fbpx

تونس: “امتلاك مسكن بات حلمنا”… الغلاء يهدد الطبقة الوسطى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لقد سرقوا منا مجرد أن نحلم بملكية منزل”… أصبح امتلاك مسكن بالنسبة إلى الموظف التونسي والمنتمين إلى الطبقة الوسطى عموماً، حلماً صعب المنال في ظل الارتفاع الكبير في أسعار العقارات مقارنة بمعدلات الدخل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقف نادية أمام بائع الأسماك في السوق المركزية في العاصمة التونسية، تمر بنظرها على الأسعار المعروضة أمامها. تطيل النظر وقد تغيرت تعابير وجهها التي بدت مستاءة ثم تنصرف من دون أن تشتري شيئاً، متذمرة من الأسعار المجحفة التي طاولت كل شيء، “لم يعد يحق لنا أن نشتهي أكل السمك في هذا البلد… أي وضع ساقونا إليه؟!”.    

ونادية مدرسة خمسينية تعيش مع زوجها الموظف الحكومي وأبنائهما الثلاثة (طلاب) في العاصمة ولم يعد الراتبان معاً يكفيان لتأمين متطلبات الحياة اليومية بسبب غلاء الأسعار. 

تقول لـ”درج”، “ليست المرة الأولى التي أقف فيها أمام الأسماك أو اللحوم وأخرج بحرقتي من دون أن أشتري شيئاً، فالأسعار الجنونية تجعلني أعيد حساباتي عشرات المرات. لا أدري ماذا حدث حتى تغيرت الأمور هكذا، لقد كنت وزوجي قبل سنوات نتصرف في راتب أحدنا وندخر الآخر، وكنا نستطيع دفع إيجار بيتنا وتأمين مصاريفنا. كنت أشتري السمك مرة كل أسبوع على الأقل، اليوم على رغم أننا تركنا عادة الادخار، وصرنا نستنزف الراتبين لتلبية حاجياتنا، إلا أننا لم نعد نستطيع تدبّر أمورنا. لم يعد بوسعنا اللحاق بركب أسعار إيجار المنازل التي تضاعفت بخاصة في العاصمة، ولا الخضر والسلع الضرورية التي تتضاعف أسعارها مرات عدة في سنة واحدة أما الأسماك واللحوم فباتت من الكماليات بعدما كانت جزءاً من عاداتنا الغذائية”.        

وكانت عائلة نادية تتطلع لتوفير القسط الأول الذي تفرض المصارف دفعه في البداية للحصول على قرض سكن، لكنها اليوم تخلت عن هذا الحلم، بعدما أنفقت كل ما ادخرته على مدى سنوات بسبب الغلاء، “لقد سرقوا منا مجرد أن نحلم بملكية منزل”.  

ونادية عيّنة من تونسيين كثر لم تعد رواتبهم الشهرية قادرة على مجاراة نسق ارتفاع الأسعار الذي طاول كل شيء، وفي مناسبات متتالية ومتقاربة من دون ضوابط أو رادع من الدولة، مع زيادات ضئيلة في الأجور أثبتت أنها لا تكفي لمسايرة تكاليف الحياة المرتفعة. إذ لم يعد بوسع أصحاب الدخل المتوسط تلبية حاجاتهم الأساسية من أكل وشرب وسكن وصحة وتعليم. وأصبح امتلاك مسكن بالنسبة إلى الموظف التونسي والمنتمين إلى الطبقة الوسطى عموماً، حلماً صعب المنال في ظل الارتفاع الكبير في أسعار العقارات مقارنة بمعدلات الدخل.

وعمق فايروس “كورونا” الذي ضرب البلاد كما بقية دول العالم أزمة الطبقة الوسطى الهشة في تونس وانهارت القدرة الشرائية في ظل ضعف الرقابة التي أتاحت للمضاربين التلاعب بالأسعار. وتسود مخاوف من أن يؤدي هذا الوضع إلى اندثار الطبقة الوسطى التي تآكلت تدريجاً، وبات جزء كبير منها يصنف ضمن الطبقة الفقيرة.

وتؤكد الجمعيات والمنظمات المهتمة بالحقوق الاجتماعية في تونس أن قدرة التونسيين الشرائية تتراجع 10 في المئة سنوياً، وأن الطبقة الوسطى هي الأكثر تأثراً بهذا الانخفاض. فبحسب معهد الإحصاء تسبب غلاء الأسعار في تراجع تصنيف هذه الطبقة ضمن تركيبة المجتمع التونسي من 80 إلى 50 في المئة، وانحدار 30 في المئة من الطبقة الوسطى إلى طبقة الفقراء منذ عام 2012. كما تشير تقديرات أخرى إلى أن مليون عائلة تونسية من المنتمين إلى الطبقة الوسطى باتوا عرضة للفقر.

وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الطبقات الوسطى تطورت في تونس مـن  70.6 في المئة عام 1995 إلى 77.6 في المئة عام 2000 وإلى 81.1 في المئة عام 2005، ثم 50 في المئة عام 2020.

وأكد هذه التقديرات رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي الذي أقر بأن التونسي لم يعد قادراً على مجابهة مستويات الغلاء التي تتخذ نهجاً تصاعدياً يحدث غالباً بشكل شهري، من دون سبب وجيه يبرر الارتفاع المفاجئ والسريع الذي يضرب هذه السلعة أو تلك. “ما يحصل أن المواطن يفاجأ في كل مرة بزيادة جديدة على رغم توفر السلع في الأسواق، وهو ما أدى إلى انهيار القدرة الشرائية بشكل تدريجي وتقهقر الطبقة الوسطى وانزلاقها إلى الفقر. وهذا ما تؤكده الإحصاءات الرسمية التي تفيد بأن نسبة الفقر في تونس كانت في بداية عام 2020 بحدود 15.5 في المئة وقد وصلت إلى 21 في المئة تقريباً.

وتعود أسباب هذا الوضع بحسب الرياحي إلى سيطرة المضاربين ولوبيات المال على السوق وعدم تحكم الدولة في هيكلة الأسعار عند الإنتاج وعند التوزيع والاستهلاك.

يوضح: “باتت الدولة لا تتدخل في فرض أسعار موحدة على المنتجين الذين يضعون الأسعار كما يحلو لهم ووفق هامش ربح يحددونه بأنفسهم وفق ما يتواءم مع مصالحهم. في المرحلة الثانية تمر السلع إلى تجار الجملة فيحددون بدورهم هامشا جديداً للربح يلبي أطماعهم ثم يأتي الدور على تجار التفصيل الذين لا يترددون أيضاً لوضع الأسعار التي تضمن لهم الربح المأمول. وبالتالي تصل السلع للمستهلك وقد تضاعف سعرها أربعة مرات منذ خروجها من عند المنتج”.

“ما يحصل أن المواطن يفاجأ في كل مرة بزيادة جديدة على رغم توفر السلع في الأسواق، وهو ما أدى إلى انهيار القدرة الشرائية بشكل تدريجي وتقهقر الطبقة الوسطى وانزلاقها إلى الفقر”.

وكان المعهد الوطني للإحصاء قد سجل ارتفاعاً لافتاً في المؤشر العام لأسعار المواد الغذائية خلال شهر بنسبة 4.3 في المئة، ويعود ذلك بالأساس إلى ارتفاع أسعار الخضر 11 في المئة وأسعار الغلال 4.9 في المئة وأسعار الحليب ومشتقاته والبيض بنسبة 4.9 في المئة، وارتفعت أسعار الأسماك 4.3 في المئة واللحوم 2.7 في المئة.

كما سجلت كل من أسعار خدمات المقاهـي والمطـاعم ارتفــاعاً بنسـبة 10.9 في المئة وأسعار خدمات الصحة بـ7.3 في المئة.

كما سجل المعهد الوطني للإحصاء ارتفاعاً في المؤشر العام لأسعار العقارات خلال الثلاثي الثالث من عام 2020 بنسبة 6.0 في المئة، وذلك مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2019. إذ سجلت أسـعار الشقـق ارتـفاعاً بنسبة 3.7 في المئة، وارتفعت  أسعار الأراضي المعدة للسكن 6.2 في المئة.

صابر مهندس في الأربعين ووالد لطفلين في السنوات الأولى من الدراسة، بات مثقلاً بالديون إذ لم يعد راتبه يكفي لتوفير لوازم بيته مع بعض الكماليات البسيطة لأطفاله، في ظل ارتفاع الأسعار، “لم نعد نتطلع إلى الكماليات إلا في مناسبات قليلة، غالباً ما أضطر خلالها إلى الاستدانة. لقد استنزفوا قدرتنا الشرائية في غضون سنوات معدودة”.

يتقاضى صابر راتباً شهرياً يفوق 1500 دينار شهرياً، يقتطع منه البنك 500 دينار لسداد قرض السكن الذي حصل عليه قبل اندلاع الثورة. وما تبقى يحاول التحكم فيه بمساعدة زوجته العاطلة من العمل بين مصاريف البيت ومتطلبات الطفلين في المدرسة.

88%

من التونسيين يعتبرون أن أجورهم لا تكفي لتلبية حاجات العائلة الواحدة لشهر كامل.

 يقول لـ”درج”، “1500 دينار كان راتباً محترماً قبل سنوات، حتى أنه أتاح لي الحصول على قرض مصرفي لشراء منزلي الخاص، وعلى رغم الاقتطاع الشهري لم أكن أضطر للاستدانة، وكنا نوفر الأساسيات والكماليات. اليوم ومع الارتفاع الصاروخي للأسعار التي طاولت كل المواد من دون استثناء لم يعد راتبي يكفي لاقتناء الكثير. وبعدما اعتدت على شراء مستلزمات منزلي بالدفع الآني صرت أطلب من باعة المواد الغذائية والخضر واللحوح جدولة ديوني وأحياناً تأجيل بعضها لعجزي عن سدادها نهاية كل شهر”. 

ويخشى صابر ألا تنجح الحكومة في الحد من فوضى الأسعار في تونس وإنقاذ جيب المواطن الذي لم قادراً على تأمين مقتنيات كانت قبل بضع سنوات متاحة لغالبية التونسيين على حد تعبيره.   

وصابر ليس الوحيد الذي بات الشهري لا يلبي حاجياته بل يشاركه في ذلك 88 في المئة من التونسيين، يعتبرون أن أجورهم لا تكفي لتلبية حاجات العائلة الواحدة لشهر كامل بحسب تصريحات سابقة لرئيس شركة سبر الآراء “سيغما كونساي” حسن الزرقوني خلال ندوة صحافية. 

“لقد استنزفوا قدرتنا الشرائية في غضون سنوات معدودة”.

وتخيف هذه الأرقام الأوساط السياسية في تونس لإدراكها أن الطبقة الوسطى هي ضمانة لاستمرار السلم والأمن الاجتماعيين، وأن تواصل تآكلها ستكون عواقبه وخيمة. 

فهذه الطبقة التي تخلق التوازن المطلوب اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً بين الطبقات باعتبارها الحلقة المتينة ما بين الأثرياء والفقراء والمتحكمة في تشكيل المزاج الاجتماعي العام وبالتالي فإن تآكلها سيهدم هذا التوازن.

الخبير الاقتصادي التونسي عز الدين سعيدان أكد أن الزيادات المتتالية في الأسعار ليست وليدة العام الحالي، بل تتكرر منذ أعوام بسبب فشل السياسات الاقتصادية المعتمدة، ما ضرب قدرة المواطن الشرائية. 

وقال سعيدان لـ”درج”: “تشكل الزيادات المتتالية خطراً على القدرة الشرائية المنهارة بسبب نزيف الزيادات، وتضعف الطبقة الوسطى في البلاد وتزيد من التضخم المالي فضلاً عن كونها باتت سبباً مباشراً في تدني القدرة على الادخار. والواقع أن هذا كله هو نتيجة حتمية لعدم شروع الدولة في تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية. ونتيجة تراكم نتائج السياسات الفاشلة وسوء إدارة الشأن العام والخيارات التي اعتمدت فقط لإرضاء المصالح السياسية الشخصية أو الحزبية على حساب المصلحة العامة”.

وحذر سعيدان من خطورة تقلص حجم الطبقة الوسطى وضعف قدرتها الشرائية، فالطبقة الوسطى شكلت دائماً عامل استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي في تونس.

إقرأوا أيضاً: