fbpx

الإعلام الأميركي: الديموقراطية قبل الموضوعية!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعتمد الإعلام الأميركي مبدأ: الهجوم على صحافي واحد هو هجوم على الصحافيين جميعاً وبالتالي التهديدات التي تعرّض لها أهل الإعلام والصحافة في تغطية التمرّد أخذت حيّزاً كبيراً من التغطيات والنقاشات داخل الاستديوات الإعلاميّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الصحافة هي نشر ما لا يريد شخص آخر نشره، وكل ما عدا ذلك هو علاقات عامة ” جورج أورويل 

مرّة جديدة يخوض الإعلام الأميركي معركة حريات في مواجهة التحدّيات الداخليّة التي تعصف بالولايات المتّحدة الأميركيّة في السنوات الأخيرة،  خصوصاً منذ انتخاب دونالد ترامب رئيساً للبلاد عام 2016. 

فبينما انشغل الإعلام في نقل جلسة الكونغرس لتنصيب الرئيس جو بايدن رسميّاً، اقتحم عدد من المتمرّدين مبنى الكابيتول في الكونغرس الأميركي لتشهد الولايات المتّحدة إحدى أغرب وأكبر عمليّات التمرّد في العهد الحديث صارخين “اعدموا الإعلام” Murder the Media، وهذا بعدما وصف ترامب الإعلام بـ”عدو الشعب” قبلها بساعات قليلة، فكيف غطّى الإعلام الأميركي الحدث؟

الأداء الإعلامي

بدايةً، اتفق الإعلام الأميركي على تسمية الحدث “تمرداً” وليس “تظاهرات” باعتباره محاولة انقلاب على سلطة منتخبة ديموقراطيّاً في ظلّ انتهاك حرم الكونغرس والتعدّي على الأملاك العامّة والفيدراليّة. أمّا بايدن وغيره من المحامين والخبراء، فوصفوا المعتدين بـ”إرهابيين محليّين”domestic terrorists.

ومن ثمّ بدأت الوسائل الإعلاميّة بتفكيك الحدث وأسبابه وطرح أسئلة عن كيفيّة تنظيمه، وضعف الإجراءات الأمنيّة والجهاز الأمني في محيط الكونغرس، الأمر الذي دفع إلى استقالات عدّة، آخرها لرئيس شرطة الكابيتول ستيفن سوند، الرقيب في مجلس الشيوخ مايكل ستينغر، الرقيب في مجلس النواب بول إيرفينغ.

وتطرّق الإعلام إلى كيفيّة محاسبة المعتدين ومراجعة النصوص القانونيّة عبر استقبال نخبة من المحامين في سبيل الضغط لتحقيق العدالة والمحاسبة، إضافة إلى إلى الحديث عن عزل الرئيس ترامب باستخدام التعديل 25 من الدستور الأميركي. 

ولم يغفل الإعلام الأميركي التذكير مرّات عدّة بالضحايا الذين سقطوا نتيجة هذا الاعتداء السافر على مقرّ الكونغرس فضلاً عن ضبّاط الشرطة والإعلاميّين الذين تمّ الاعتداء عليهم في حرم المبنى، مع التزامه في المقابل بعدم عرض صور ومشاهد دم وعنف مفرط.

إضافة إلى ذلك، يعتمد الإعلام الأميركي مبدأ: الهجوم على صحافي واحد هو هجوم على الصحافيين جميعاً وبالتالي التهديدات التي تعرّض لها أهل الإعلام والصحافة في تغطية التمرّد أخذت حيّزاً كبيراً من التغطيات والنقاشات داخل الاستديوات الإعلاميّة. 

وعلى رغم التعتيم الإعلامي على ترامب وأي خطاب تحريضي ولكن لم يهاجم الإعلام الحزب الجمهوري برمّته بل استضاف الكثير من وجوهه الكبيرة التي استنكرت الحدث استنكاراً شديداً، مشدّدة على أهميّة الديموقراطيّة وسلطة القانون. فالوحدة الوطنيّة والسلم والمصلحة العامّة والديموقراطيّة هي الركائز الأساسيّة التي يلتزم بها الإعلام وتفوق بأهميتها السباق والمنافسة الإعلاميّة ونسب المشاهدة.  

أمّا وسائل التواصل الاجتماعي فكان ردّها قاسياً وغير مسبوق فإدارة “تويتر” أغلقت حساب ترامب لمدّة 12 ساعة مع إلغاء بعض تغريداته، فيما أعلن مارك زوكربيرج بنفسه عن إغلاق حسابات ترامب على “فايسبوك” و”إنستغرام”. 

الوصفة السحريّة والقوانين المرعيّة

إذاً وصفة الإعلام الأميركي السحريّة هي بالبساطة التالية:
الدقّة في نقل الحدث، إعطاء المعلومات الوافية وزيادة الوعي المجتمعي، انتقاء الكلمات المناسبة، تجنّب التحريض والابتعاد منه، تفكيك الحدث بوضوح وتحميل المسؤوليّة للجهات المعنيّة، التطرّق للبعد القانوني، البحث عن القطب والخلفيّات المخفيّة، التعاطف مع الضحايا والمطالبة بالمحاسبة وتحقيق العدالة وفقاً لما يقتضيه القانون. 

والأهم من هذا كلّه: الدفاع بكل شراسة عن النظام الديموقراطي المؤسساتي القائم ومواجهة كل ما يتنافى مع مفاهيم الديمقراطيّة والحريّات وقيمها. فالإعلام الأميركي في معركة دائمة للدفاع عن الديمقراطيّة والحريّات.

لكن فوق كلّ هذا يأتي القانون الأميركي الذي يحمي ويكرّس حريّة التعبير والصحافة في التعديل الأوّل للدستور الأميركي الذي ينصّ على الآتي:



“لا يجوز للكونغرس أن يضع أي قانون لا يحترم إنشاء ديانة أو يحظر ممارستها بحريّة؛ أو يقيّد حرية التعبير أو حرية الصحافة؛ أو حقّ الشعب في التجمّع سلمياً، وتقديم عريضة إلى الحكومة من أجل إنصاف ورفع المظلوميّات”.


ولكن على رغم سياسة الحريّات الواسعة فهي تبقى غير مطلقة من ناحية معاقبة التشهير والذمّ (فقط في الحالات التي يتم فيها تقديم معلومات كاذبة/ ملفّقة كحقيقة) أو نشر وثائق مصنّفة سريّة تعنى بالأمن القومي ولكن في مقابل هذا التصنيف ينصّ قانون حرية المعلومات FOIA، الذي صدر عام 1966 على أن يقدّم الفرع التنفيذي للحكومة الأمريكية المعلومات التي يطلبها المواطنون بهدف الحدّ من سريّة الوثائق.

والقطاع الإعلامي الأميركي منظّم ولا تشوبه الفوضى من ناحية إعطاء تراخيص على أساس مواجهة احتكار الإعلام من قبل أقليّة واتباع المحطات القواعد المتعلقة بالإعلان السياسي، وتوفير منتدى عام للنقاش، وخدمة المجتمعات المحلية والأقليات والتي تراقبه لجنة الاتصالات الفيدرالية Federal Communications Commission (FCC) وفق ما نصّ عليه قانون الاتصالات عام 1934. 

نموذج مميّز

يُعدّ الإعلام الأميركي نموذجاً مميّزاً، نظراً إلى معايير الدقّة التي يعتمدها في تغطية الأخبار. فمثلاً خلال عمليّة فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، انقسم الإعلام العالمي إلى مجموعتين، مجموعة تقودها بشكل أو بآخر “أسوشييتد برس” التي قرّرت حسم بعض المعارك قبل فرز الأصوات كلها، ومجموعة أخرى تقودها المؤسسات الإعلاميّة الأميركيّة الضخمة على رأسها CNN وNew York Times وWashington Post التي فضّلت التمهّل في حسم أي معركة حتّى فرز جميع الأصوات، إيماناً منها بأهمية كلّ صوت، عوضاً عن التسرّع والاستعجال خصوصاً مع الاهتمام العالمي الضخم بنتائج الانتخابات الأميركيّة. 

فهذا نقاش طويل وأزليّ في الإعلام بين السرعة والدقّة في نقل الخبر، والذي حسمه الإعلام الأميركي منذ زمن: الدقّة والصدقيّة أولويّة وهذا ما أكسب الإعلام الأميركي صدقيته العالية وبات مرجعاً ومصدراً للمعلومات.   

أمّا في تغطية “كوفيد-19″، فلم يتردّد الإعلام الأميركي يوماً في “تكذيب” رئيسه ومواجهته في ما يتعلّق بالمعلومات المغلوطة والخاطئة عن الوباء ومحاولة تصويب الرأي العام. هذا فضلاً عن تغطيّة التظاهرات الشعبيّة في إطار حملةBlack Lives Matter  والتشديد على أهميّة العدالة والعدل بين المواطنين على اختلافهم. 

الدقّة والصدقيّة أولويّة وهذا ما أكسب الإعلام الأميركي صدقيته العالية وبات مرجعاً ومصدراً للمعلومات.   

كما أضاف الأميركيّون للإعلام ظاهرة الإعلام الساخرsatire  الذي مُنح حريّة قصوى في التهكّم على الشخصيات العامّة دونما استثناء وكسر التابوات السياسيّة والاجتماعيّة.

ومن من خرّيجي الإعلام لم يدرس في الجامعة فضيحة ووترغيت التي كشف من خلالها الصحفيان كارل برنستاين وبوب وودوارد عن أعمال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون غير الشرعيّة، الأمر الذي دفعه لاحقاً إلى تقديم استقالته.

ازدواجيّة المعايير


ولكن في مقابل المهنيّة العالية والدقّة في نقل الأخبار والأحداث المحليّة والدفاع عن المظلومين والمطالبة بالمحاسبة، تظهر ازدواجيّة في المعايير لدى تغطية الإعلام الأميركي أحداثاً خارج حدود الولايات المتّحدة الأميركيّة تحديداً في ما يتعلّق بسياسة الدولة الخارجيّة.

فعلى رغم تحسّن الأداء الإعلامي في هذا المجال، يبقى قاصراً عن التعامل مع القضايا الخارجيّة بالدقّة والموضوعيّة والحياد والانسانيّة المطلوبة. 

في مقال لـ”واشنطن بوست” بعنوان: “كيف كانت ستغطّي وسائل الإعلام الغربية اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي لو حدث في بلد آخر؟”، تستعرض الكاتبة بطريقة ساخرة الخطاب الغربي في تغطية أحداث العنف خارج الولايات المتّحدة الأميركيّة، باستخدام تعابير كالتطرّف والإرهاب واستخدام خطاب استعماري تقسيميّ عرقي وعنصري فيه الكثير من التعميم والتسخيف. فالإعلام الأميركي على الصعيد الدولي لا يزال بعيداً من تحقيق المهنيّة المرجوّة، ولكنّه بلا شكّ في تطوّر مستمرّ.

إقرأوا أيضاً: