fbpx

إسكات “مسرح الشوارع” في مصر: خنق الميادين وإلغاء المجال العمومي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لا أظن أن فن الشارع سينتهي في مصر أو أي مكان آخر، لأنه فن أصيل. بقدر ما يتعرض للتضييق والخنق، لا بدّ أنه سيخرج من مكان آخر بأسلوب جديد وشكلٍ آخر. في النهاية الشارع مفتوح للجميع”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مهّد الطريقَ أمام مسرح الشارع المعاصر في مصر كثيرون، ناضلوا طويلاً وواجهوا صعوبات من أجل الاعتراف بإمكانات هذا الشكل الفنّيّ. كان الأعضاء المؤسّسون لفرقة “حالة” المسرحيّة التي قدّمت عروضها في الشارع، ومنهم أيمن حلمي وعلي صبحي، جزءاً من جيل من الفنّانين في عقد التسعينات من القرن الماضي وبدايات العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، ممّن كانت لديهم رغبة جارفة في الخروج عن المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة. 

لم يتعمّد هؤلاء الفنّانون الشباب التخصّصَ في عروض الشوارع؛ إنّما أرادوا تقديمَ عروضهم في أيّ مكان متاح أمامهم. لذا نزلوا إلى الساحات العامّة، كالحدائق والأرصفة، لتقديم عروضهم، وسرعان ما ارتبط اسمهم بتلك التجرِبة.

عند الحديث عن أوّل عروض الشارع التي شارك في تقديمها مع الفرقة عام 1998، يقول محمّد عبد الفتّاح، وهو عضو آخر من مؤسّسي فرقة “حالة”: “أنا بصراحة حبيت فكرة الناس الي ماشية بالصدفة وبتتفرج على العرض بشكل تلقائي ومش متحضرة ومش عارفين انهم رايحين مسرح فعجبني ده قوي”.

بالنسبة إلى علي صبحي، فإنّ سِحر عروض الشوارع يتعلّق بكسر قوانين المسرح وقيوده. ويشمل هذا جميع القواعد الرسميّة وغير المعلَنة التي يتطلّبها دخول المسارح التقليديّة، والتي تكون فيها أدوار الممثّلين والجمهور جامدة ومُحدّدة سلَفاً. إذ يكون الممثّلون مقيّدين بخشبة المسرح ومُلزَمين بنصّ مُحدّد، فيما لا يُتاح للجمهور سوى لعب دور سلبيّ، إذ عليه الوصول والمغادرة في مواعيد معيّنة ويظلّ جالساً في المقاعد نفسها، وإغلاق الهواتف. على النقيض، لا ينطبق أيٌّ من هذه القواعد على حال مسرح الشارع، حيث الممثّلون والجمهور يتبادلون الأدوار؛ وتمتدّ الحدود المتاحة أمام الممثّلين إلى أقصى ما يسمح به الشارع، ويُمكن أنْ يعبّر الجمهور عن رأيه مع تطوّر العرض والأداء: “مسرح الشارع حر تماماً، مجرد تماماً من كل القواعد والأحكام الفنية… ده شيء أساسي جداً… إنه فعلاً بيديلك إحساس قوي جداً، ان الشارع ملك للجميع. الإحساس بأن الشارع فعلاً بتاعي بيخليني حر أكتر بيخليني أبدع أكتر، بيخليني معنديش قيود معينة، مش خايف من حاجة معينة، بقول الي أنا عايز أقوله، بعمل الي انا عايز اعمله، برسم الرسمة الي عايز ارسمها، مش حد معين عايزني ارسمها”، يضيف صبحي. 

في بدايات العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، انطلقت فعاليّات وتأسّست محافل متنوّعة لكي تدعم الحركة الفنّيّة التي أدّت إلى إحياء المسرح المصريّ.

يعود بعضُ جذور هذه المبادرات إلى ثمانينات القرن العشرين التي شهدت زيادةً ملحوظةً في عدد المبادرات المسرحيّة المستقلّة. ومع قليل من الدعم المادّيّ واللوجيستيّ المقدَّم من الحكومة، نجحت الفرق المسرحيّة المستقلّة في تقديم عروض كان لها دورٌ مهمّ في إعادة ابتكار الحركة المسرحيّة وتنشيطها في مصر، وتقريب مفاهيم كحريّة التعبير وحرّيّة الحركة إلى “مواطن الشارع العاديّ”، وكان لها دورٌ بارز في استعادة وضع الشارع باعتباره ساحة عامّة حرّة للتعبير الفنّيّ. يعتقد النقّاد أنّ هذه الموجة هي التي حالَت دون انهيار المسرح في مصر،. ويذكر أيمن حلمي عقد التسعينات من القرن الماضي، قائلاً إنّه وسط كلّ هذا، “كان في خلاف في الفترة دي على مستوى النقاد والمفكرين على المصطلح نفسه وعن هل أسهل نسمي الفرق المسرحية دي الفرق الحرة ولا الفرق المستقلة. وكان في محاولات للوصول لحل متفق عليه، يعني إيه مستقل، ويعني إيه حر، ومين فيهم الأفضل”. وما يزال مصطلحا “الحرّ” و”المستقلّ” يُستخدمان لوصف هذه الموجة الجديدة.

الجمع بين الإبداع الفنّيّ والنشاط السياسيّ

لم تكُن الحركة التي أدّت إلى إحياء المسرح في الثمانينات والتسعينات -وأدّت في نهاية المطاف إلى ظهور فرَق مثل فرقة “حالة” وفرقة “أطفال الشوارع”- حركةً فنّيّة خالصة. فقد ترافقت مع فترةٍ من التاريخ المصريّ كانت الأوضاع السياسيّة خلالها متقلّبة، وكانت تنظيمات وجماعات سياسيّة على غرار “حركة شباب 6 أبريل” وحركة “كفاية” تهيمن على وسط مدينة القاهرة (وسط البلد)، وتنظّم احتجاجات في الشوارع وحلقات نقاشيّة عامّة بشكل دوريّ. وكأقرانهم في العمل السياسيّ، تأثّر الفنّانون الشباب بتلك البيئة المشحونة سياسيّاً، فأنشأوا حركاتٍ سياسيّة تمثّل قضاياهم كفنّانين. ومن تلك الحركات “حركة 5 سبتمبر”: “كانت دي حركة مميزة جداً اشترك فيها الفن مع السياسة. ووقتها كانت دي بداية معرفتي بأن فيه حاجة اسمها “أدباء من أجل التغيير” و”فنانون من أجل التغيير” وحركات كثير كان في اسمها مصطلح التغيير في تلك الفترة”، بحسب حلمي.

تسعى “حركة 5 سبتمبر” -التي أخذت اسمها من تاريخ اليوم الذي وقع فيه حريق مسرح بني سويف عام 2005- إلى التعريف بحكايات مَن فقدوا حياتهم في ذلك اليوم. فقد اندلع الحريق نتيجة سقوط شمعة وراء الكواليس خلال أحد عروض “مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي”. من بين المشكلات التي أدّت إلى وقوع ذلك الحادث المأساويّ أنّ الفعاليّة أُقِيمت في قصر بني سويف الثقافي غير المُجهَّز، في إحدى أفقر محافظات البلاد. وصل إجمالي عدد الضحايا إلى خمسين، ومنهم رموز ثقافيّة مثل الدكتور صالح سعد وحازم شحاته والدكتور محسن مصيلحي وبهاء الميرغني. مع وجود مخرج طوارئ وحيد، ومع عدم وجود معدّات لإطفاء الحريق أو موظّفين في المكان، تسبّب الحريق في انتشار حالة من الذعر والتدافع. جاء فريق إطفاء متأخّراً بعضَ الشيء وغيرَ مجهَّز، ثمّ وصلت متأخّرة عنه سيّارة للإسعاف فيها طاقم غير مدرّب بما يكفي. كان هناك أكثر من 70 مصاباً في الموقع، ومَن وصلوا منهم إلى المستشفى تلقّوا العلاجَ في مرافق طبّيّة غير مجهَّزة بشكلٍ كافٍ في بني سويف أوّلاً ثمّ نُقِلوا إلى القاهرة. وفي محاولة للاحتجاج على التعديل والتزوير الذي لحق شهادات الوفاة التي حُرِّرت للضحايا، احتشد الأهالي أمام المشرحة، لكنّ قوّات الشرطة اعتدت عليهم وأوسعتهم ضرباً. وبالطبع لم تظهر أيٌّ من إخفاقات أجهزة الدولة بشكلٍ دقيق في التقارير الإعلاميّة التي نُشِرت لاحقاً، ويرى حلمي أن هذا الحدث كان مهماً جداً، و”شكل وعيي أنا بالذات وأعتقد وعي ناس وفنانين غيري أيضاً”. 

الوصول إلى مرحلة النضج

شمل ظهور مسرح الشارع في مصر تطوّراً ليس في أداء الممثّلين وحسب إنّما في طبيعة الجمهور أيضاً، وهي حقيقة تمكن ملاحظتها في ثورات الربيع العربيّ 2011. وفقاً لما يقوله الشاعر والناشط المخضرم زين العابدين فؤاد، فإنّ المدهش بشكلٍ خاصّ في ثورات 2011 هو مستوى إبداع أولئك الذين لم تكن لديهم خلفيّة فنّيّة. وهذا ما جعل ميدان التحرير مسرحاً مفتوحاً استضاف أشكالاً مختلفة من الإبداع تنوّعت ما بين الغناء والرقص إلى أداء المنولوغات الساخرة: “مناخ الحرية في الميدان أطلق طاقات فنية وتعبيرية مختلفة”. عادةً ما استخدمَت هذه العروض المُرتجَلة رسائل الدعاية الحكوميّة، مع تحريفها بطريقة تشبه ما فعلته بعد 6 سنوات فِرَق مسرح الشارع، مثل فرقة “أطفال الشوارع” عام 2017.

قد تبدو هذه الموجة الإبداعيّة سبباً لتحفيز العروض الاحترافيّة في الشوارع، ولكنّ هذا لم يحدث. بل كان لها، في الواقع، تأثير معاكس. فهذا المناخ الذي صار فيه الجميع فنّانين في الشوارع صعّب على المحترفين أنْ يجدوا مادّة لعروضهم الجديدة؛ ما يُفسّر كيف توقفت عروض الشوارع لفرقة “حالة” عام 2010 قُبَيل اندلاع الثورة، ولم يتمّ استئنافُها مطلقاً.

الفنّ في الميدان

توقّفت فرقة “حالة” عن تقديم عروض الشوارع، ولكنْ لم تتوقّف الرغبة في استمرار العمل الساحات العامّة. فقد شجّعت التجرِبة الكثير من الفنّانين المشارِكين فيها على الاستمرار في تقديم عروض الشوارع. ومع مرور الوقت، تبنّى فنّانون مثل علي صبحي وأيمن حلمي الفكرةَ وحوّلوها إلى شيءٍ أحدث وأكبر. وظهر ذلك جليّاً في تطوّر الحركات الفنّيّة التي وُلِد من رحمها مهرجان فنّ الشوارع المسمّى “الفنّ ميدان”.

مزَج مهرجان “الفنّ ميدان” بين أفكار رئيسيّة، منها عروض الشوارع المعاصرة التي قدّمتها فرقة “حالة”، وحرّيّة الحركة وحرّيّة شغل الساحات العامّة التي قدّمها ميدان التحرير، علاوةً على المفاهيم القديمة مثل مهرجانات الشوارع التقليديّة، أو “الموالد” التي كانت تقام عادةً للاحتفال بالذكرى السَنويّة لميلاد أحد الأولياء والصالحين أو وفاته. وبعد سنوات من المحاولة، نجحت الحكومة في وضع حدٍّ لهذه الموالد، ولم يتبقَّ منها في الوقت الراهن في القاهرة سوى اثنين فقطّ. في البداية، بدأت الدولة خلال عقد السبعينات من القرن الماضي رعايةَ مبادرات من شأنها أنْ تقدّم بديلاً يُمكن التحكّم فيه والسيطرة عليه بسهولة أكبر مثل السيرك القوميّ والفرقة القوميّة للفنون الشعبيّة. لاحقاً، أطلقت الدولة في التسعينات حملة لتقسيم الساحات المفتوحة اللازمة لعَقد هذه المهرجانات. وقد تمكّنت من ذلك، في الأساس، من خلال بناء الأسوار والحواجز ومنع إقامة المخيّمات حول أماكن عَقد الموالد، ما أدّى إلى انخفاض حادّ في أعدادها. بَيد أنّ الموالد لم تنتهِ، بل استمرّت متجذّرة في المخيّلة العامّة. وكثيراً ما كان منظّمو “الفنّ ميدان” يذكرون هذه الموالد كمثال على الفعاليّات التي مكّنت الجماهير من شغل الساحات العامّة.

وكلمة “ميدان” تحمل معاني مثل المنصّة، والساحة. وترجمتها إلى “المجال العمومي” ليست صحيحة تماماً في السياق القاهريّ، وفقاً للمؤرّخ الحضَري نزار الصيّاد، اذ لا يعتقد أنّ هذا المعنى يقابل حقّاً مفهومَ “المجال العمومي”، public sphere، عند الفيلسوف الألمانيّ المعاصر يورغن هابرماس، وهو مفهوم لا ترجمة دقيقة له في اللغة العربيّة. لذا، بشكلٍ ما، أعتقد أنّ مصطلح “ميدان” كان دائماً هو أنسب مصطلح يُمكن استخدامه.

ويوضح الصيّاد أنّ مصطلح “الميدان” هنا ليس حيّزاً مادّيّاً، “بل هو مفهوم تغيَّر مع مرور الوقت في السياق المصريّ، لا سيّما كما هو واضح في الحالة القاهريّة”. ومن بين هذه المظاهر، الاحتجاجات السابقة، مثل ثورة 1919، فضلاً عن تشييع جنازات شخصيّات عامّة من ميدان التحرير مثل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والمغنّية الشهيرة أمّ كلثوم. مضيفاً “أعتقد أنّ مفهوم الميدان نشأ مع الوقت. وقد استغرق الأمر وقتاً حتّى تبلور المفهوم في عقول المصريين وفي استخدامهم الحيّز المادّيّ”.

انطلقت أولى فعاليّات “الفنّ ميدان” في نيسان/ أبريل 2011، ونظّمتها مجموعة متنوّعة من الفنّانين والنشطاء من مختلف الخلفيّات. وقد تعمّد المنظّمون اختيارَ ميدان عابدين العريق بالقاهرة ليشهد تلك الفعاليّات في أوّل يوم سبت من كلّ شهر، بدلاً من ميدان التحرير حتّى لا يكون هناك أيّ تعارض مع الاحتجاجات التي كانت تحصل عادةً في ميدان التحرير أيّام الجمعة وحتّى لا يحدث تشويش عليها. في قمّة نشاطه، أقيمت فعاليّات مهرجان “الفنّ ميدان” -الذي كان يُموّل بالكامل من خلال التبرّعات الخاصّة- في أكثر من 18 محافظة مصريّة، وشارك في تلك الفعاليّات أكثر من 150 فنّاناً في حفلات مباشرة أمام جمهور يزيد على 4 آلاف شخص. شملت الأنشطة الكثير من العروض المباشرة والمناقشات العامّة والمعارض الفنّيّة وعروض الأفلام القصيرة ومعارض الكتب. 

واجه المنظّمون عقبات عدة، بما في ذلك نقص التمويل. بَيد أنّ اعتماد قانون التظاهر لعام 2014 -الذي جعل من الصعب على مثل هذه الفعاليّات العامّة الحصول على التصاريح اللازمة لعَقدها- هو ما أدّى إلى انهيار المهرجان تماماً، ليتوقّف نهائياً عام 2014.

تضييق واعتقال

مع العقبات التي فرضتها السلطات المصريّة بعد عام 2014، كان الأمل ما زال باقياً لدى فنّانين قلائل اعتقدوا أنّ باستطاعتهم تقديم فنونهم. ولم تتبدّد آخر هذه الآمال حتّى عامي 2016 و2017؛ بالتزامن مع إلقاء القبض على أعضاء فرقة “أطفال الشوارع” الغنائيّة الساخرة، وسُجِنوا بتهمة إهانة السلطات، ما يعكس مدى القمع الذي يمارسه النظام ضدّ استخدام الساحات العامّة.

في البداية، أسس 6 طلّاب التقوا في “جمعيّة النهضة العلميّة والثقافيّة” الجيزويت فرقة “أطفال الشوارع” وطافوا محافظات مصر لتقديم عروضهم. جمع هؤلاء الفنّانون الشباب البارعون في أمور التكنولوجيا، وتتراوح أعمار معظمهم ما بين 19 و25 سنة، بين الساحات العامّة والافتراضيّة، من خلال تصوير عروض الشوارع التي قدّموها ونشرها في فيديوهات قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ وقد وجدوا أنّ هذا من شأنه أنْ يُتيح لمحتواهم الوصول إلى شريحة أكبر من الجمهور. كانت فكرة بسيطة أثبتَت في ما بعد أنّها بالغة القوّة؛ وكان ذلك، وفقاً لتحليل الخبراء، أخطرَ ما يُمكن لفنّان الشارع فعله في مصر تحت حكم عبد الفتّاح السيسي.

قال أحد أعضاء الفرقة، في منشور على “تويتر” في أيار/ مايو 2016، “إحنا الستّة مطلوبين… خمسة هربانين، وأصغر واحد فينا واللي عنده [مرض] السكّر مقبوض عليه”. وشملت الاتّهامات الموجّهة إليهم: التحريض على التظاهر، ونشر مقاطع فيديو على شبكة الإنترنت تحوي إساءة لمؤسّسات الدولة. وعندما قُبِض عليهم في أيار 2016، ظلّوا رهن الاحتجاز قبل المحاكمة لأربعة أشهر إلى أنْ صدَر في حقّهم حكمٌ بالحبس لمدّة أربع سنوات، في حين أمضى أحدهم سنتين في السجن، ثمّ وُضِع تحت المراقبة لمدّة سنتين أُخريين.

بعد إطلاق سراحهم، بدأوا تقديم عروض كوميديّة على خشبات المسارح التقليديّة من دون التطرّق لأيّ موضوعات سياسيّة.

عروض الشارع الآن

آخر العروض التي قدمت في الشارع تعود إلى عام 2017. اليوم، بحسب حلمي “مافيش مجال عام مفتوح، في بس صوت واحد موجود”، يقصد صوت النظام. صبحي يحاول تفسير سبب التوقف عن تقديم العروض: “الفكرة ان المساحات العامة في مصر، نقدر نقول آخر أربع سنين عليها تضييق كبير جداً، تضييق أمني كبير جداً. ودلوقتي الوضع أصعب كمان لأنه اقتصادياً كمان في مشكلة. يمكن كمان الفنانين مبقاش عندهم نفس الشغف بتاع الأول انهم ينزلوا ويعملوا حاجات في الشارع وكدة. كل دي أسباب خلتنا نوقف شوية شغلنا لغاية ما نشوف الدنيا فيها ايه”.

وعند سؤاله عمّا إذا كان يعرف أيّ شخص ما زال يقدّم عروض الشوارع في الوقت الحاضر، يصمت حلمي محاولاً أنْ يتذكر أيّ اسم، ولكنْ بلا جدوى. هناك أسباب مختلفة لذلك، يفنّدها: “نضبت مصادر التمويل المهتمّة بالأنشطة الثقافيّة أو توقّفت إمدادتها. وبعدما أصابهم الإحباط، اختفى الحافز الذي دفع الفنّانين ذات يوم إلى إطلاق مبادرات شخصيّة”. ثم يؤكد أنّ العقبة الرئيسيّة التي قيّدت من قدرة هؤلاء الفنّانين على الانتقال في الساحات العامّة هي بدء العمل بقانون التظاهر عام 2014. فمن دون الحصول على تصريح للتظاهر، يُمكن اعتقال أيّ شخص: “ستجد أحكاماً بحق ناس بسنوات طويلة، سنة على الاقل، او أربع سنين لمجرد أن الشخص كان في الشارع مع آخرين. ماذا كان يقول؟ لا يهم. يتظاهر أو يطالب بحق ما؟ لا فرق. أي تحرّك في الشارع ممنوع أصلاً. الفضاء العام مقفل أصلاً”.

“مافيش مجال عام مفتوح، في بس صوت واحد موجود”

جذور عميقة

لعلّ الحكومة نجحت في إسكات مثل هذه المبادرات بإغلاق الساحات العامّة، ولكنّ هذا لا يعني نهاية مسرح الشارع في مصر.

يعتقد الشاعر زين العابدين فؤاد أنّ هناك عامل الاستمراريّة، وهو ضروريّ لفهم الثورة التي شهدتها فنون الشارع في ميدان التحرير عام 2011، والتي لم يأتِ أيٌّ منها من العدم، بل كانت سبباً في إحياء بعض التقاليد القديمة، مثل الموالد المذكورة آنفاً: “ابتدى يتقال شعارات زي “علّي الصوت، علّي الصوت، الي هيهتف مش هيموت”، الشعار ده والي كان بيجمع الناس من البيوت عشان ينزلوا الميادين، الشعار دا مش جديد بس الجديد انه ازاي ظهر واتحوكوا الناس بيه. الشعار ده انا كتبته في فبراير (شباط) 1968 لما خرجنا من كلية الهندسة في مظاهرات. وبقينا نقوله وحنا خارجين من الكلية الى ان وصلنا لميدان التحرير. الشعار ده اتقال في 1968 واتنسى واتقال تاني في 1972 واتنسى واتقال في 1977 واتنسى. وفجأة لما حركة “كفاية” ابتدت استخدموه. ليه لان كان في حد متصل من 1972 وموجود في “كفاية” وموجود في 2011. ففي هنا عنصر الاستمرارية”.

على رغم عدم إمكان التنبّؤ بكيفيّة تأثير الإجراءات الصارمة الحاليّة على مستقبل مسرح الشارع، يعتقد من قابلناهم أنّ من المستبعد أنْ يزول هذا الشكل الفنّي من الوجود في مصر؛ يقول صبحي: “لا أظن أن فن الشارع سينتهي في مصر أو أي مكان آخر، لأنه فن أصيل. بقدر ما يتعرض للتضييق والخنق، لا بدّ أنه سيخرج من مكان آخر بأسلوب جديد وشكلٍ آخر. في النهاية الشارع مفتوح للجميع”.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.