fbpx

ودائع اللبنانيين: هل تردّها إعادة رسملة المصارف؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من الواضح أن أزمة الودائع في النظام المصرفي في طريقها إلى مزيد من التعقيد خلال العام الحالي، من دون أن تشهد في القريب العاجل أي حلحلة على النحو الذي يبشّر به حاكم مصرف لبنان حاليّاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُفترض وفقاً لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن يعود الانتظام إلى العمل المصرفي في لبنان إبتداءً من شهر آذار/ مارس 2021، في إشارة إلى عمليّة إعادة الرسملة المطلوبة من القطاع المصرفي، التي كان يجب أن تنجزها المصارف قبل رأس السنة الماضية. مع العلم أن الحاكم نفسه أشار في مقابلات أخرى إلى أن المصارف التي تفشل في الامتثال لمتطلبات إعادة الرسملة، وفقاً للخطة التي أعدها، يجب أن تخرج من السوق بحلول نهاية شباط/ فبراير المقبل، وهو ما يبرر وضع شهر آذار كمحطة مفصليّة تستعيد فيها المصارف دورها وعملها الطبيعي، مع ما يعنيه هذا الأمر من عودة الودائع للبنانيين. 

عمليّاً، تقوم إعادة الرسملة على فكرة لجوء أصحاب المصارف إلى زيادة رساميلهم داخل المصارف أنفسها، من موجوداتهم أو أموالهم الخاصّة، لزيادة قدرة المصارف على استيعاب الخسائر التي ألمّت بميزانياتها، ولتزويدها السيولة المطلوبة للقيام بأدورها التقليديّة. وقد وضع بالفعل مصرف لبنان مجموعة من الشروط في تعاميم مختلفة، محاولاً إعطاء الانطباع بأن هذا المسار كفيل بحل مشكلة القطاع المالي. أهم ما في تعاميم المصرف المركزي، كان طلب زيادة رساميل المصارف (أي مساهمات أصحابها)، بنسبة 20 في المئة، إضافة إلى تكوين أموال في حسابات المصارف الخارجيّة، أي لدى المصارف المراسلة، بنسبة 3 في المئة من إجمالي الودائع. 

لكن وبمعزل عن وعود حاكم مصرف لبنان، تكفي مراجعة بسيطة لحجم الخسائر الموجودة حاليّاً في القطاع المالي وطبيعتها، ليدرك المرء أن مسألة استعادة الودائع –أو إعادة تكوينها- أكثر تعقيداً من أن تحل بالتعاميم الأخيرة التي وضعها مصرف لبنان لإعادة الرسملة. كما تكفي مراجعة بسيطة للتعاميم نفسها ليدرك المرء أيضاً أن هذه التعاميم لن تساهم فعليّاً في أي إعادة رسملة حقيقة، بل ستكون أقرب إلى عمليّات محاسبيّة شكليّة لن تسمن ولن تغني من جوع. أما الأهم، فهو نتيجة هذه التعاميم التي ستضر أصحاب الودائع أكثر مما ستفيدهم، بدلالة الخطوات التي اتخذتها المصارف أخيراً. باختصار، أزمة الودائع مستمرّة، وستتفاقم. 

أهم ما في تعاميم المصرف المركزي، كان طلب زيادة رساميل المصارف بنسبة 20 في المئة. 

حجم الخسائر الحقيقي

حين نتحدّث عن تعثّر القطاع المصرفي، وعدم قدرته على إيفاء التزاماته للمودعين، فنحن نتحدّث تحديداً عن الودائع المقوّمة بالعملات الصعبة. فمصرف لبنان يملك القدرة على خلق النقد لسداد التزامته للمصارف بالليرة اللبنانيّة، كما يملك القدرة على تسليف الدولة بالليرة اللبنانيّة أيضاً لسداد التزاماتها للمصارف المقوّمة بالليرة أيضاً، وهو يقوم بهذه المسألة حاليّاً مع بعض القيود الصارمة لضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، لمنع المزيد من التهاوي السريع في سعر الصرف. لذلك، لا تعاني المصارف اليوم مشكلة في سداد التزاماتها لأصحاب الودائع بالليرة، ولو وفق قيود معيّنة، فيما تكمن المشكلة الأساسيّة في الودائع المقوّمة بالعملات الصعبة، التي ترتبط مشكلتها بحجم توظيفات المصارف الكبير في المصرف المركزي تحديداً، والتي لا يملك المصرف المركزي القدرة اليوم على سدادها.

إذا أردنا فهم حجم هذه الخسائر بالعملة الصعبة أو قياسها، يكفي أن نعرف أن حجم الودائع المقوّمة بالعملات الأجنبيّة في القطاع المصرفي بلغ حتّى شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي مستوى الـ112.19 مليار دولار أميركي. تتوزّع هذه الودائع بين 87.09 مليار دولار أودعها المقيمون في المصارف اللبنانيّة، و25.1 مليار دولار أودعها غير المقيمين في المصارف.

وفي مقابل حجم الإلتزامات الضخم هذا بالعملة الصعبة، مازالت تملك المصارف من ناحية الموجودات بالعملات الأجنبيّة نحو 9.9 مليار دولار من التوظيفات في سندات اليوروبوند، أي سندات الدين السيادي المقوّمة بالعملة الصعبة التي تعثّرت الدولة في دفعها، والتي مازال مصيرها مرتبط بالمفاوضات مع الحكومة اللبنانيّة المجمّدة حاليّاً. كما تملك المصارف نحو 21.48 مليار دولار من القروض التي سلّفتها للقطاع الخاص، والتي يتم سداد غالبيّتها الساحقة حاليّاً بالليرة اللبنانيّة أو الشيكات المصرفيّة، فيما تتجاوز نسبة التعثّر في سداد هذه القروض مستوى 25 في المئة. وبذلك، لا تمثّل هذه القروض مصدر فعلي للدولار النقدي. أما موجودات المصارف الخارجيّة، أي حساباتها لدى المصارف المراسلة وإستثماراتها في الخارج، فيقابلها إلتزامات أخرى في الخارج أيضاً، فيما يسجّل صافي هذه الموجودات والإلتزامات عجزاً بقيمة 2.87 مليار دولار وفقاً لإحصاءات مصرف لبنان، ما يعني أن المصارف غير قادرة على الاعتماد على هذه الموجودات في الوقت الحاضر. 

إقرأوا أيضاً:

أما الجزء الأكبر من الموجودات المصرفيّة بالدولار الأميركي، فذهبت لدى مصرف لبنان، خصوصاً بعد أن تورّطت المصارف في هندسات المصرف المركزي الماليّة خلال السنوات الماضية، والتي هدفت لإمتصاص السيولة بالعملة الصعبة مقابل أرباح ضخمة. ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بالعملة الصعبة تتجاوز اليوم مستوى ال80 مليار دولار، فيما أنفق مصرف لبنان غالبيّة هذه السيولة خلال السنوات الماضية في عمليات الدفاع عن سعر الصرف، أو لتمويل الإستيراد. أمّا ما تبقى من هذه المليارات اليوم كإحتياطات لدى مصرف لبنان، فلا تتجاوز قيمته وفقاً لأرقام مصرف لبنان نفسه الـ19.85 مليار دولار، وذلك لغاية منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

بمعنى أخر، وفي مقابل إلتزامات المصارف للمودعين بالعملات الأجنبيّة، والتي تبلغ قيمتها 112.19 مليار دولار، لا تملك المصارف موجودات قابلة للتسييل للحصول على الدولار النقدي، بإستثناء ما تبقى لدى مصرف لبنان من توظيفاتها لديه، والتي تبلغ قيمتها 19.85 مليار دولار. مع العلم أن مصرف لبنان يمنع المصارف حاليّاً من استخدام هذه السيولة لكون الجزء الأكبر منها يمثّل احتياطات إلزاميّة لا يمكن المساس بها، فيما يستمر بالاعتماد على الجزء المتبقي من هذه السيولة لتمويل الاستيراد. وفي أي حال، يمكن القول إن نسبة السيولة المتبقية لدى مصرف لبنان، مقابل حجم الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة، لا تتجاوز الـ18 في المئة.

وبمعزل عن كل هذه المقاربات التي ترتكز على مقارنة حجم الودائع بحجم السيولة المتبقية، كانت شركة “لازارد” قدرت حجم الخسائر المتراكمة في القطاع المالي بأسره، الذي يشمل مصرف لبنان والمصارف التجاريّة معاً، بنحو 83 مليار دولار، قبل أن تطلب الدولة اللبنانيّة تعديل مقاربات الشركة ليتم قياس هذه الخسائر بالليرة اللبنانيّة.

إعادة رسملة هشّة

في مقابل حجم الخسائر الضخم هذا، لا يبدو أن عمليّة إعادة الرسملة التي يقوم بها مصرف لبنان قادرة على تقديم على أي حل جدّي. فرساميل المصارف حاليّاً بالكاد تبلغ قيمتها 18.82 مليار دولار، وزيادتها بنسبة 20 في المئة كما يطلب مصرف لبنان، لن تنفع في استقدام أكثر من 3.8 مليارات دولار، وهي قيمة صغيرة جدّاً قياساً بحجم الخسائر الموجودة حاليّاً. 

لكنّ هشاشة إعادة الرسملة التي يتحدث عنها مصرف لبنان لا تنطلق من حجمها فقط، بل من شكلها وأدواتها، بل والمناورات التي قام بها الحاكم نفسه لتفريغها من جوهرها. فالتعاميم تسمح للمصارف مثلاً بإعادة تقييم العقارات التي تملكها المصارف كجزء من موجوداتها، وتلك التي استحوذت عليها في الماضي من المقترضين مقابل القروض المتعثّرة، واستعمال الارتفاع في قيمة العقارات لتحقيق الزيادة المطلوبة في الرساميل. كما سمح المصرف لمساهمي المصارف بزيادة الرساميل من خلال تقديم عقارات، بدل تقديم أموال إضافيّة يمكن استعمالها في عمليات المصارف. وبذلك، سمح المصرف المركزي بتحقيق زيادة الرساميل من خلال عمليات دفتريّة ومحاسبيّة لا تحقق أي تغيير في سيولة المصارف وقدرتها على سداد التزاماتها للمودعين في المستقبل. مع العلم أن وضع القطاع العقاري لا يسمح اليوم باستعمال هذه العقارات لاحقاً لاستقدام أي سيولة جديدة للقطاع.

عمليّاً، كل ما ستقدّمه تعاميم مصرف لبنان لتحسين سيولة المصارف هو الشرط المتعلّق بتأمين سيولة للمصارف اللبنانيّة لدى المصارف المراسلة، بنسبة 3 في المئة من الودائع الموجودة لديها. وعلى ما يبدو، ستتمكن المصارف اللبنانيّة الكبرى من تحقيق هذا الشرط من خلال بيع أصولها الخارجيّة، المتمثّلة بفروعها المصرفيّة العاملة في الخارج. لكنّ تأمين هذه السيولة في المصارف المراسلة في الخارج، لن يوازيه أي شروط بخصوص طريقة إستعمال هذه السيولة، خصوصاً أن المصارف اللبنانيّة تعاني –كما ذكرنا- من عجز بقيمة 2.87 مليار دولار، نتيجة إلتزاماتها في الخارج لدى المصارف المراسلة. بمعنى آخر، من المرتقب أن تساهم هذه السيولة الجديدة في تحصين المصارف إتجاه إلتزاماتها الخارجيّة، لكنها لن تحمل أي جديد بالنسبة إلى أصحاب الودائع في لبنان. 

هل تتجاوب المصارف؟

في كل الحالات، وبمعزل عن التسهيلات التي قدمها مصرف لبنان للمصارف للامتثال لشروط إعادة الرسملة، وعلى رغم هشاشة هذا المسار بأسره قياساً بحجم الأزمة، لا يبدو أن معظم المصارف اللبنانيّة في طريقها للامتثال لشروط إعادة الرسملة التي وضعتها تعاميم المصرف المركزي. فمعظم المصارف لم تمتثل خلال الأشهر الماضية لاستحقاقات سابقة، من قبيل إعداد الخطط المطلوبة لزيادة الرساميل، أو إنجاز المرحلة الأولى من زيادة الرساميل، وهو ما يرفع من حظوظ عدم امتثال هذه المصارف لمهلة رأس السنة التي وضعها الحاكم لإنجاز الزيادة المطلوبة في الرساميل بشكل تام. أما السبب، فيعود بشكل أساسي إلى عدم رغبة المساهمين بتحمّل مخاطر إضافيّة قبل الدخول في مرحلة التفاوض مع الحكومة، ومعرفة النسبة التي ستتحمّلها المصارف من خسائر الأزمة.

قدرت شركة “لازارد” حجم الخسائر المتراكمة في القطاع المالي بأسره، الذي يشمل مصرف لبنان والمصارف التجاريّة معاً، بنحو 83 مليار دولار.

في الخلاصة، يبدو من الواضح أن أزمة الودائع في النظام المصرفي في طريقها إلى مزيد من التعقيد خلال العام الحالي، من دون أن تشهد في القريب العاجل أي حلحلة على النحو الذي يبشّر به حاكم مصرف لبنان حاليّاً. أما الطريق إلى عودة الانتظام إلى عمل النظام المصرفي، فلا بد أن تمر حكماً بخطة كاملة على مستوى الحكومة، تحدد الخسائر بالدرجة الأولى، وتحدد الطريقة العادلة لتوزيعها بالدرجة الثانية، على أن تكون عمليّة إعادة هيكلة المصارف وإعادة رسملتها مجرّد جزء من هذه الصورة الكاملة. أما اعتماد حاكم المصرف المركزي على الحلول المنفردة بمعزل عن أي خطة متكاملة من هذا النوع، فلن ينتج سوى مسارات هشّة غير قادرة على تقديم أي جديد لأصحاب الودائع.

إقرأوا أيضاً:

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…