fbpx

مطبخ سعاد العابر من سيراليون إلى بنت جبيل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يُعرف لِسُعاد غير مهنة الطهي. ولكن إلى جانب ذلك كانت سُعاد تشتهر بكرم أخلاقها وطبيعتها الليّنة، ولكن شهرتها الأهم تكمن في نفَسِها الطيب في فنون الطبخ وقدرتها العجيبة على صناعة الطعام والتفنّن في تحويله وإخراجه ولوْ من مواد بسيطة وقليلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يبقى المطبخ هو روح البيت ورُكْنه الأساس، على رغم التهميش الذي أصابه من جراء تطور العمارة المنزلية، وتزايد النزعة الاستهلاكية عند البشر ومظاهر العولمة الشديدة في مُجريات حياتنا. وقد أتاح لنا الحجر الصُحيّ الإلزامي المفروض على الجميع، بسبب تفشي فايروس “كوفيد-19″، إعادة اكتشاف حيوية هذه المساحة الصغيرة من البيت وأهميتها، التي تفيض عن كونها مكاناً للطهي وتحضير ما لذّ وطاب من المأكل والمشرب.

ففي مساحة المطبخ، التي قد لا تتعدى العشرين متراً مربعاً أو أقل بقليل، يتقاطع التاريخ مستريحاً في زواياه، وتصْطَفُّ الثقافات في الخزائن كتفاً إلى كتف مُتصالحة، ومُنصهرة في أوعية الطهي. في المطبخ تمارس مسامات التذوق تدريباتها اليومية، ويروي ساكنوه حكايات فرحهم وعذاباتهم لتُحفر في الذاكرة روائح مثيرة وطعمات غامضة. في المطبخ تُعْقَدُ صداقات وتندلع شجارات وتُتلى أجمل الأمنيات على وقْع طرطقة الملاعق بالصحون ورنين الكؤوس المملوءة نبيذاً.

وإذا كانت غرفة النوم مساحة نمارس فيها تدريباً يومياً على الموت -أي موت الوعي- لإيقاظ الحلم، فالمطبخ وامتداداته برأيي هو مساحةٌ للحياة والتدرب على اكتشاف اللذة والشغف. غرفة المطبخ، هي المساحة الأكثر دفئاً وحميمية وثقافةً في البيت وقد تتفوق في هذا على غرفتي النوم والمكتبة. فالبيتُ من دون مطبخ سيكون بارداً، تجري الحياةُ فيه بلا طعم ولا لون ولا إيقاع.

ثالوث المطبخ

في التقليد الهندسي– المعماري يتموقع المطبخ في إحدى زوايا البيت، ويَنْأى عن صدره، ويبتعد بعض الشيء، من غرف النوم. وقد تتوسع مساحته الصغيرة ليضم الى سلطته غرفة الطعام أو ما اصطلح على تسميته بغرفة الجلوس ولاحقاً غرفة التلفزيون. وقد تكون مسألة عزله عن بقية مكونات البيت مرتبطة بعزل العاملين فيه وحجبهم عن أنظار الضيوف الغرباء، وقد تكون مرتبطة أيضاً بمحاولة الحد من انبعاثات روائح الطهي وتسربها إلى الغرف الأخرى. ففي ضبط الروائح وحصرها لعدم جواز اختلاطها، تكمن تجليات من العمارة المدينية المُحافظة في منتصف القرن العشرين، والتي قسَّمت المنزل هندسياً  تبعاً لوظائفه المختلفة وخدمةً للتراتبية الاجتماعية في العائلة الواحدة، من حيث فصل وحجب وتحديد المهمات المُنوطة بكل فرد من افرادها وعلاقتهم بالجيران والاقارب والضيوف.

البيتُ من دون مطبخ سيكون بارداً، تجري الحياةُ فيه بلا طعم ولا لون ولا إيقاع.

في المطبخ تتركّز مجمل التمديدات المائية والصحية  والكهربائية، ليس لكونه مصعناً للطعام والشراب وحسب، بل وأيضاً لكونه محولاً لطبيعة المواد الحية كاللحوم والنباتات على أنواعها. وقد يصح القول إنّ لأدوات المطبخ ثالوثها الخاص بِأبعادٍ ميثولوجية- ثقافية. فالنار رمز الانصهار والخلق، أداتها الفرن و”البوتو- غاز”. التّجمُّد رمز الخلود وعدم التحلل وأداته البراد والثلاجة. أما الماء رمز الطهارة فأداته المغْسَل أو المجلى وصنابير المياه. وبهذا المعنى فالمطبخ هو المَطْهر ومُحوِّل المواد من حالة الاثم والنجاسة إلى حالة الطهارة المُشتهاة.

فإذا كان اكتشاف النار قد أدى بإنسان النياندرتال إلى التطور والارتقاء نحو مرتبة الإنسان العاقل بانتقاله من مرحلة أكل اللحوم النيئة الى مرحلة طهْيِها، فاكتشاف الملح كان من أهم الأسباب التي حفظت استمرارية عيش هذا الإنسان العاقل عبر تمكينه من حفظ موارد صيده من اللحوم على أنواعها وتخزينها، كما طوَّر لديه حاسّة التذوق في اللسان، لِما للملح من قدرة على إبراز الطعم في أي مادة يضاف عليها بعض منه.

خُبزٌ وملح ودماء

يكاد لا يخلو مطبخ من الكثير من الطحين والملح والسكر، والقليل من الشاي والقهوة مع بعض أنواع البهارات والأعشاب المُطيِّبة. قد نضع قليلاً منها على الطاولة لضرورة تناولها السريع، ونخزّن ما تبقى في علب مُحْكمة الإغلاق على رفوف حائط، المطبخ مستريحة آمنة بعدما شهدت على تاريخ حروب دموية خاضتها شعوب مُستعمِرة للحصول على هذه المواد واحتكارها، وثورات قامت بها شعوب مستعمَرة من اجل التحرر والاستقلال واستعادة ثرواتها من هذه المواد الحيوية.

دماء غزيرة سُفكت وأرواح أزهقت في سبيل السيطرة على أراضٍ وشعوب للحصول على الشاي والقهوة والسُكّر والكاكاو وحبوب البهارات والتوابل. حروب استعمارية عنيفة استمرت من أجلها طويلاً عبر التاريخ البشري، ومن جُملة ما انتهت إليه هو تلاقح واختلاط احيائي هائل بين كل الاجناس الحية من بشر ونبات وحيوان، بدَّل وعدّل وأضاف جذرياً في مُكوناتها الأساسية كما في عاداتها وثقافاتها، ومنها عادات وثقافات الطهي والأكل.

مطبخ سُعاد في مطابخ كثيرة

وسعادٌ هو اسمٌ لسيدة لبنانية الاصل سيراليونية المولد، عادت الى بيروت في ستينيات القرن الماضي برفقة زوجها أحمد، واستقرا مع عائلتهما الكبيرة في محلة المزرعة، وهي المنطقة التي كانت في الستينات رمزاً لِعَيْشٍ متنوع من الشرائح الاجتماعية المُنتمية لأديان وثقافات مختلفة. عام 1965 استقرت سعاد في بيتها الجديد في شارع زريْق المُطل وقتها على شاطئ الرملة البيضاء وفيه أسست لمطبخها الغني بروافدٍ ثلاثة: افريقي، ولبناني/ شرق متوسطي وعراقي.

لا يُعرف لِسُعاد غير مهنة الطهي. ولكن إلى جانب ذلك كانت سُعاد تشتهر بكرم أخلاقها وطبيعتها الليّنة، ولكن شهرتها الأهم تكمن في نفَسِها الطيب في فنون الطبخ وقدرتها العجيبة على صناعة الطعام والتفنّن في تحويله وإخراجه ولوْ من مواد بسيطة وقليلة. لُقِّبت من كُلِّ من ذاق طعامها بساحرة المطبخ. لا أعداء لسعاد سوى الغبار (الغبرة)، فهي تكافحة بشراسة، كي لا تدعه يقترب من بيتها خصوصا من مطبخها.عداوتها للغبار قد تفوق حتى عداوتها للكيان الإسرائيلي، أما حربها ضده فمستمرة دائماً بلا هوادة، ترفع فيها شعار اللآت الثلاث لجمال عبد الناصر الذي لم تؤمن به يوماً ولا تُطيقه البتة: لاصلح لا تفاوض لا استسلام. فبحسبها الغبار هو مُفسد المواد ومُنَجِّسها. لذا كانت دوماً تردد أن النظافة والترتيب من أساسيات الطهي الشهيّ، وأن الطعام هو غذاء حيوي للروح قبل الجسد. أما جملتها الشهيرة في الحكم على طعام لم تسْتَسِغْهُ فكانت: “هيدا حشي بطون”.

اكتشف موهبتها طباخُ والديها في سيراليون السيد مادو بنجورا، بعدما تركها وحيدة في المطبخ مهرولاً الى بيته القريب لمساعدة زوجته المستغيثة في ولادة ابنه البكر. والدا سعاد كانا في العمل خارجاً حينذاك. وعندما عاد الطاهي بنجورا فوجئ بأنّ ابنة مخدوميْه، سعاد (8 سنوات)، قد أنجزت عنه بنجاح الطبخة التي تركها على الطاولة من دون اكتمال. ومن يومها أصبحت هي مساعدته ومؤنسته في المطبخ، فأخذت عنه أسرار المطبخ الأفريقي المُترع بالفلفل الحار وزيت النخيل الأحمر. فأتقنت صُنع يخنة الكسافا بزيت الباماي مع السمك المدخن، ويخنة معجون الفستق بالدجاج وقرون الحر الصغيرة، وعصيدة الفوفو مع الموز المقلي.

لُقِّبت من كُلِّ من ذاق طعامها بساحرة المطبخ.

عندما علمت فاطمة والدة سعاد بموهبة ابنتها في شؤون المطبخ، أوْكلت أمرها إلى خالتها سُكنة جابر الآتية من بنت جبيل في جبل عامل إلى سيراليون. كانت سُكنة بمثابة الأم الثانية لسعاد فتعلمت على يديها فنون الطبخ اللبناني – المشرقي، وتحديداً الذي يختصُّ به أهل الجنوب في لبنان، التي اتسمت وصفات مآكله بالبساطة والتواضع مع إكثار في استعمال الحبوب والأعشاب وإقلال في اللحوم، ليس لعدم حبهم لها بل وعلى الأرجح لاسباب اقتصادية صرفة. اعتاد أهل الجنوب اللبناني الاحتفاء باللحوم الحمر مشويةً أو نيئة، في أسواق قراهم المتنقلة على مدار الأسبوع. إذْ لا بدّ لزائر هذه الأسواق في بنت جبيل وتبنين وبرعشيت وشقرا والنبطية وصور، أن يتحمَّس في طلب رغيف لحمة مشوية دغدغت، رائحة الدهن الذائبة عنه، خياشيم أنفه، أو أن يطلب نصف كيلوغرام من الكفتة النيئة المصنوعة من لحم الغنم الطري ممزوجة مع البصل والبقدونس، ليجلس مع الجموع الغفيرة في إحدى زوايا السوق فيلتهمها مع كأس من العرق. وكأس العرق هذا كان مسموحاً به ويتم التسامح معه كخيار فردي لأهل جبل عامل، قبل أن تُطْبِق على روحِ اهله روحُ الخميْنيّ وثورته الإسلامية التي ألغت كل تنوع في المأكل والمشرب والملبس والثقافة.

تعلّمت سُعاد من سُكنة جابر فن طبخ المُجدّرة الحمراء والفرق بينها وبين المُجدّرة المخبوصة ومُدرْدرة العدس التي لا تستقيم إلا بوضع كميات البصل المُحمر على وجهها. وآمنت سعاد بأن العدس هو “مسامير الرُكب” كما عرفت أسرار صنع صلصات اليخنة المتنوعة، ومختلف أنواع الشوربات وخصوصاً شوربة الخضار بمرقة عظم فخد العجل. هذه الشوربة تستعجل تحضيرها كلما أصيب أحد أبنائها بنزلة برد. ولكنها أبدعت وبشهادة الجميع بتحضير وصفة الكُبّة بكل تنويعاتها من لحمة الغنم الطازج مروراً بالبطاطا وانتهاء بالعدس والبدورة.

القارة السوداء أيقظت في وعي تلك الفتاة اليانعة طاقة على الإبداع والخلق، وفتَّحت باكراً مسامات التذوق لديها، وصقلت موهبتها في تحويل المواد والأغذية إلى طاقة للروح والجسد. وهذا التحويل هو بالضبط ما يفعله الكيميائي.

قبل أن تستقر في بيتها في شارع زريق، سكنت مع عائلة أهل زوجها في شارع بربور في منطقة المزرعة أيضاً. وهي عائلة حسين مروة الكبيرة التي انطلقت من جبل عامل بين قريتي حداثا وبنت جبيل، قبل أن تنتقل إلى العراق وتعيش سنوات طويلة ويطردها من هناك النظام البعثي، لتعود في منتصف القرن الماضي الى بيروت.

سكنت سعاد نحو شهرين عند بيت حماها أبو نزار. واستطاعت أن تتعلّم عن أم نزار فنون الطبخ العراقي المشبع بالتوابل والحموضة الآتية من ثمرة “اللومي بصرة”. فبرعت في تحضير يخنة “القيما” والأرز المُطبَّق بالزبيب واللحمة، أمّا الهريسة على الطريقة العراقية فهي أكثر ما برعت في تحضيره وتفوقت فيها حتى على حماتها.

لم يكن لجارات سعاد في حي المزرعة أن يعرفوا شيئاً عن فنون طبخاتها لولا انبعاث الروائح الزكية من شباك مطبخها وتسللها إلى أنوفهن. الرائحة الطيبة أدهشتهن وأغرتهن للتعرف إلى إسرار مطبخها. وهكذا صارت سُعاد الجارة الأقرب إلى قلوبهن، يأتونها فرادى وجماعات لتمصية “الصُبْحِيّة” في بيتها. هي تستقلبهن بوجهها البشوش وتدعوهن للجلوس على “الصوفا” المريحة في غرفة “القعدة” التابعة مباشرة للمطبخ. تُحضّر لهم القهوة في أكبر ركوة وعلى مرحلتين وبعدها تبدأ الصُبْحِيّة مع أخبار سريعة عن أحوال الجيران واهل الحي من زيجات وطلاقات، لتليها مجموعة من النكات السريعة من جانب ام إبراهيم تتناول بسخرية الأزواج في ادعاءاتهم حول فحولتهم. فيضحك الجميع ليبدأ بعدها حديث حول وصفات جديدة للطبخ. وهنا تتدخل أم اشرف لتشرح بإثارة مسرحية طريقتها المُثلى في تحضير طبخة “الصيادية” قائلة: “تُقطعين البصل الله لا يقطْعِك… وترميها في الزيت الحامي على النار، انشالله عدوينك بالنار… الخ”. ام وليد تتكرم على الوالدة بشرح مُسهب لطريقة الكبسة الخليجية بعد تسرد أخبار مغامراتها وزوجها الأديب اللامع في زياراته الدورية إلى امراء الخليج لتسويق كُتُبهِ. ينتهي كل هذا بامتداح سُعاد ونفَسها الطيب ورائحة مطبخها الزكي، ليبدأ فصل أخير من الصبحية ببوح خافت حول مشاكلهن مع أزواجن وما يسببونه لهُنَّ من معاناة وآلام نفسية قد تصل الى حدود الأوجاع الجسدية. وفي هذا المقطع من الصبحية كان جو حزين ضبابي يخيّم على المطبخ مع دخان السجائر ورائحة بقايا القهوة في الفناجين. كانت سُعاد صامتة لا تبوح بشيء، بينما كنت انا استرق السمع من زوايا المطبخ.

كنت صغيراً في السابعة من عمري عندما تعودت أن أُنهي فروضي المدرسية أيام الآحاد والعُطل في المطبخ لأن الأماكن الأخرى يشغلها إخوتي الأكبر سناً. وهو ما أتاح لي مراقبة والدتي أثناء ممارستها مهماتها اليومية في المطبخ. ومرة سألتها عن ماهية النَفَس الطيب وإذا كان بإمكاني أن امتلكه… نظرت سعاد إلي وفكّرت ملياً ثم أجابت: “لا اعرف بالتحديد ما هو النفس الطيب ولكن عندما تكبر وتصبح رجلاً مثل ابيك قد تستطيع أن تفهم هذا الأمر…” وحذّرتني من الجلوس في المطبخ اثناء زيارة الجيران لها.

ثابرت على الجلوس في مطبخ سُعاد، وهي لم تمانع أن أساعدها في شيء بسيط من المهمات الطويلة والمُعقّدة في تحويل المواد إلى أغذية. أما عندما كانت تزورها إحدى جارتها، فكانت تُبعدني من المكان فوراً.

تعلمت من سُعاد احترام تراتبية أدوات المطبخ وكيفية استخدامها، واستعمال السكاكين لتقطيع سليم ورشيق والاعتماد على الحدس في أكثر الحالات لتقرير مقادير الوصفات ودور المُطيبات في إزالة الزنخة عن اللحوم. كانت تدهشني رؤية المواد في تغير دائم. ومع ذلك بقيتُ على موقف متحفظ وسلبي من ملمس بعض المواد على اللسان، كالدهون والبامية وحتى رائحة الكشك كنت لا أطيقها. كانت سعاد تقول، عندما تكبر سوف تفهم. والفهم غير متعلق بالعقل وحسب، بل يجب أن يمر في القلب أولاً، وقد يكون مروره أحياناً مُراً ومؤلماً.

لم أكتشف هذه الأمور إلا عندما سافرت للمرة الأولى، من أجل الدراسة. وقد عُدت إلى بيروت في عطلتي الصيفية وبي شوق عظيم الى مطبخ سُعاد الذي كان يعمل كالمعتاد. فتمنيت عليها أن تعلمني جيداً كيفية تحضير الكُبة “النيّة”. نظرت إليّ بدهشة، متسائلة أين ذاك الصبي النيِّق الذي كان يفضل كبة البطاطا على كبة اللحم النيئ؟ وتابعت:  “يا ولد صرت رجال وبتعرف طعمة تمَّك…”.

تضع سُعاد الكبة “النية” والفراكة في مصاف الطعام الذي يسند القلب. أي أنّه الطعام الذي يتناوله الانسان ليس ليتغذى ويشعر بالشبع وحسب، بل والأهم ليملأ فراغات روحه سعادة وفرحاً.

هي دأبت على تحضيرها تقليدياً كما علمتها سُكنة جابر ربيبة أهل بنت جبيل في جبل عامل، مُستعملة البلاطة والمدقة الخشبية، قبل زمن “مكَنَة المولينكس”. تضع البلاطة في وسط أرض المطبخ على طراحة اسفنجية لدواعي امتصاص الصوت. تأتي باللحم العجل أو الغنم الطازج والطري مع قطعة وافية من الدهن الصافي فتضعها على البلاطة الصخرية بعد تقطيعها إلى أجزاء صغيرة، وتبدأ بمعالجة هذه الأجزاء بضربات قوية من مطرقة خشبية كبيرة الحجم فتُحيلها إلى معجون خشن. بعدها تأتي جولة ثانية من الضربات الخفيفة عليها مع إزالة الشوائب العالقة بالمزيج من شروش الاعصاب وشرايين دموية رفيعة، لتتحول الى عصيدة متجانسة، مرهمية الملمس وزهرية اللون. توضع فوراً في الثلاجة لتلافي التحلل في طبيعتها بعدما تسبب الضرب عليها بارتفاع درجة الحرارة فيها. بعد هذا يأتي دور المرحلة الأهم، وفيها تتميز كبة بنت جبيل عن سواها من المناطق اللبنانية الأخرى. ألا وهي تحضير الكمونة التي هي أيضاً عصيدة تُحضّر على البلاطة ذاتها. والكَمّونةُ في أساسها تحْويشةٌ مُرَكّبةٌ مُنْتقاة بعناية فائقة من أجود الأعشاب المُجففة والمُطيّبات الحرّيفة وأهمها: حبوب الكمّون، كبوش القرنفل، عيدان القُرفة، أوراق المردكوش، ورد جوري أحمر، أوراق الحبق الأخضر، قليل من حبوب البهار الأسود، ولا بأس بقليل من بودرة الحَر المجفف. يوضع هذا المزيج السحري على البلاطة ذاتها ليُدق بالمطرقة الخشبية مع قليل من البرغل الناعم والبصل وأوراق النعناع الطازج وبعض شرائح الفُليفلة الحمراء والخضراء. كل هذه العناصر تمتزج لتُشكّل عصيدة متجانسة حريفة الطعم والرائحة خضراء اللون.

تُمزج العصيدتان الحيوانية الزهرية والنباتية الخضراء في وعاء كبير بواسطة الدعك المُلطّف باليدين العاريتن، مع بعض الماء والملح، لتتحول إلى مادة غذائية جديدة مؤَنْسنة. وعلى رغم من عدم معالجتها بالنار فهي ليست نيئة ولكنها أيضاً غير مطبوخة، كما انها ليست حيوانية بالكامل وليست نباتية في الوقت نفسه، بل تقع في منزلة بين المنزلتين.

قد يُلخص لنا هذا الوقوع والتحول لكل المسار التاريخي الطويل الذي عبره الإنسان العاقل من عصور ما قبل التاريخ الى يومنا هذا.

اليوم في عز أزمة “كورونا”، بعد مرور أشهر على السياسات الصحية المتَّبعة ومن ضمنها الحجر الصحي الإلزامي ووضع كِمامة الوجه مع التباعد الاجتماعي بين مختلف الناس، وبعدما دخلنا عصر الانهيار الاقتصادي والسياسي في لبنان، أعيد اكتشاف أهمية المطبخ وتحديداً مطبخ الوالدة سُعاد الذي يحول المواد بكل أشكالها إلى غذاء للروح قبل الجسد ويقدمها للجميع بحب وطواعية، من دون انتظار أي مقابل سوى أن ترى فرح عطائها في عيون الآخرين ووجوههم لا أكثر ولا اقل. وفي هذا يكمن معنى نفَسِها الطيب والسحري وسره.

إقرأوا أيضاً: