fbpx

“سوريو الباصات الخضر” لراشد عيسى: عن الأعين التي رأت والقلوب التي بكت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يصف عيسى حال سوريي الباصات الخضر بالقول: “عبروا بلدات وقرى كثيرة، وبعيون مفتوحة لا تنام، راقبوا من خلف الزجاج المشحور، المشاهد الأخيرة من بلادهم. أيُّ كلام قالوه لأنفسهم حينذاك، أيّة مشاعر؟”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صحيح أن الكتابة للصحافة اليوميّة تستنزف الكاتب، لكن الصحيح أيضاً أن هناك نوعاً من المقالات المنشورة في الصحافة، لا تفقد قيمتها بالتقادم، بخاصّة تلك التي تتناول الحدث اليومي، ليس من منظور سياسي بحت، بل من منظور ثقافي وأخلاقي أيضاً. وإذا تم تجميع هذه المقالات، وأعيد نشرها في كتاب، فهذا يعني أنه تمكن العودة إليها للاستدلال والاستئناس بها، والاعتماد عليها. من جانب آخر، قلّة قليلة من الكاتبات والكتّاب الصحافيين، تكتب مقالات الرأي، النقديّة السياسيّة، بلغة يشوبها الحسّ الأدبي، المُفصح عن سعة الإطلاع ومستوى ثقافي رفيع. أصحاب وصاحبات التجارب الإبداعيّة والصحافيّة العريقة، يمكنهم تسطير هكذا نوع من المقالات. أمّا أن يقدّم لنا كاتب وصحافي ينتمي إلى جيل الشباب، مقالات من هذا الوزن والمذاق، فهذا يثير الدهشة والإعجاب ويستدعي توجيه التحيّة أيضاً. بالتالي، ما فعله الكتاب الصحافي الفلسطيني – السوري راشد عيسى، حين انتقى 32 مقالاً من مقالاته التي نشرها في الفترة الممتدّة بين 5/9/2007 و27/7/2019، ونشرها في كتاب صدر عن دار “موزاييك” للدراسات والنشر في 144 صفحة من القطع المتوسّط، هو تماماً في السياق والإطار المذكورين آنفاً. ذلك أن المقالات الـ32، إضافة إلى أنها تؤرّخ لتطوّر تجربة الكاتب وأسلوبه، خلال عقدٍ ونيّف، فإنها توثّق رؤيته ومواقفه وأفكاره، حيال أحداث دراماتيكيّة، خلال تلك الفترة أيضاً. زد على هذا وذاك، مَن لم يطلع أو يقرأ تلك المقالات، بشكل منتظم ومتتابع في حينه، تمكنهُ قراءتها في هذا الكتاب، مذيّلةً بتاريخ نشرها ومكانه. والحقُّ أنني كنتُ من هذه الفئة الأخيرة.

في هذا الكتاب، توقّف راشد عيسى في مقالات عدّة عند مقام الهويّة، وإشكالاتها، وأوجاع الانتماء إلى الأماكن، الأديان، الثقافات، القضايا. وإذا كان آخر مقال في الكتاب “أن تكون فلسطينيّاً في مطار عربي” (السفير 5/9/2007) هو الأقدم، فإن أوّل مقال في الكتاب “… وهذه هويّتي” (درج 27/7/2019)، فإن كليهما يتناول مفهوم الهويّة ومقامها ومكوّناتها، وتشظياتها أيضاً. في المقال الأخير، يتحدّث عن محنة الهويّة الفلسطينيّة والانتماء الفلسطيني في المطارات العربيّة، وما يترتّب على ذلك من مأساة وقلق وحصار وترحيل، يفترض ألاّ يكون موجوداً، بخاصّة لدى أنظمة عروبيّة، تزعم قياماً وقعوداً؛ نصرتها للقضيّة الفلسطينيّة على أنها قضيّة العرب المركزيّة. ذلك أن هذا الزعم، لا يستقيم ولا ينسجم مع النظرة الدونيّة، والمواقف الاستفزازيّة، وحالات المنع والترحيل الذي يتعرّض له الكثير من الفلسطينيين اللاجئين الذين لا يحملون جنسيّات أيّ بلد عربي أو أجنبي. بالتالي، تتضاعف كارثة اللاجئ الفلسطيني ومحنته، الناجمة من الاحتلال الإسرائيل، لتُضاف إليها المأساة الآتية من الأنظمة العربيّة. ذلك المواطن الذي ربما لا يعرف عمق تلك المأساة وقسوتها ومرارتها، إلاّ أثناء وجوده في أي مطار عربي. 

كذلك المقال الأوّل في الكتاب، يعالج فيه عيسى هويّته الفلسطينيّة – السوريّة المركّبة، وكيف أنه كان مستهجناً الإقرار بوجود تركيبة كهذه، لكنها اكتشفت، عقب اندلاع الثورة على نظام الأسد الابن. إذ يقول: “عندما اندلعت الثورة في البلاد (سوريا)، كان بديهيّاً أن ينضمّ فلسطينيون كُثُر للمشاركة فيها. وكان مؤسفاً، ولا معقولاً، أن ينحاز فلسطينيون آخرون للدفاع عن النظام السوري (…) مع الثورة، بتنا أمام ظاهرة، لعلّها تسجّل للمرّة الأولى في تاريخ العلاقة بين الشعبين؛ عندما راح الفلسطيني يقدّم نفسه باعتزاز كفلسطيني سوري (…) أنا أيضاً، رحت أقدّم نفسي كفلسطيني سوري، من دون أيّ ادعاء. ولم أكن اسمّي ذلك تضامناً أو مجرّد تعاطف. فتلك قضيّتي، كما فلسطين تماماً” (ص8-9).  

مآسي الهجرة

لئن حركة النزوح والهجرة داخل سوريا وإلى خارجها، خلال العقد الماضي، كانت الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، وربّما العالم أيضاً، منذ الحرب العالميّة الثانيّة، فمن الطبيعي طغيان هذا الموضوع على بعض مقالات الكتاب. بل إن عنوان الكتاب “سوريو الباصات الخضر” (ص45) هو نفسه، جزء أو هامش على متن حركة النزوح والهجرة التي شهدتها وتشهدها سوريا. على سبيل الذكر لا الحصر، عن المقالات التي تناولت موضوعة الهجرة والنزوح من زوايا عدّة: “الداخل والخارج السوري… احتكار المأساة” (المدن 29/12/2018)، “التصويت بالأقدام” (المدن 30/11/2018)، “قصّة قرية يونانيّة على الساحل السوري” (سوريالي 20/6/2018)، “اللاجئ السوري: يحبونني ميّتاً” (سوريالي 16/10/2018)، “لاجئو كاله: الخروج من عنق الزجاجة” (القدس العربي 4/8/2015).

الحقّ أن مشاهدات الكاتب لآلام النازحين والمهاجرين ومعاناتهم وأحزانهم، في المقالات المذكورة، وغير المنشورة في الكتاب، تصلح لتكون فصولاً من رواية. بخاصة في المقال الذي اختار عيسى عنوانه ليكون العنوان الرئيس والقنطرة الرئيسة لهذا الكتاب “سوريو الباصات الخضر” (سوريالي 20/5/2018). ذلك أن السوريين يعرفون حكايات الباصات الخضر التي كانت تقلّ المهجّرين من مناطق في دمشق وحلب كانت خاضعة لسلطة المعارضة المسلّحة استولى عليها نظام الأسد، إلى مناطق أخرى داخل سوريا. لكن، من هم خارج سوريا، ربّما قلّة منهم تعرف تلك الحكاية، ومراراتها وقسوتها. هذه المقالة تتحدّث عن تلك التجارب المأساويّة، بطريقة سرديّة، مقارنة بين حركة النزوح والهجرة والتغريبة السوريّة مع ما حصل مع مثيلاتها في الحرب العالميّة الثانية. وصحيح أن المقال يتناول الخطوط العريضة للهجرة، إلاّ أنه، وبطريقة مكثّفة، يتناول حيوات البشر، على مستوى الأفراد (أحد معتقلي سجن صيدنايا) والمهجّرين الجالسين على مقاعد تلك الباصات الخضر، وهم يتابعون “من خلف الزجاج المشحور” مشاهد النزوح واقتلاع جذور البشر من أمكنتها. هذا المقال المكتوب بلغة مشهديّة، سينمائيّة، رصديّة، فيها توثيق والتفاتة ذكيّة، لالتقاط محنة الباصات الخضر التي تغادر من أماكن منكوبة إلى أماكن منكوبة أخرى، محمّلة ببشر منكوبين حزانى. الحقّ أن هذا المقال، يصلح للاشتغال عليه، وتحويله إلى عمل روائي. ولئن الشيء بالشيء يذكر، فإن الكاتب والروائي الكردي السوري جان دوست، هو أيضاً عالج هذه التجربة المأساوية في روايته “باص أخضر يغادر حلب” الصادرة عن منشورات المتوسّط 2019. 

يصف عيسى حال سوريي الباصات الخضر بالقول: “عبروا بلدات وقرى كثيرة، وبعيون مفتوحة لا تنام، راقبوا من خلف الزجاج المشحور، المشاهد الأخيرة من بلادهم. أيُّ كلام قالوه لأنفسهم حينذاك، أيّة مشاعر؟ وصلوا أخيراً إلى تلك القرى (موالية للنظام) التي رفعت على جانبي الطريق إشارات بذيئة في مواجهتهم، أو لافتات تتحدّاهم. تسخر منهم وتشمت. بكت النساء على ما وصف البعض. أغمضن أعين أطفالهن، واستشاط الرجال غضباً، وعضّوا على الجرح (…) قد تكون كلماتهم، تأملاتهم، خواطرهم أثناء تلك الرحلة بالذات، فوق تلك الطرقات، هي ما سيرسم المستقبل السوري”. (ص47). في إشارة إلى منه إلى مستقبل ملغوم بالأحقاد والكراهية والتمزّقات الأهليّة. 

الحقّ أن مشاهدات الكاتب لآلام النازحين والمهاجرين ومعاناتهم وأحزانهم، في المقالات المذكورة، وغير المنشورة في الكتاب، تصلح لتكون فصولاً من رواية.

نقد ثقافي – سياسي

حَفِلَ الكتاب بمقالات نقديّة ثقافيّة موجّهة لرموز الشعر والأدب والدراما والسينما السوريّة التي انحازت إلى نظام الأسد، على رغم كل الجرائم التي اقترفها بحقّ شعبه، وأصبحت تلك الرموز أو الأسماء المعروفة في حقلي الأدب والفنّ، أدوات في آلة النظام الإعلاميّة التي تبرر جرائمه. على سبيل الذكر؛ الممثل دريد لحّام والشاعر نزيه أبو عفش. إضافة إلى ذلك، ساجل الكاتب في مقال آخر، الصحافي والناقد السوري خلف علي الخلف، وحاول رد الشبهة والاتهام الذي وجّهه الأخير إلى الكاتب المسرحي السوري الراحل، سعدالله ونوس، على أنه تعرّض لأسئلة وشبهات ظالمة، بعدما اتهم الخلف، ونوس بأنه كان “صنيعة نظام الأسد”!

من جانب آخر، ودائماً في إطار النقد الثقافي– السياسي، وجّه الكاتب انتقادات إلى الفنان التشكيلي السوري المعارض يوسف عبدلكي، على افتتاحه معرضاً له في دمشق. وذلك في مقال بعنوان: “يوسف عبدلكي ينتصر للوحات العارية في زمن القتل” (ص59). وفي الإطار الثقافي – السياسي ذاته، تندرج مقالات “إشبيليّة تعود، بابا عمرو يهاجر” (ص17)، “تمثال ناهض حتر” (ص63)، “ما اسم طفلة دوما، ذات المعطف الأحمر” (ص83)، “بيانو في مخيم اليرموك” (ص99).

في النتيجة، المقالات الـ32، ارتكزت على ذلك الانحياز الوجداني الإنساني للضحايا السوريين، والسخط على العالم وأيّ طرف أو جهة متورّطة في تلك الكارثة السوريّة، أو حاولت تبرير فظائع النظام. وبلغت مقالات الذروة، في ما يتعلّق بالوجع والألم الإنسانيين، إلى مستويات عالية التأثّر والتأثير، لجهة إظهار عذابات الطفولة السوريّة. كما في مقال: “نايف… الَّذي رأى كل شيء” (ص67)، “ما اسم طفلة دوما ذات المعطف الأحمر؟” (ص83)، “آلان الكردي… صورة أخرى في الألبوم” (ص87). 

هفوات بسيطة

على أهميّة هذه المقالات، وجودة توثيقها للأحداث ومواقف الكاتب منها، إلاّ أن هناك ما يمكن تسجيله على الكاتب ومقالاته أيضاً. ذلك أن الكتاب يكاد يخلو من النقد الذي يفترض أن يتم توجيهه للمعارضة السوريّة أيضاً، والجرائم التي اقترفتها على الصعيد السياسي والعسكري، والكوارث والأضرار التي ألحقتها بالثورة السوريّة. فجرائم الخطف التي تعرّض لها نشطاء مدنيون في دمشق، حلب، إدلب وأريفاها، من قبل فصائل المعارضة المسلّحة، غنية عن البيان والإشارة. ناهيكم بالفساد المستشري في أوساط المعارضة. زد على هذا وذاك، عيوب كتّاب ونشطاء في الثورة وقبائحهم، في التغطية على جرائم المعارضة السورية وانتهاكاتها وفسادها، وتبريراتهم السمجة والسخيفة لتك الجرائم، وتورّط بعض الكتّاب والصحافيين في ذلك الفساد. على سبيل الذكر لا الحصر؛ استخدام تركيا سوريين كمرتزقة في ليبيا، وآذربيجان، وتغطية المعارضة السوريّة على ذلك. إضافة إلى احتلال تركيا عفرين، تل أبيض، رأس العين، بعض مناطق ريف أدلب، عبر استخدام فصائل المعارضة السوريّة كمرتزقة. هذه أيضاً، كانت وما زالت وستبقى تستحق النقد والسخط والتعرية. 

كذلك شابت المقالات ما يمكنني اعتباره تكراراً، كان في الإمكان تلافيه. على سبيل الذكر لا الحصر، ذكر حادثة إيقافه في مطار القاهرة، وإعادة ترحيله إلى سوريا، في المقال الأول (ص8) وفي المقال الأخير (ص133). وذكر الفروق بين سوريي الداخل وسوريي الخارج في مقال “الداخل والخارج السوري.. احتكار الأزمة” (ص11)، وفي مقال “اللاجئ السوري: يحبونني ميّتاً” (ص53).

جرائم الخطف التي تعرّض لها نشطاء مدنيون في دمشق، حلب، إدلب وأريفاها، من قبل فصائل المعارضة المسلّحة، غنية عن البيان والإشارة.

لغة أدبيّة

قياساً بتقنيّة كتابة هذه المقالات، في تقديري، تجربة الكتابة الصحافيّة لدى راشد عيسى وصلت مرحلة الإشباع. وآن له أن يتجه نحو الرواية. نظراً لامتلاكه لغة أدبيّة، وخيالاً سردياً، متوفّراً في مقالاته الصحافيّة، إلى جانب السعة الثقافيّة واضحة الملامح في مقالاته. ولا أبالغ إذا قلت: أغلب المقالات الواردة في الكتاب، تنطوي على أفكار، يمكن توظفيها في أعمال روائيّة، أو يمكن تحويلها إلى هكذا أعمال روائيّة. ولعلّ عنوان مقال “سوق الأحد تكتب رواية” (ص115) يوحي بذلك. كذلك مقال “قصة قرية يونانية على الساحل السوري” (ص41) فيه فكرة بالغة التميّز والاختلاف، بإمكان الكاتب الاشتغال عليها، لتحويلها إلى عمل روائي. حتّى أن “سوريو الباصات الخضر يمكن أن يكون مستنداً ومعيناً لكتّاب آخرين في أعمال روائيّة مقبلة، على أن يذكروا مصدرهم!

أيّاً يكن من أمر، كتاب “سوريو الباصات الخضر” لراشد عيسى، ينبئ بموهبة روائيّة، ربّما تظهر للنور، إذا التفت إليها صاحبها، واعتنى بها، اعتناءه بمقالاته الصحافيّة الجميلة.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.