fbpx

المشرّع اللبناني: إلا الدعارة… !

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اختار المُشرّع مضاعفة قهر النساء المُستغلَّات في قطاع بيع الخدمات الجنسيّة، المُجرَّم قانوناً، ومعاملتهنّ أسوةً بمُشغّليهنّ، لصالح مُشترين هم بغالبيّتهم الساحقة ذكورٌ مُعفون من أي مسؤوليّة قانونيّة أو معنويّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس ثمّة ما يستدعي البهجة أو التهليل. وترنيمة الفرح بالقليل لكونه خرقاً يُحتسب للحركة النسويّة في مرمى لا يُخترق شباكه سوى في المناسبات النادرة أو على وقع طبول الضغوط الدوليّة، لم تعد قابلة للعزف على نحو ما سبق.

تكرّرت في الماضي مقولة إنّ المطلب يُجزّأ أمّا الحقّ فلا، وأنّه على الحقوقيّات النسويّات اتّباع نهج “خُذ وطالب”. فيحتفلن بما يأخذنه، ثمّ يشمّرن عن سواعدهنّ لاستكمال مسيرة انتزاع ما هو للنساء ويُسلب من النساء كلّ يوم، بصبرٍ ربّما كان يشبه صبر أيّوب، لكنّه اليوم بات أقرب إلى أسطورة سيزيف. فما إن يصلن بالصخرة إلى القمّة، حتّى يتدحرجن معها إلى الوادي من جديد، لكن هذه المرّة لا لحملها وحدها وحسب، بل حملها وصخرة ثانية وثالثة ورابعة معها، من دون التمكّن من وضع حدّ جذري لهذه المعضلة الوجوديّة. فماذا يعني ذلك على الأرض؟

عمليّاً، إذا كانت الحقوقيّات النسويّات في لبنان يطالبن في السابق بعددٍ من التعديلات على القانون رقم 293/2014 “لحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري”، فإنّهن بتن اليوم يطالبن أوّلاً بالتعديلات التي لم يقبل بها مجلس النواب في جلسته الأخيرة في 21 كانون الأوّل/ديسمبر 2020، وثانياً بقانون أشمل يعالج العنف المُمارَس على النساء عموماً للتصدّي لمحدوديّات القوانين الخاصّة التي تصارع البنية العفنة الأوسع، وثالثاً بإلغاء مفاعيل بعض التعديلات التي أدخلها المشرّعون إلى قانون العنف الأسري، والتي طالت فئة تُعد من أكثر الفئات هشاشةً بين النساء في لبنان. وعليه، حمّل المجلس المُدافِعات عن حقوق النساء الصخرات بدلاً من الصخرة الواحدة. ومن نافل القول أنّ هذه من أكثر الاستراتيجيّات شيوعاً في صفوف السُّلطات وهدفها إرهاق الحركات الاجتماعيّة ودفع الكثيرين إلى خارج اللعبة، إلى الغضب تلو الغضب، وصولاً إلى الاستسلام. وأحياناً، تتّبع السلطة هذه الاستراتيجيّة لإيهام المجتمع بأنّ التغيير ما زال ممكناً، لا سيّما في مراحل سياسيّة حسّاسة ومصيريّة، وأن لا مفرّ من الانتظار والصبر قبل تحقيق المزيد.  

هذه المرّة، وفي معرض اتّباع قاعدته التشريعيّة الفُضلى بعدم إنصاف فئة إلا على حساب أخرى، وقع اختيارُ المُشرّع اللبناني على قهر أكثر النساء تهميشاً في المجتمع، مفيداً وبوضوح بأنّه ينصر فقط تلك المرأة التي يرى أنّها تستوفي شروط الضحيّة المثاليّة التي تستحق الحماية، ولا يحمي حتّى تلك بالشكل الكافي.

اختار المُشرّع مضاعفة قهر النساء المُستغلَّات في قطاع بيع الخدمات الجنسيّة، المُجرَّم قانوناً، ومعاملتهنّ أسوةً بمُشغّليهنّ، لصالح مُشترين هم بغالبيّتهم الساحقة ذكورٌ مُعفون من أي مسؤوليّة قانونيّة أو معنويّة، يستمتعون بحصانة اجتماعيّة وقضائيّة أتاحت لهم طيلة قرونٍ خلت استخدامَ حقّهم المُفترض في الوصول إلى أجساد نساء هنّ بغالبيتهنّ الساحقة نساء مُفقرات ويتيمات ومُعنّفات ومُغتصبات ولاجئات وضحايا اتجار، واستعمالَ أجسادهنّ ساعة شاؤوا، وكما يحلو لهم، بقوّة رأس مالهم الاقتصادي والجندري والجنساني. كلّ ذلك، والنساء هنّ المُعاقَبات والمحرومات بفعل المقاربة التجريميّة التأديبيّة من أيّ بديل أو حماية أو قوّة تفاوضيّة أو سبيل للشكوى والانتصاف. واليوم، استُبعدن أكثر من أيّ وقتٍ مضى من إمكانيّة التقدّم بشكوى واللّجوء إلى العدالة، وتُركن لوحدهنّ في مواجهة تحديّات يوميّاتهنّ الشائكة والمحفوفة بالمخاطر. 

هذه المرّة، بدلاً من تعديل المادّة 523 من قانون العقوبات بما يتوافق مع قانون عام 2011 لمعاقبة الاتجار بالأشخاص وإلغاء تجريم الأشخاص المُمارِسين ومعاقبة أفراد الأسرة المُسهّلين بوصفهم مرتكبي اتجار، شدّد مجلس النوّاب اللبناني العقوبة على النساء اللواتي يستغلّهنّ ويشغّلهنّ آباؤهنّ أو أزواجهنّ وغيرهم من الرجال على قاعدة أنّه يُعاقَب بالعقوبة ذاتها “منَ تعاطى الدعارة السريّة وسهّلها”. ومرّةً أخرى، ساوى المشرّع بين المُسهِّل والمُستغَّل، لا بل أودت به غيرته على المساواة إلى إقرار تعديلٍ شدّد بموجبه العقوبة على الاثنين معاً!

في الواقع، من الصعب الجزم ما إذا كان النوّاب ببساطة لا يفقهون شيئاً من ألف-باء المساواة القانونيّة وقضايا النساء والعدالة الاجتماعيّة، فغفلوا سهواً، نتيجة جهلهم أو استعجالهم أو استخفافهم، عن التناقض القانوني الذي كرّسوه بدلاً من أن يعالجوه عبر تحقيق انسجام نصّي مثلاً بين قانون العقوبات وقانون الاتجار وغفلوا عن نتيجة آلت إلى ظلم نساء مُعنّفات جنسيّاً؛ أم أنّهم في الحقيقة تعمّدوا تعميقَ الارتباك القانوني الحاصل بهدف إعادة إحياء القديم وطمس الجديد، أو في أحسن الأحوال ترك الباب مفتوحاً للقاضي المُصلِح كما للقاضي المتزمّت، أو ربّما تقصّدوا ترسيخَ عادة تجريم النساء وتوقيفهنّ في المخافر، لا بل ذهبوا حدّ تشديد العقوبة عليهنّ، توفيراً لديمومة العقليّة الذكوريّة التي تأبى إلا أن تحكم على النساء، وتقسّمهنّ إلى فاسقات وطاهرات، وإلى ضحايا محظوظات وضحايا منسيّات، وإلى ضحايا ومجرمات. فأصبحت النساء ضحايا عنف أسري ومجرمات دعارة في القانون نفسه الذي كان يرمي في الأساس إلى رفع الظلم عنهنّ ووقف تجريمهنّ.

أمام هذا المشهد العبثي الذي يربط فيه المشرّع بين حماية ضحايا العنف الأسري وتشديد العقاب على النساء في الدعارة، يعجز العقل عن بناء تصوّر نهائي لما دار في أذهان المُشرّعين الذين مرّروا تعديلاً كهذا. ثمّ يقف حائراً أمام سؤال استراتيجي ليست الإجابة عنه بالسهلة أو البدهيّة، بخاصّة أمام مفترق حقوقي كالذي سُجّل في جلسة 21 كانون الأول/ديسمبر 2020. والسؤال الجوهري هو: هل يحق لنا الفرح بتعديلات يقدّمها لنا نظامٌ رثّ والاستفادة من تحسينات لا شكّ بأنها ستفيد بعض النساء مع علمنا ويقيننا بأنّها أمعنت في ظلم نساء أخريات لم يعرفن سوى القهر والتحقير طوال حياتهنّ؟ هل يحقّ لنا الاحتفال فيما رفيقاتنا يُقهَرن مرّتين؟ هل نستمرّ في المطالبة بما هو أفضل لنا ونتنعّم في الوقت الذي نقضيه بين الإنجاز والآخر بما يُعطى لنا وتُحرم منه أخريات؟ هل هذا قدرنا، أو بالأحرى، هل هذه قيمُنا؟

ماذا لو تمكّنّا، أمام مجلس كهذا، من المطالبة جديّاً بأن تكفّ جوقة المشرّعين مرحليّاً عن معالجة بعض قضايانا؟ أوليس ذلك أضمن، تحديداً للواتي لم يُنعم عليهنّ بأيّ امتياز؟ أولم تكن صخرة واحدة تكفيهنّ في الأصل؟

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!