fbpx

“النوستالجيا”: آفة الحنين إلى الزمن المتخيّل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الصورة المتعالية التي تخلقها هذه الأشكال الثقافيّة عن الماضي، وانحدارنا كلما ابتعدنا من هذه الصورة، تُحول المنتجات إلى أدوات لتمكين الطاعة، والعجز عن التغيير الآني، وكأن التاريخ يستحيل كلما ابتعدنا منه

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُناقش ميلان كونديرا في الصفحات الأولى من رواية “الجهل” مفهوم “النوستالجيا”، كألم سببه الفراق والبعد، وضمن مجموعة اللغات الأوروبيّة، التي يحاول خلالها فهم مصدر الكلمة، يصل إلى تعريف بسيط وهو أن النوستالجيا هي “ألم الجهل”. وكأنه يشير إلى وجع مزمن سببه غياب المعرفة، والذي يُستدعى عبر تلويحات وإشارات محددة. هذه النزعة النوستالجيّة، تحضر ضمن المنتجات الثقافيّة وخصائصها السياسيّة، بوصفها تتبنى “أسلوباً” يشير ويلوح إلى ذاك المجهول، وتستدعي “العاطفة” التي تحيل إلى السكون، إلى لحظة تاريخيّة ثابتة مجهولة، تغنيها المخيلة مع مرور الزمن.

تتجلى أول ملامح هذه النزعة إلى الماضي، عبر حملة “#دراما_ونص”، التي أطلقها موقع ET Syria، والتي تهدف بحسب تصريحات أحد مؤسسي الموقع إلى “استقطاب الفنيين والفنانين السوريين العاملين خارج البلاد والعودة إلى الدراما السورية الخالصة، وتقديم صورة راقية عن المجتمع السوري”. كما يتبنى عدد من الهاشتاغات واحد منها، هو “#حلوة_ لو_ تشبهنا”: “للتذكير بماضي الدراما السورية العريق من خلال أعمال درامية لاقت نجاحاً وتقبلاً وصدى واسعاً في سوريا والوطن العربي، والحثّ على إنتاج أعمال ترقى بالمشاهد وتحترم عقله ومجتمعه”.

هذه الحملة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، والنصوص المرتبطة بها، لا ترى في الدراما صناعة ثقافيّة سياسيّة، بل تعتبرها شكلاً جمالياً وفنياً، لا بد من الارتقاء به ودفعه نحو استعادة “ألقه”، من منطلق جماليّ ماضويّ لا تتضح معالمه، والاعتماد على إحالات وخطابات عن “الزمن الجميل”، وما يحمله من نفي للحاضر، الذي لا يرتقي إلى ذلك الزمن و”حِرفته”، إلى جانب حنين إلى “المعلمين الأوائل” أو محترفي الصنعة، في تجاهل كليّ لحقيقة، أن تلك المنتجات “حينها”، هي أيضاً، وليدة سياسات الرقابة وتقديم الطاعة ذاتها، وكأن ذاك الزمن المتخيّل خالٍ من الرداءة والقمع والتعسف، بل يمثل لحظة تاريخيّة مثاليّة، ذات خصائص جماليّة “أصيلة” لا يمكن تكرارها، أو تكرار شروطها.

اقرأ أيضاً: دراما رمضان: أن نشاهد بعين القاتل

هذه النزعة الأسلوبيّة والمجازية نحو الماضي، تختزن داخلها وضعية تاريخيّة متخيّلة، فبعض المنتجات الثقافية ليست “تأريخاً وثائقياً”، بل تخييل للتاريخ، ولزمنٍ كان كل شيء فيه دقيقاً ومحدداً، زمن كانت القواعد والقوانين فيه تُطبق وتحترم، كما في مسلسل “هارون الرشيد” إخراج عبد الباري أبو الخير، إذ نشاهد تلفيقاً جمالياً، يستبدل التاريخ وعلاقاته، بأشكال أشد “تماسكاً”، موظفاً ما هو “آني وشعبي” إلى جانب “التاريخيّ الراقي”، لخلق الإحساس بهيبة الماضي وقيمه. يفعل ذلك حتى لو كان هناك تجاهل للدقة التاريخيّة، كأن يحضر  في المسلسل الذي تدور أحداثه في القرن الثامن الميلادي، بيت شعر للمصري هشام الجخ. وبذلك تمزج الجهود الإنتاجية والأدائيّة المبذولة، الأشكال الفنيّة والسرديّة المختلفة، لتكوين بطل تاريخيّ أو زعيم، قادر على إحلال الأمن والنظام، بعد الفشل في تحقيق ذلك “الآن/ هنا”، ليبدو التاريخ، لا تاريخياً، عصياً على الاستعادة، هو منظومة متعالية، محاطة بهالة أسطوريّة، لا يمكن سوى تأمّلها والاعتبار منها.

تبرز في السياق ذاته إشكالية أخرى، مرتبطة بالحس الذاتي بالماضي، بوعينا أنه لن يتكرر، وأنه زمنيّ، فالصورة المتعالية التي تخلقها هذه الأشكال الثقافيّة عن الماضي، وانحدارنا كلما ابتعدنا من هذه الصورة، تُحول المنتجات إلى أدوات لتمكين الطاعة، والعجز عن التغيير الآني، وكأن التاريخ يستحيل كلما ابتعدنا منه، ولا داعي لبذل “الجهد” الآن، كون الشروط لم تعد كما هي سابقاً، هي الآن مائعة وعدوانيّة، في حين أن الماضي “مقدسّ” وفائق المثاليّة، ما يجعلهُ مُنتَجاً يُوظف أداتياً، لخلق الطاعة ضمن الشروط الحاليّة.

تحضر النوستالجيا بشكل آخر، عبر الـ Cynicism ،أو السخريّة من أشكال الماضي وحكاياته، وهذا ما نراه في مسلسل “الواق واق” إخراج الليث حجّو، فكل شخصيةٍ تحمل تاريخاً نمطياً مفبركاً، لا تتحرك خارجه، كما أنها تتحدث بصورة كاريكاتوريّة، مُضخمة العيوب والخصائص. هذه الشخصيات وإثر غرق السفينة التي كانت تحملها “بعيداً”، تجد نفسها في اللامكان أو no man’s land. سياسياً، هذا الفضاء سابق لوجود الدولة، أو ينتج في مساحات الحروب، حيث لا قواعد ليتم اتباعها، والفرد عرضة لاحتمالات العنف المباشر، إثر غياب “النظام”. وكأن التاريخ “الساخر” لكل من الشخصيات، وسعيها إلى الهرب بعيداً، دفعها نحو مساحة يغيب فيها النظام كلياً، لنشاهد جهودها لتشكيل عقد اجتماعيّ، في سخرية من مفهوم الدولة “الآن”، وسط حنينٍ إلى زمن من السكون واللاسلطة، زمنٍ آناركيّ ينتمي إلى الماضي البعيد. الأهم، أن هذا التاريخ الساخر للشخصيات، يتركها أسيرة الماضي القريب، حيث كان كل واحد “ناجحاً” و”منتجاً” أو ذا دور محدد، لكنه يتحول إلى أضحوكة في “اللامكان”، حيث تختلط الأدوار، كما في شخصيتي “الضابط والمجرم” المقيدين معاً، واللذين تتداخل شخصياتهما فلا نعرف حقيقتهما. أيهما المطلوب للعدالة، وأيهما ضابط الأمن، في إحالة إلى هشاشة “الأدوار القريبة” السابقة على الغرق في البحر.

مع ذلك، النزعة نحو “اللادلالة”، تخلق نوعاً من الفصام، فحتى في اللامكان، الماضي هو ما يتحكم بالشخصيات، ما يتركها أسيرة التصوّر “القديم”، حين كانت إحداها مغنية أوبرا والأخرى طبّاخاً والثانية جنرالاً. هذا الماضي المتخيّل، لا نعلم ما الذي “زعزعه”، بل نشاهد فقط مجموعة من الأنماط المستنسخة والمعلّبة، وشخصيات تحمل ذكريات مؤلمة، تلوّح لزمن كانت فيه السلطة قائمة وفعّالة، حتى لحظة الانهيار التي دفعت الشخصيات نحو اللامكان.

اقرأ أيضاً: “وهم “الدراما الرمضانية: تعميم ثقافة طاعة السلطة

الشكل الآخر من انقطاع سلسلة المعاني والفصام المرتبط بها، يتمثل بمسلسل “وحدن” إخراج نجدت أنزور، والذي تدور أحداثه في قرية بلا أي ملامح، اختفى الرجال منها. بعيداً من الرداءة الفنيّة، والبروباغندا السياسيّة الواضحة، والأخطاء المرتبطة بالديانات التي تؤمن بها الشخصيات، يعمد المسلسل إلى إبراز الصراعات الطائفيّة، بوصفها أساس كل المشكلات، ويحيل دوماً إلى “زمن جميل” يعيش فيه الجميع في “تناغم وسلام”، لتبدأ المشكلات بتعكير صفو هذا المجتمع/ القرية المتخيّلة. آفة الحنين هنا، تحضر عبر الإحالة إلى العنف التأسيسي المرتبط بآنية نظام حكم، وفي حالة سوريا هو موضوعة الأقليات، التي تحضر ضمن النصوص والمؤسسات التي تخلق شكل الدولة الحاليّة، فموضوعة الأقليّة، تعود إلى زمن تأسيس الدولة، حيث يتجلى سيادياً الاختلاف والتمايز بين “الأكثرية” و”الأقليّة”، لتكون الدولة مصممة لحماية الأقليات، وتهديدها يهدد الدولة ذاتها. وهذا ما يتضح في المسلسل عبر الدعوات للانضمام إلى الجيش والدفاع عن “الوطن”، فالمسلسل يعيد تقديم لحظة تأسيسية والعنف المرتبط بها، الذي “تَختلف” إثره المكونات الاجتماعيّة، وتنشأ التصنيفات بين “نحن المتناغمين” و”الآخرين الأعداء”، على أساس طائفي وديني بحت. هذا البناء الماضويّ المتخيّل، يخلق شروطاً وهميةً مصممة بحيث يبدو التجانس، صفة جوهرية في المجتمع، ولا بد من العنف ضد من يهدده من “الآخرين”.