fbpx

“مشرح وطني” و”جنة جنة…”: التاريخ وذاكرة العنف والكارثة والحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“بدنا نجيب جثة التاريخ اللبناني كلو، نحطا هون ونشرحها قدامكن”. ومن هنا يأتي عنوان المسرحية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تشتد وطأة الأسئلة التي تعيشها ثقافة المنطقة في التعامل مع الذاكرة العنفية، ذاكرة الحرب أو ذاكرة الكارثة. وغالباً، ما تتعثر الحضارات والثقافات في كيفية تعاملها مع ذاكرة الحقبات التاريخية العنفية، الحروب الأهلية أو الصراعات الدموية. فتقسم الآراء إلى تيارين أساسيين: التيار الأول يعتقد بضرورة تجاوزها وعدم استعادتها عبر الفنون أو في الخطاب الثقافي، درءاً لعودة الخطاب العنفي والذاكرة العنفية من رغبات الانتقام. أما التيار الثاني فيشير إلى الضرورة الحتمية لتناول ذاكرة العنف والصراع والحرب، ووضعها موضع التحليل، ونقدها وتفكيكها عبر الفكر والفنون والثقافة. كما توجه الثقافة الجمعية هذا السؤال حيال التاريخ العنفي اللبناني، وأيضاً حيال المجتمع العراقي والسوري.

“مشرح وطني” العرض الذي أصدرت “فرقة زقاق” نسخته المسجلة في بيت الفنان في بلدة حمّانا اللبنانية مؤخراً، هو عمل مسرحي  يضع التاريخ على طاولة التشريح ليرصد الماضي الحي فينا وصانع حاضرنا، في محاولة لتلمّس آفاق المسؤولية الفردية والجماعية تجاه الأحداث التاريخية. كما يحاول عرض “مشرح وطني” إشراك الجمهور في محاولة تدوين تاريخ لبنان، غير المدوّن، انطلاقاً من الذاكرة الشعبية الحاضنة للكثير من التفاصيل التي لا شيء غيرها قد يصنع التاريخ. 

وجاء العرض نتيجة بحث طويل حول التاريخ، وبالتحديد التاريخ غير المكتوب لفترة الحرب الأهليّة اللبنانيّة. كما يفتح العرض الفرصة للجمهور ليشارك كل واحد بقصصه وحكايات متعلقة بشكل أو آخر بإشكالية التاريخ.

كيف تمكن رواية التاريخ؟

منذ المشهد الأول يحاول العرض التشكيك بسبل سرد التاريخ، التاريخ اللبناني تحديداً، فيقرأ الممثل والممثلة نصاً معلقاً في خلفية الخشبة من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل. يتحدث النص عن الستينات من أيام العز ومن بعدها الهبوط من التعايش والأخوة إلى منطق الحرب والزعيم، ومجازر القتل “على الهوية” والعدوان الإسرائيلي، وصولاً إلى نهاية الحرب في التسعينات. لكن ما يلبث الممثل والممثلة أن يقلبا النص نفسه ليقرآه بالمقلوب، من اليسار إلى اليمين فيتحدث النص عن الأحداث ذاتها التي تناولها في المرة الأولى بطريقة مختلفة، لنكتشف أن التاريخ يُقرَأ بأكثر من طريقة.

من يتأثر بالتاريخ؟ من يهمه الأمر؟

لكن إلى أي جمهور يتوجه العرض؟ دائماً ما تصمم فرقة “زقاق” بعناية الجمهور المتعلق بكل عرض مسرحي تقدمه، سؤال هوية الجمهور دوماً حاضر، لكن في هذا العرض يوظف كسؤال أساسي: من هو اللبناني واللبنانية؟ وبمن يتعلق التاريخ اللبناني؟ باللبنانيين، باللاجئين الفلسطينيين والسوريين، بالميليشيات، بالأحزاب، بالأديان والطوائف. التاريخ اللبناني لا يقتصر على الحدث اللبناني فقط، بل يتعلق بالأحداث الإقليمية والعالمية، يقول الممثل: “هلق هوي التاريخ اللبناني في يكون مطعّم من برا، منكح، مبندق، مش محدود جغرافياً، بيتأثر بكل البلدان والعوامل المحيطة. في تداخلات وتدخلات خارجية وداخلية. وقضايا دولية وإقليمية وعالمية وكونية”، منها القضية الفلسطينية، القضية الأرمنية، القضية السورية.

المسرح منصة للحوار

تأسست فرقة “زقاق” عام 2006، وهي فرقة تعتبر المسرح ممارسة سياسية واجتماعية، وفق منظومة تشاركية غير هرمية. تؤمن “زقاق” بالمسرح كمساحة للتفكير المشترك والعمل الجماعي حول قضايا المهمشين. تخلق الفرقة أعمالها المسرحية بناءً على مجموعة من الأبحاث التي تتمحور حول مواضيع مختلفة في كل عرض. في هذا العرض يعلن الممثل والممثلة مباشرةً إلى الجمهور عن غاية العرض المسرحي وعن دور المسرح في التعامل مع التاريخ، يقولان: “نحنا هون اليوم لنطرح عليكن هالموضوع، ونطرحو بالمسرح. المسرح بيطرح ما بيعالج، بيحلل وما بيحل. نحن أصلاً ليش منعمل مسرح بالأساس؟ لأنو ببلد متل هيدا، الحلول السياسية ما بتوصل لمطرح، ما في غير المسرح في يطرح المشاكل ويناقش كل التعقيدات والتناقضات”.

جثة التاريخ اللبناني

يفتتح المشهد الثالث اللعبة التي يقترحها العرض، يقول الممثلون: “بدنا نجيب جثة التاريخ اللبناني كلو، نحطا هون ونشرحها قدامكن”. ومن هنا يأتي عنوان المسرحية. وهنا يظهر الممثل الثالث والذي يؤدي دور جثة التاريخ اللبناني: “ما تمثل إنك جثة، كون جثة عن جد”، لكن الاختلاف لا يلبث أن ينشأ في الإجابة على تساؤل: في أي حادثة، في أي حرب، في أي كارثة أصبح لدينا جثة للتاريخ اللبناني؟

تتالى الأحداث العنفية، الحروب، الكوارث للإجابة على هذا السؤال، يقول البعض  إن التاريخ اللبناني مات مع اندلاع الحرب في 1975، بينما يقول البعض الآخر عند خطوط التماس في 1985، البعض يعتقد مع جريمة اغتيال الحريري 2005، وآخرون يقولون في الـ88 في حرب الأخوة في الضاحية، أو في الاعتداءات الإسرائيلية في 1982 أو 2006، أو مع حادثة انفجار مرفأ بيروت مثلاً. تتعدد الأحداث العنفية والكارثية التي يمكن الرجوع إليها لتحديد حادثة وفاة جسد التاريخ اللبناني. وهكذا، يدفعنا العرض لاكتشاف مقدار العنف، الاعتداءات وأحداث الكراهية التي سادت في مراحل من تاريخ البلاد.

ثم يظهر سؤال: “كيف قُتل جسد التاريخ اللبناني؟” بأي جريمة، قذيفة، قنبلة عنقودية، تفجير، رصاصة، بالذبح على الهوية، بسيارة مفخخة؟ كل ذلك يحيل إلى تزاحم الأفعال والسلوكيات الإجرامية في التاريخ، وهو ما يسعى العرض المسرحي إلى دفع المتلقي لاكتشافه واستجلائه رويداً رويداً. لتنطلق بعدها سلسلة مشاهد بأسلوب جديد لاكتشاف التاريخ والتعرف إليه، أسلوب يلاءم والفن المسرحي تماماً، وهو أسلوب رواية القصص، ليبدأ كل من الممثل والممثلة برواية ذكريات عن القصف، عن الدمار الذي يحل في الحروب، عن فقدان الأحبة والجيران.

هل يمكننا النسيان؟

في لحظة مفصلية في العرض، ينتفض الممثل الذي يلعب دور جثة التاريخ اللبناني، على كل ما يحصل من حوله، ويقرر النسيان. العرض يحاول مناقشة فكرة أن يتجاوز التاريخ الأحداث والذكريات وينسى. هل يمكن نسيان مجازر الأتراك؟ هل يمكن نسيان مجزرة صبرا وشاتيلا؟ هل يمكن نسيان جريمة انفجار مرفأ بيروت مثلاً؟ تجيب المجموعة هنا: “فيك تقرر تنسى، وفيك تنكر قصصك أنت، بس ما فيك تنكر قصص كل هودي الناس يللي عايشين حواليك اليوم”.

يقدم لنا العرض تجربة نموذجية تثبت عدم إمكان التعامل مع ذاكرة الحرب والعنف بالنسيان، وذلك حين يشارك الجمهور في العرض ويطلب من الممثل الذي يلعب دور التاريخ اللبناني ألا ينسى، ومن بعدها ينتقل العرض إلى أسلوب المسرح التفاعلي، حيث يشارك الجمهور مباشرة برواية حكاياته. وهي شهادات من تاريخ العنف والحرب، مثل قصص عن رائحة الرصاص، روائح الجثث، مشاهدة تجربة قتل على حاجز، أو تحطم مسكن الجيران. وفي ظل الأحداث التي تعيشها المنطقة العربية اليوم، العرض لا يطرح سؤالاً عن التاريخ اللبناني وحسب، بل أيضاً عن تعامل المجتمعات في المنطقة مع التاريخ العنفي الذي تشهده كذاكرة التجربة العنفية في كل من العراق، سوريا، ليبيا، واليمن.

إقرأوا أيضاً:

التاريخ يتسلل عبر الأغاني والحكايات

في الكتاب نفسه الذي نشرت فيه فرقة “زقاق” نص مسرحية “مشرح وطني”، نشرت أيضاً نصاً آخر بعنوان “جنة جنة جنة”، مع تسجيل إذاعي للعرض على شكل قرص مدمج، وهو يعتبر تتمة للعرض الأول، فكلاهما يتناول موضوعة التاريخ وذاكرة الحرب. وإن كان العرض الأول قد ألغى احتمال نسيان التاريخ والذاكرة وتجاوزهما، وبحث في سبيل إيجاد القصص المتعلقة بهذه الذاكرة، فإن العرض الثاني سيكشف لنا كيف تتجلى ذاكرة الحرب في الثقافة والفنون، كي تحضر من حولنا باستمرار في الأغاني والأناشيد، وكيف لا يمكن توقع حضورها في الحوارات وبرنامج الراديو. 

يعرض “جنة جنة جنة” تنويعات عن حضور ذاكرة الحرب في الفنون وفي الثقافة، فيستعمل فنون كالغناء، الرقص. يروي تاريخ لبنان من 180 ألف سنة من الفينيقيين وصولاً إلى الراهن، ليذكرنا كيف يروى التاريخ عبر الأغاني. أحداث الحرب، عمليات الفساد، الكراهيات الطائفية، التبعية للزعيم، كل الأمراض التي يعاني منها المجتمع اللبناني، كأنها تتردد عبر الأغاني. فالفن والتاريخ يتداخلان. وبينما تغني في اللوحة الأولى الجوقة مجتمعة، نتعرف في اللوحة الثانية إلى أسلوب غناء مختلف، مع جوقة وصوت متفرد أقرب إلى الرواي. وهكذا يروى التاريخ على المسرح، بطريقة تدمجه لغوياً مع الأمثال والحكم الشعبية، للتذكير بأن التاريخ يتمظهر عبر كل هذه المنتجات الثقافية.

حين نستمع إلى حكايات الحرب نشهد كيف تتجاور في الذاكرة أبسط الأحداث وأكثرها فردية وذاتية مع حدث كارثي أو عنفي كبير. ذكرى ولادة بنت على خطوط التماس، احتفال عيد ميلاد قبل القصف أو بعده بساعات، قصة حب في الملجأ في ليلة انتحار خليل حاوي. وهكذا لا يمكن سرد تاريخ الفرد بمعزل عن تاريخ الجماعة التي حوله، الوضع السياسي والاجتماعي، أحداث غيرت تاريخ البلاد، كلها تتداخل في رواية صورة فوتوغرافية لعيد ميلاد، أو ذكرى قبلة في الشارع. 

تتسلل حكايات الحرب حتى عبر فقرة الأبراج في برامج الراديو الصباحية، يتحول المسرح إلى استديو إذاعي، يتلقى اتصالات من الجمهور لمعرفة طوالع الأبراج، المتصلة (أم يحيى) ترغب بمعرفة طالع ابنها الغائب المخطوف منذ سنوات، هو من برج الجوازء، هل هو بخير؟ هل يأكل جيداً؟ هل يمكن أن يكمل دراسته التي حلم بها يوماً؟ كم من المقنع أن تسأل اليوم أمهات المخطوفين والمفقودين في المنطقة العربية برامج الأبراج عن ذلك. هكذا، سيتسلل التاريخ في ذاكرة العنف إلى أبسط الحوارات المستقبلية.

يتسلل التاريخ في رسالة إلى الحبيب، يتسلل في أغاني الدلعونة والرقصات الشعبية، في أغاني الميجانا والأهازيج والزجل. فتؤدي الفرقة رقصة الدلعونا، وتؤدّي أغاني الكورال لكن بكلمات مكتوبة عن ذاكرة الحرب. كذلك يقدم العرض شهادات رسائل صوتية مرسلة من قبل العائلات إلى بعضها البعض والمتوزعة على دول الهجرة. ومن المعروف أن الرسائل الصوتية المسجلة على “الكاسيت” كانت من وسائل التواصل بين العائلات في الحرب اللبنانية. تحضر قصص الغربة إذاً من بين حكايات الحرب أيضاً. رسائل صوتية لشهادات عن الماضي، عن ذاكرة نوستالجية عن البلاد وعن بيروت التي لم تعد موجودة، وفي المشهد الأخير من العرض، حين يسجل أحدهم رسالة لأخيه يذكره بأغنية: “جنة جنة جنة يا وطنا حتى نارك جنة”، يدخل عليه المسلحون ويعتدون عليه. بتعارض واضح، بين صعوبة حب الوطن، والشروط العنفية والأمنية والسياسية التي فرضها الوطن على محبيه. بالتعارض الواضح بين الجنة وخطر الموت أو الاعتقال أو الاختطاف المحدق باستمرار. وهذه هي حال القلق المستمر الذي يعيشها المواطن والمواطنة العربية.

“مشرح وطني”، و”جنة جنة جنة” عرضان يبرهنان على قدرة المسرح على تجريب الأسئلة الراهنة الثقافية وأكثرها عمقاً ودقة. فيقدمان الإجابة على التساؤل: ما الذي علينا فعله مع الماضي العنفي؟ تبرهن الفرقة عبر هاتين التجربتين المسرحيتين، استحالة تجاوز الذاكرة واختيار النسيان، وضرورة الحديث عن التاريخ، تحليله، وتناوله عبر الفنون.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.