fbpx

كيف غيَّر فشلُ الربيع العربي عالَمَنا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أدّى فشل الربيع العربيّ إلى ظهور أنظمة سياسيّة صارمة من حولنا جميعاً. وهذه أخبار سيّئة، ففي عالمنا سريع التغيّر نحتاج إلى تكيّف سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل 10 سنوات، في مساء الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011، فرّ زين العابدين بن علي، الديكتاتور الذي حكم تونس فترةً طويلة، إلى المملكة العربيّة السعوديّة، بعدما رفض الجيش التونسيّ الانصياع لأوامره بقمع التظاهرات الشعبيّة الحاشدة التي انطلقت في 17 كانون الأوّل/ ديسمبر 2010، عقب إشعال محمد بوعزيزي النيران في نفسه، لينتهي الحكم الاستبداديّ الذي دام 23 سنة. أشعل تغيير النظام في تونس شرارة حركات شعبيّة ضخمة عُرفت بـ”الربيع العربيّ”.

وفي غضون أسابيع شهدت بلدان من “العالم العربي” احتشاداً شعبيّاً امتدّ آلاف الكيلومترات، من الجزائر حتّى البحرين. ليسقط الزعيم المصريّ حسني مبارك، الذي حكم البلاد 30 عاماً، ثم الدكتاتور اليمنيّ علي عبد الله صالح، الذي ظلّ في السلطة 22 سنة، في حين لم تُحدِث الاحتجاجات الشعبيّة في بعض المناطق الأخرى أيَّ تغيير سياسيّ، بخاصّة في الجزائر والأردن والبحرين والعراق.

إذا اطّلعت على الصحف قبل 10 سنوات، ستلاحظ الإثارة التي صاحبت تلك الأحداث. كان العالم العربيّ وقتها يمثّل الوجهة الأخيرة لـ”موجة التغيير الديموقراطيّ”، التي مرّت أوّلاً ببلدان جنوب أوروبا وأميركا اللاتينيّة وأوروبا الشرقيّة. فقد رأى البعض أنّ تقنيات التواصل الحديثة -الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعيّ- يستحيل أن ترضخ لآليّات الرقابة والديكتاتوريّة. وطُبّقت معايير أوروبا الشرقيّة على العالم العربيّ، مع الأمل بأن يَحدث تغيير سلميّ للنظام، فيفتح الأبواب أمام الديموقراطيّة الليبراليّة والرأسماليّة الاستهلاكيّة.

كان السبب الأوّل وراء فشل الربيع العربيّ هو قمع الأنظمة.

لكنّ هذه التصوّرات لم تستند إلى الواقع. لم تندلع الثورات العربيّة للسبب ذاته الذي اندلعت لأجله ثورات أوروبا الشرقيّة، ألا وهو نتائج الانتخابات المتنازَع عليها. ولم تكن التظاهرات أيضاً سلميّة من اليوم الأوّل، فحتّى لحظة فرار بن علي من البلاد كان سقط بالفعل 380 قتيلاً. وفي مصر أيضاً كان هناك ما يزيد عن 800 قتيل بسبب أعمال العنف حينما تنّحى حسني مبارك عن الرئاسة. لا تمكن مقارنة هذا أيضاً بالإطاحة بميلوشيفيتش في صربيا أو شيفردنادزه في جورجيا أو الثورة المخمليّة (الثورة الناعمة) في أرمينيا عام 2018، التي لم يسقط خلالها أيّ ضحايا.

وفي ليبيا، لم تؤدِّ الاحتجاجات الشعبيّة الحاشدة التي بدأت في بنغازي إلى موجات قمع عنيفة من قِبَل نظام معمّر القذّافي فحسب، وهو الذي حكم البلاد منذ عام 1969، لكنّها كانت ذريعة أيضاً للتدخّل العسكريّ الغربيّ في البلاد تحت راية حلف الناتو. وفي اليمن وسوريا، أدّى القمع الهائل الذي مارسته الأنظمة القديمة إلى تحويل الاحتجاجات الشعبيّة السلميّة إلى حروب أهليّة، تسبّبت في وقوع مئات آلاف الضحايا وتدمير مدن بأكملها وتدخّلات عسكريّة أجنبيّة عدة.

لهذا كان السبب الأوّل وراء فشل الربيع العربيّ هو قمع الأنظمة. إذ يحتاج “التغيير الثوريّ” إلى أكثر من “أزمة ثوريّة” لكي يحدث. في عدد من البلدان، هاجمت الأنظمةُ القديمة، التي كانت تهيمن بالكامل على المؤسّسة العسكريّة، شعوبَها بعنفٍ لا حدَّ له، من أجل ضمان استمرار احتكارها السلطةَ. لم يؤدِّ ذلك إلى دمار شامل في البلاد فحسب، مع وقوع مئات آلاف الضحايا وتدمير مدن ومناطق حضريّة بأكملها وملايين المهاجرين والمشرَّدين. فعلى المدى الطويل ستصبح المشكلة أعمق، إذ يظلّ السؤال: هل يمكن بعد هذا العنف الذي وقع أن يجتمع سكّان سوريا أو اليمن أو ليبيا معاً ضمن الإطار السياسيّ نفسه؟

لا يقتصر فشل الربيع العربيّ على قمع الأنظمة القديمة فحسب، إذ لم تتمكّن الحركات الاحتجاجيّة التي أشعلت شرارة الربيع العربيّ، سواء في سوريا أو في مصر، من إيجاد قيادة سياسيّة. وشغل “الإسلام السياسيّ” هذا الفراغ سواء من خلال جماعة الإخوان المسلمين في تونس أو السلفيّة الجهاديّة في سوريا والعراق. لكنّ “الإسلام السياسي” مهووس بالعنف وغير قادر على طرح الإصلاحات المؤسّسيّة الضروريّة أو اقتراح حلول للمشكلات الاقتصاديّة الاجتماعيّة الخطيرة. وتُعَدّ تونس خير مثال على ذلك.

إقرأوا أيضاً:

ماذا إذاً عن “الغرب”؟ لم يكن بإمكان الاتّحاد الأوروبّيّ ولا الولايات المتّحدة تغيير النظام، ولم يكن بإمكانهم أيضاً ضمان أن تكون السلطات الجديدة قادرة على حلّ المشكلات التي تسبّبت في هذا الانفجار العربيّ الهائل. لكن كان بإمكان “الغرب” القيام بأمر واحد، وهو الحرص على ألّا تؤدّي الصراعات الداخليّة إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو مجازر. ولكن فشل الغرب في هذا الصدد، وأعظم مثال على ذلك هو عجز إدارة أوباما عن القيام بأيّ شيء بعد الهجمات الكيماويّة التي شنّها النظام السوريّ على ضاحية الغوطة الشرقيّة عام 2013.

لم يُؤدِّ فشل الربيع العربيّ إلى الحفاظ على الوضع القائم السابق، وإنّما أنتجَ مجموعة دول فاشلة غير مستقرّة وفي حالة من الحروب الأهليّة المستمرّة. ولكنّ الأثر السلبيّ لذلك الفشل تجاوَزَ العالمَ العربيّ، فأدّى إلى تزايُد العسكرة وتركّز السلطات في أيدي الأنظمة الصارمة. وصارت العلاقات الدوليّة برمّتها أعنفَ وأكثر وحشيّة نتيجةً لذلك. أدّى ذلك الفشل إلى تيبُس السياسات التركيّة وتشدّدها. فقبل عام 2011 كانت تركيا تسلك مساراً إصلاحيّاً خجولاً، في التغيير السياسيّ الداخليّ وكذلك في علاج المشكلة الكبرى التي تواجهها البلاد المتمثّلة في المسألة الكرديّة. بعد فشل المفاوضات بين قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم والقوّات الكرديّة عام 2009، حصلت محاولة ثانية عام 2013 حين أُعلِن وقف إطلاق النار بين الجيش التركيّ والمتمرّدين الأكراد. كانت أنقرة في البداية متردّدة حيالَ السياسات التي عليها اتّباعها تجاه سوريا، ولكنّها في نهاية المطاف اختارت دعمَ الإسلاميّين، وتخلّت عن الحوار مع الأكراد. وكانت التضحية الأخرى بحرّيّة الإعلام في تركيا، التي شهدت قضيّة جريدة الجمهوريّة (جمهوريت) ورئيس تحريرها جان دوندار، وتقريرها عن “الارتباطات السوريّة”. لم يبدأ التحوّل السياسيّ التركيّ بالمحاولة الانقلابيّة الفاشلة عام 2016، إنّما بالخيارات السياسيّة التي تمّت خلال معركة كوباني (عين العرب) بين تنظيم “داعش” والجماعات الكرديّة المسلّحة عام 2014.

القمع والحرب الأهليّة والفوضى لم تحلّ الأسباب التي أدّت بدايةً إلى اندلاع الربيع العربيّ، بل إنّ ذلك جعل المشكلات أكثر حدّة.

وكان النظام الروسي في ظلّ حكم فلاديمير بوتين نظاماً صارماً، وكان مسارُ البلاد يتحدّد إلى حدٍّ كبير من خلال الحرب الشيشانيّة الثانية. ولكنّ فشل الربيع العربيّ عزّز عسكرة النظام الروسيّ، ليستعرض قوّته لا في الشرق الأوسط وحده، وإنّما على مستوى عالميّ أيضاً. ولا جدال في روسيا حول تكلفة تلك الخيارات، وإلى أيّ مدىً يمكن أن يذهب اقتصادٌ معتلّ، يعتمد على صادرات النفط والغاز، في استعراض القوّة العالميّ.

وقد أثّر فشل الربيع العربيّ أيضاً على أوروبا، فقد أنتجَت حالة عدم الاستقرار المتواصلة في الشرق الأوسط موجاتٍ من اللاجئين الفارّين من الموت، ما أدّى إلى صعود اليمين المتطرّف. ومنذ 2016 فوّض الاتّحاد الأوروبّيّ تركيا بحراسة حدوده الجنوبيّة الشرقيّة من اللاجئين، وفي المقابل لم يقم الاتّحاد بدفع الأموال لتركيا فحسب، وإنّما غضَّ الطرف عن سياستها الخارجيّة.

غير أنّ القمع والحرب الأهليّة والفوضى لم تحلّ الأسباب التي أدّت بدايةً إلى اندلاع الربيع العربيّ، بل إنّ ذلك جعل المشكلات أكثر حدّة. فحين أعلن مبارك تنحّيه عن منصبه، كان تعداد السكّان في البلاد 81 مليوناً، واليوم يصل عدد المصريّين إلى 102 مليون نسمة، ومن غير الواضح كيف بإمكان نظامٍ متجذّر في المؤسّسة العسكريّة أن يُلبّي الاحتياجات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للجيل الجديد. أدّى الارتفاع الهائل في نسبة البطالة والفشل الماليّ والفساد الذي ينخر الأنظمة إلى ظهور موجة جديدة من الاحتجاجات في عامَي 2018-2019 في الجزائر والسودان ولبنان والعراق وأماكن أخرى. ومن المثير للدهشة أن نرى في حالاتٍ كثيرة، كما هو الحال في الجزائر ولبنان، أنّ الأنظمة الحاكمة لا تشعر بأيّ ضرورة أو التزام بالردّ على تلك التظاهرات الشعبيّة الضخمة والتفاعُل معها.

أدّى فشل الربيع العربيّ إلى ظهور أنظمة سياسيّة صارمة من حولنا جميعاً. وهذه أخبار سيّئة، ففي عالمنا سريع التغيّر نحتاج إلى تكيّف سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ. وإذا لم يكن هناك تغيير عبر الإصلاحات المؤسّسيّة، فحينئذٍ يزداد خطر وقوع انفجار مفاجئ وعنيف. بل تزداد صحّة هذه الملاحظة في أعقاب الجائحة التي أرهقت الموارد الماليّة لعالمنا المُعولَم. حين تضربنا الموجة المقبلة من الانفجار الشعبيّ، سيكون هناك شيءٌ واحد واضح، وهو أنّ لا رجال شرطة لحماية الضعفاء خلال الصراع بين الحضارة والهمجيّة.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!