدت في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر، والمشاركة في القوات العسكرية لحفظ السلام. وفي النهاية خرجت روسيا فائزةً في صراع لم تستثمر فيه الكثير.

في 2020، تم التشديد من جديد على التوجه السائد نحو تقليص النفوذ الغربي في جنوب القوقاز الذي بدأ عام 2008. والواقع أن موسكو عملت على تهميش دور “مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا”، الكيان الذي تأسس لإدارة الصراع في كاراباخ، وليس بالضرورة حله. في المستقبل، قد تود روسيا رؤية دور محدد تلعبه فرنسا أو الولايات المتحدة في إقليم كاراباخ، ما دام هذا الدور الجديد لا يتجاوز حدود النفوذ الروسي الجديد هناك، المتمثل في الهيمنة العسكرية الروسية.

تمكن ميخائيل ساكاشفيلي من البقاء في السلطة ليُكمل ولايته الرئاسية الثانية بعد هزيمة 2008، وذلك بفضل المساعدات المالية الأوروبية والأميركية الضخمة التي بلغت 4 مليارات دولار أميركي. في حين لم يسرع الغرب في تقديم المساعدات إلى باشينيان بعد ثورة عام 2018، ولا يبدو أن هذا التوجه سيتغير بعد هذه الحرب المدمرة. فضلاً عن أن موسكو ليست حريصة كل الحرص على إنقاذ الحياة السياسية لشخص أتى إلى السلطة في ظل موجة من الاحتجاجات الشعبية -وهو الأمر الذي تخشاه النخبة الروسية منذ “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2004. لذا من الصعب أن نتخيل القوة التي قد تنقذ الجندي باشينيان الآن.

هذا لا يعني أن أرمينيا ستعود إلى ما كانت عليه في الماضي. على رغم حقيقة أن جورجيا لم تتمكن بعد 2008 من مواصلة التحول السياسي، فإنها لم تعد إلى دولة ما قبل عام 2003 الضعيفة ولم تقع في براثن الواقع الفوضوي. والأهم من ذلك أن “الحركة الوطنية المتحدة بزعامة ساكاشفيلي” تمكنت للمرة الأولى منذ استقلال جورجيا من النجاح في الانتخابات التالية، ما ساهم في تشكيل معارضة برلمانية. لعل أفضل ما قد يحدث لتحالف نيكول باشينيان، “خطوتي”، هو النجاة من السقوط الحتمي من السلطة والتحوّل إلى معارضة حقيقية، لا سيما بعدما أصبحت أرمينيا الآن جمهورية برلمانية.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.