fbpx

“كيف حالك؟” : حين يواجه المعالج مريضه في مدينة مثل بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما يسأل المرضى: “كيف حالك”؟ لا أدري: لأي درجة أعبر لهم عن مشاعر الأسى المماثلة لتلك التي تنتابهم، ولأي درجة علي أن أبدو صامدة ومتماسكة؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يناسب وضع مدينة بيروت تخصصي جيداً، خصوصاً مع بركان الحرب الأهلية الخامد والذي قد ينفجر في أيّة لحظة، وصخب الأزمات الذي تترنح المدينة وسطه. لكن عام 2020 شهد كارثة مالية وسياسية وعاطفية وجسمانية مهولة لم يسبق لها مثيل. وبالنسبة لي بوصفي أخصائية نفسية، زخر هذا العام بكمٍ هائلٍ لا يُحصى من المعاناة الفظيعة وغير المبررة التي شهدتها عن كثب وغمرتني بالاضطراب، لكنني مع ذلك لم أكن مستعدة أبداً، سواء باعتباري أخصائية نفسية أو مواطنة عادية، لانفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي.

رغم أن العام انقضى، فإن لا شيء يبدو طبيعياً في الاستيقاظ وسط هذه المدينة التي نجا سكانها الباقون بأعجوبة ومات الراحلون جراء كابوسٍ مروع، جعل كل من فيها يعانون مما يشبه اضطراب الغربة عن الواقع وتبدد الشخصية. 

لا يزال المرضى يشعرون أنهم أشباح، وقد سئموا من التحدث عن منازلهم التي تحولت إلى أطلال، ومحالهم واستثماراتهم التي أصبحت حطام، عن الصمت العميق في بيوت كانت تعج بالحياة، ومدى وطأة هذا الصمت الآن، في هذا الوقت تحديداً من العام. حتى الآن لا يستطيعون المضي قدماً في حياتهم. فهم يتخبطون في العشوائية بحثاً عن أنماطٍ ومسالك لا وجود لها، كأن يحاولوا العودة بالزمن لإنقاذ أحد أحبائهم وسحبه بضعة إنشات فقط إلى بر الأمان. 

حين يسأل المرضى: “كيف حالكِ؟”. وماذا ستفعلين؟”. يحاول المعالج المواطن الإجابة، فأرد قائلةً: “أنا حزينة وغاضبة، أكثر مما كنت أتخيل، وسأظل هنا، ما دام ذلك ممكناً. إذ إن العمل معكم هو ترياق يداوي ذاك التشتت الذي تسبب فيه الانفجار والذي ألمّ بالمدينة والنفس وعصف بنا جميعاً، وأريد أن أبني وطناً معكم”

يتحدثون عن الرحيل، بعضهم يقصد الرحيل عن لبنان، والبعض الآخر يعني الرحيل عن الحياة بأسرها. حتى من هاجروا، لا تزال أرواحهم عالقة هنا، في فخ المفاوضات الوجودية. 

يسألني المرضى: “هل سترحلين؟” ويقصدون بذلك: هل سيتسبب الانفجار في رحيلك أنت أيضاً؟

فقد رحل كثيرٌ من المختصين، ومن الأطباء، ومن الأصدقاء وأفراد الأسرة. باتت كل البيوت كالأعشاشِ الخاوية. تسبب الاستنزاف البشري الذي أعقب الرابع من أغسطس/آب في حدوث موجة ثانية لا نهائية من الحداد. “لا أريد أن أطرح أسئلة شخصية، ولكن… ” ما مدى متانة الحيز الذي نتشاركه؟ هل يجب أن أضيفكِ إلى قائمة أحزاني؟

لا تتضمن أطر العمل التي يسترشد بها المعالج، والتي تحدد له القدر الذي يفصح به عن ذاته، مثل هذه الظروف. علاوة على ذلك، فإن السؤال ليس موجها لشخص المعالج فحسب، بل وأيضاً للمعالج بوصفه شريك في الوطن.

أعتقد أنني لا أعرف ما يجب عليّ فعله. كل من يرحلون هم أشخاص مهمون ولا يجب أن يرحلوا، والأعداد التي يرحلون بها تصيبني بالاختناق. هذه الأخت، وهذا الجار، وذاك الزميل،… كلهم يعنون لي الكثير! أريد أن أصرخ في الطائرات التي تحملهم بعيداً. لكنني أبكي عوضاً عن ذلك. لن يعالج الرحيل ألمي، لهذا أقوم بتجديد مكتبي. 

أوشكت على الاعتراف: تُرى، وبينما نتوغل في خطط حياتك، هل سأضيفك إلى قائمة أحزاني؟ فأنا أيضاً أخشى الخسارة.

بيد أن العمل يسبب الكثير من المعاناة. إذ إن أحد الأعراض الشائعة لاضطراب ما بعد الصدمة هو أن تشعر أنك تمر بالتجربة مجدداً: في صورة أفكار أو مشاهد أو مشاعر أو أحاسيس أو كوابيس دخيلة. وكما هو واضح، يمكن أن يكون ذلك أيضاً في صورة تقديم استشارات نفسية. إضافةً إلى الطريقة التي عايشت الحدث من خلالها بنفسي، فإنني أسترجعه من جديد بطرق شتى مختلفة عايشها المرضى الذين شهدوا الحدث، وبطرق شتى مختلفة أخرى هم أنفسهم يعيدون تجربتها مجدداً. يبدو الأمر وكأنه بيت مرايا تتكرر فيه الانفجارات بلا نهاية.

إقرأوا أيضاً:

 هل سبق لك أن أصبت شخصاً في رأسه بمسدس؟ لقد فعلت ذلك ليلة الثلاثاء الحزين. عندما وضع أحد الأطباء في يدي دباسة كبيرة للأغراض الصناعية تشبه المسدس. إذ لم يكن بوسعهم التعامل مع كل هذه الأجسام المصابة، لذا تجولت في كافة أرجاء غرفة الطوارئ، كل ما أقوم به حرفياً هو تدبيس الجروح في رؤوس المصابين. وبينما كنت أقوم بذلك، سألتني امرأة بعد أن أزالت ضِمادة غارقة بالدماء من على عينيها، “ما مدى سوء الإصابة؟”، فأجبتها “هل يُمكنكِ الرؤية بالعين الأخرى؟”، فقالت: “نعم” فطمأنتها قائلةً، “ستكونين بخير” – كانت هذه هي إحدى الطرق لإخبار شخص ما بأن مقلة عينيه قد انفجرت.

 عندما كنت أخلد إلى النوم. كنت أجد نفسي فجأة بالقرب من الباب، مرتدية ملابسي بالكامل، وأحمل هاتفي في يدي، وأشعر بقدر كبير من التوتر والانفعال بسبب فورة الأدرينالين، وعلى أهبة الاستعداد للهرب. لم أكن أتذكر حتى بأنني استيقظت من النوم. ولذا أهدئ من روعي، وأغير ملابسي وأعود إلى السرير وأخلد إلى النوم. وفجأة أجد نفسي أمام الباب مرة أخرى، مرتدية ملابسي بالكامل، وعلى أهبة الاستعداد للهرب، فأُهدئ من روعي ثانيةً، وأغير ملابسي وأعود إلى السرير. وفجأة أجد نفسي أقف أمام الباب مجدداً.

كنت بالقرب من المرفأ حين ارتطم ضغط الانفجار بالسيارة، وعندما استعدت توازني وعرفت أين أنا، أدركت أن جميع من حولي قد لقوا حتفهم. وأنني عالقةً في زحام مروري لن ينفرج مرة أخرى أبداً.

رحل كثيرٌ من المختصين، ومن الأطباء، ومن الأصدقاء وأفراد الأسرة. باتت كل البيوت كالأعشاشِ الخاوية. تسبب الاستنزاف البشري الذي أعقب الرابع من أغسطس/آب في حدوث موجة ثانية لا نهائية من الحداد.

إنه لشرف جائر أن أكون المدونة للمذكرات الجماعية حول تلك الكارثة. فقد صرت أعاني من صداع توتري يأبى أن يفارق رأسي، نتيجة الضغط العاطفي. لذا، فعندما يسأل المرضى: “كيف حالك”؟ لا أدري: لأي درجة أعبر لهم عن مشاعر الأسى المماثلة لتلك التي تنتابهم، ولأي درجة علي أن أبدو صامدة ومتماسكة؟

 بطبيعة الحال، تبدو العلاقة بين المعالج النفسي والمريض غير متبادلة، بيد أنه لا شيء يُمكن أن يجعلهما على قدم المساواة أفضل من وقوع انفجار أدى إلى تدمير مساحات واسعة من المدينة التي يعيش فيها كلاً من المعالج والمريض. ثمة صدمة وجودية مشتركة ومستمرة لا بد من الاعتراف بها. ورغم أنه من الممكن أن تدنو منهم لأنك مررت بنفس التجربة وشعرت بنفس الأحاسيس، فلا بد ألا تتجاوز الحد. فأنا حريصةً على ألا أكمل العبارات والجمل التي يقولها المرضى: فبالرغم من أن المعاناة مشتركة، فإنهم يفصحون في تلك اللحظة عن معاناتهم ومشاعرهم الخاصة. وثمة أماكن أخرى تتلاشى فيها الحدود.

في الحقيقة، قد لا تكون العيادة هي الحيز الوحيد المشترك بين المعالج النفسي والمريض، وكذلك الانفجار ليس الواقع الوحيد المؤلم المشترك بينهما. وإذا علّمتنا العقود البائدة، نحن اللبنانيين، أن نتعايش مع ذلك الشعور بالكارثة الذي لا يخمد إلا عبر الزمن الذي يعني دوام التعرض للكوارث، فقد كان العام الماضي حاداً بشكل بالغ. وقد أدت مثل هذه الاضطرابات إلى اندلاع الاحتجاجات الطّائفية المتكرّرة. وهنا كثيراً ما يلتقي المعالج المواطن مع المريض المواطن، بوصفهما شركاء في الوطن، حيث تتوهج القلوب وتتحرق شوقاً بنفس القدر لتوقد جذوة أمل.

 أنا أيضاً أتوق للأمل.

يرحل عام 2020 تاركاً ورائه الأخصائي النفسي والمريض كلاهما في حاجة إلى التعافي، ورغم ذلك فأنا سعيدة الحظ. فقد جاء الرزق، في هذا العام العصيب، في صورة علاقات وروابط صادقة، ومهنتي تتيح لي تكوين الكثير منها. فضلاً عن أن العمل عند ملتقى طرق هذا القدر الكبير من الألم يقدم لنا صورة ذهنية للصمود الذي يتمتع به قلب الإنسان. فقد أصبح قلبي أشد قوة وأكثر تفاؤلاً بسبب المعرفة والإعجاب بالمعجزات الجوهرية التي يتمتع بها شركائي في الوطن المميزين.

لذا فحين يسأل المرضى: “كيف حالكِ؟”. وماذا ستفعلين؟”. يحاول المعالج المواطن الإجابة، فأرد قائلةً: “أنا حزينة وغاضبة، أكثر مما كنت أتخيل، وسأظل هنا، ما دام ذلك ممكناً. إذ إن العمل معكم هو ترياق يداوي ذاك التشتت الذي تسبب فيه الانفجار والذي ألمّ بالمدينة والنفس وعصف بنا جميعاً، وأريد أن أبني وطناً معكم”.

إقرأوا أيضاً:

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…