fbpx

لو أن شعار الحزب الشيوعي كان: “يا آكلي الفول المدمس اتحدوا”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“في سنةٍ ما من سنوات المراهقة ينعطف واحدنا، غالباً مع شلّة من أصحابه، إلى محلّ يبيع السندويش “واحد فلافل من فضلك” أو “واحد شاورما”. طالب السندويش لا يكون يعرف، في تلك اللحظة، أيّة فعلة يفعل. لا يكون يعرف أنّه يتمرّد، وأنّه، في حدودٍ ما، يمارس تحرّره الأوّل من سلطة العائلة ونظامها الأبويّ”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل يوم واحد من قرار الإغلاق التام الذي اتخذته السلطات اللبنانية، عقاباً للمواطنين على تفشي فايروس “كوفيد- 19” أو رحمة بالجهاز البشري الطبي (لا أعرف!)، قررنا أن نتناول على الغذاء فولاً مُدمساً. توجّهت كعادتي إلى مطعم أبو شادي للفول، وهو الوحيد في منطقة جل الديب/ الزلقا لأشتري صحنيّ فول مع توابعهما. سألته قبل المغادرة إذا كان سيفتح أبواب مطعمه خلال فترة الإغلاق القسري، فهزّ برأسه إيجاباً: “فقط ديليفري”، وأردف قائلاً: “انتبه على حالك وعلى صحتك!”. نظرت إليه متأملاً فتراءى لي أن في عينيه دمعاً وكلاما كثيراً، ذكرني المشهد بوالدي في كل مرة كان يريد توديعي لحظة السفر، إذ كان ينظر إليّ حزيناً لا يعرف ماذا يقول، فيترك للعناق الشديد أن يُعبّر عن حقيقة مشاعره.

ومع هذا لم تكن حالنا، أبو شادي وأنا، كذاك الوداع المؤلم، بل كانت شيئاً مُستجِداً طارئاً أكثر ثقلاً فرضه علينا ظرفان: من جهة ظرف الاغلاق والحبس الإجباري في البيت، ومن جهة ثانية ظروف البلد المأساوية وفشل السلطة السياسية في تقديم أي حل لمشكلة تفشي جائحة “كورونا”، كما حال فشلها في تقديم أي حل ولو موقت للأزمة الاقتصادية والسياسية الممتدة منذ عام ونصف العام.

نظرنا إلى بعضنا في مطعم الفول لثوان قليلة كانت كافية لأشعر وكأننا نُوَدِّع الحياة بوصفها مستوى محدداً ونمطاً من العيش الكريم، يضجُّ بعادات وطقوس يومية كثيرة. المقْصَف والمطعم من وجوه هذا العيش وأمكنته.

تكتسب أمكنة المطاعم والمشارب مدلولاتها الاجتماعية بأبعاد طبقية أحياناً أو ثقافية فنية أحياناً أخرى.

المطعم كما المقصف هو مكان مدينيٌّ بامتياز، حيث يلتقي البشر ذكوراً وإناثاً، أصدقاء وأقارب وغرباء لا ليجلسوا حول طاولة للأكل والشرب وحسب، بل ولهدف اجتماعي أساسه التعارف والاختلاط وحاجة النفْسِ للمرح والتسلية. قد يكون حجم هذا المكان صغيراً بحجم غرفة واحدة، كما قد يكون كبيراً بحجم منزل كبير. ولكن اللافت أن تاريخ هذا المكان طويل وحافل بالأحداث التاريخية الفنية والأدبية وحتى السياسية.

تطور هذا المكان كان بطيئاً على مر التاريخ في مناطق الكثافة السكانية وساحاتها، إلى أن استقرّ في القرن التاسع عشر مع استقرار المدينة تحديداً في فرنسا، ونما معها في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى لدرجة عظيمة أدت إلى تنوع هائل في استعمالاته ومسمياته ومواقيت الولوج إليه.

المطعم بحد ذاته قد يكون مخصصاً إمّا لوجبة الغذاء أو العشاء ويصح للاثنين معاً. تختلف نوعية هذه المطاعم صغيرة أو كبيرة بتنوع قائمة الطعام فيها. ثمة مطاعم صباحية تقدم وجبات الفطور لتتحوّل خلال النهار إلى مشْرب للقهوة والشاي. أمكنة المشارب أيضاً انفجرت تنوعاً أكثر، فمن مقاصف القهوة والشاي مروراً بمحال العصائر والبوظة انتهاء بـ”البار” الليلي المخصص لكل أنواع المشروبات الكحولية.

تكتسب أمكنة المطاعم والمشارب مدلولاتها الاجتماعية بأبعاد طبقية أحياناً أو ثقافية فنية أحياناً أخرى، ليس عبْرَ أسعار سلعها الغذائية وحسب، لا بل أيضاً من خلال الطبيعة الثقافية والنفسية لروّادها وانتماءاتهم العُمرية والسياسية. فهذا مطعم للعائلات وذاك للنخبة الفنية وآخر للشبيبة من المراهقين. هذه قهوة لليمين وتلك لليسار وأخرى لتدخين النرجيلة ولعب ورق الشدة.

مطعم الفول في لبنان عريق وتاريخه طويل. وهو ما زال صامداً بوجه التغييرات الاجتماعية على أنواعها. وعلى رغم مساحته الصغيرة، مطعم الفول يكاد يتسع لجميع الشرائح الاجتماعية من دون استثناء أحد على الاطلاق، اللهُمّ إلا الذين يخافون على مصرانهم الغليظ من تحفيز مُفرط للفول المدمس في إطلاقٍ نشطٍ لريح، أو ما شابه ذلك، بعد تناولهم إياه مع شيء من البصل والنعناع وكبيس اللفت الحامض.

ومطعم الفول هو أيضاً مطعم الفئات الشعبية والطبقة المتوسطة على السواء، يلتقي الجميع من هاتين الفئتين مُتخففين من وزر أثقال انتماءاتهم الطائفية وانقساماتها الحزبية. إنه مطعم تسوده البساطة الشديدة ويجوز وصفه بمطعم لا طبقيّ… وعليه كان من الأجدى بمكان لو أن الحزب الشيوعي اللبناني قد رفع شعاراً يقول فيه: “يا آكلي الفول المدمس في لبنان وسائر المشرق اتحدوا…”، بدل أن يزهق الآلاف من ليترات الحبر وصفحات الورق، في تنظير عقيم حول خطة انتقال المجتمع اللبناني إلى الاشتراكية وحل القضية الزراعية وحتمية حصول الثورة الوطنية البرجوازية.

ولصحن الفول المدمس عندي مكانة عظيمة، كما عند معظم المواطنين اللبنانيين اللذين يقدرون حق التقدير هذا التدميس اللذيذ بين حبّات الفول والحمص، مع القليل من عصير الحامض ومسحوق الثوم والملح والكثير من زيت الزيتون والبصل. 

“أكلةٌ ولا كلِّ الأكلات” هكذا كان سيقول والدي لوالدتي في زمن السبعينات مُحفْزاً إياها على عدم تحضيره في البيت، مفضلاً شراءه من مطعم “ملك الفول” في شارع بربور في منطقة المزرعة. أما هي فكانت تواجهه رافضة ومُحتجَّة، تقول “فولات الملك تبَعَك مليانين سوس”. كان هذا من شأنه أن يُشعل جدالاً لا يتنهي بينهما إلا لحظة يقرر أبي الذهاب بنفسه، وأنا بصحبته، لنأكل سوياً عند ملك الفول أبو حسن وهو البيروتي العريق من أصل كُرديّ والعاشق لأغاني اسمهان وفريد الأطرش.

إقرأوا أيضاً:

على ما اذكر كانت هذه تجربتي الأولى في تناول الطعام خارج المنزل وبالتالي الصلة الأولى لي بالمطعم كمكان يجتمع فيه أناس غرباء ليسوا من عائلتي بهدف الأكل والتمتع به.

في سن المراهقة كنا نجتمع، نحن أولاد الحي، على الرصيف للِّقاء والتعارف بالقرب من دكان أبو جورج عطالله وعائلته التي كانت من العائلات المسيحية الأرثوذُكسية القليلة التي بقيت تسكن منطقة المزرعة اثناء الحرب الاهلية اللبنانية.

أضاف عبدو وجميل، ولدا أبو جورج، مساحة جديدة إلى دكانهما واضعين فيها ألعاب “الفليبرز” و”البيبي- فوت” وصاجاً كبيراً لقليّ الفلافل. كنت مع أقراني من مراهقي الحي نمضي أوقاتاً طويلة في مباراة لعبة “البيبي- فوت” بحيث كان على الفريق الخاسر أن يشتري على حسابه سندويشات الفلافل للفريق الرابح. وهكذا كان عهدي مع الفلافل كأول سندويش أتناوله في حياتي من خارج المنزل. 

ومع تقدمنا في مرحلة المراهقة كان أصبح بمقدورنا التجول بحرية أكبر في المدينة أثناء فترة تراجع حدة المعارك الحربية، لنكتشف أن حدود مدينتنا كان يبدأ طولاً من ساحة البربير إلى الروشة وصعوداً من نادي الحمام العسكري إلى الحمراء فالصنايع، لنعود إلى نقطة البداية عبر شارعي كركون الدروز ومار الياس. لوقت طويل عشنا في مدينة بيروت الغربية مؤمنين بأن هذه مدينتنا وكفى…لا وجود لبيروت غيرها. مدينة للصمود والتصدي والفقش والطقش، مدينة للشعر والفن المعاصر والملتزم قضايا التحرر والعدالة. عندما انتهت الحرب وأزيلت الحواجز والدشم الرملية من الطرق بين البيروتَيْن، اكتشفت كم كُنت مُخطئاً في تقدير هذه المسألة. ولم أفهم بيروت بكُلِّيتها كمدينة، وسر حبي لها، إلا بعد قراءة كتاب “تاريخ بيروت” للصحافي والكاتب الراحل سمير قصير.

أمّا الكاتب والصحافي حازم صاغية فكتب في مقدمة مقالته الشيّقة “في مديح السندويش”:

“في سنةٍ ما من سنوات المراهقة ينعطف واحدنا، غالباً مع شلّة من أصحابه، إلى محلّ يبيع السندويش “واحد فلافل من فضلك” أو “واحد شاورما”. طالب السندويش لا يكون يعرف، في تلك اللحظة، أيّة فعلة يفعل. لا يكون يعرف أنّه يتمرّد، وأنّه، في حدودٍ ما، يمارس تحرّره الأوّل من سلطة العائلة ونظامها الأبويّ”.

في شوراع بيروتتي وأثناء الحرب تسكّعت طويلاً وأذبت نعالاً كثيرة مشياً على الأقدام مُكتشفاً كل تفاصيلها وعلى وجه الخصوص محلاتها الصغيرة التي تبيع سندويشات اللحوم وأشهى الطيبات على أنواعها. فمن شندويش الشاورما عند أبو خضر في كورنيش المزرعة، إلى “سندويش البطاطا” عند “ملك البطاطا” في الحمراء إلى سندويش الدجاج مع الثوم من عند “مرّوش”.

كُنا “شلة” من الرفاق نجوب أحياء مدينتنا فقط لنصل إلى مطعم دُشِّن على عجل أثناء القصف، فنشتري سندويشاً منه لنلتهمه متابعين المسير ومُطلقين بين الأرجل من حين إلى آخر دَويِّ ريحٍ نفّاذة. هذه الريح ذاتها كانت دائماً سبباً لانفضاح أمري عندما اعود إلى البيت، لأتعرّض إلى تحقيق من الوالدة حول ماذا أكلت خارج البيت، تليها محاضرة عن مساوئ سندويشات السوق وصحبة رفاق السوء، يكون ختامها تهديد مبطّن لإنقاص مبلغ “الخرجية” الأسبوعية المُستحقة لي، إذا ما عدت إلى أكل السندويشات من السوق. أما مطعم الهمبرغر فكان له شأن مُغاير في التأثير في أبناء جيلي في تلك المرحلة من أواخر سبيعينات القرن المنصرم.

ففي صيف 1978 وبعد نجاحي في امتحان شهادة البريفيه الرسمية، قررت العمل “أوفيس بوي” لمدة شهرين في مكتب سفريات لصاحبته من آل علم الدين في منطقة الحمراء. استطعت الصمود لمدة شهر واحد وتركت العمل غير آسف عليه، بعدما أصبح في جيبي وللمرة الأولى في حياتي ملبغاً محترماً من المال وقدره 300 ليرة لبنانية. وعلى الفور اشتريت بنصف المبلغ دراجة هوائية من نوع “كورس” ودعوت صديقي جهاد إلى مطعم الهمبرغر “هانيز” الأشهر في بيروت وقد يكون الوحيد من نوعه وقتها. وكان هذا أول سندويش همبرغر أتناوله في تاريخ حياتي.

يختلف الجلوس في مطعم الهمبرغر عما هو في مطعم الفول. ففي مطعم “هانيز” لا طاولات موزعة على جوانب المساحة، إنما طاولة خشبية طويلة bar، يصْطَفُّ على أحد جوانبها رواد المطعم في مواجهة مباشرة مع الطباخين، ما يُعطي إحساساً بالإلفة والمساواة والمشاركة بين طالبي الطعام من جهة ومقدّميه من جهة ثانية. كان كل شيء في مطعم هانيز للهمبرغر يوحي بأجواء حداثة العصر، بدءاً من موسيقى فرقة “البيتلز” أو “البي – دجيز” او “الآبا” التي كانت تصدح في أرجائه، مروراً بالمكونات الكوزموبوليتية لصحن الهمبرغر، انتهاء بديموقراطية الأسلوب المتّبع لالتهام السندويش، إذْ تُترك للزبون حرية القرار في استعمال الشوكة والسكين في الأكل أو اليدين العاريتين… وكان هذا محط استحسان عندي لنقص كبير لديّ في ثقافة استخدام الشوكة والسكين. والالتهام فِعْلٌ يليق بصحن الهمبرغر لِمُغرياته الدسمة والطيبة. كما كان من الجائز أثناء هذا الفعل أو بعده مباشرة، أن تشرب من زجاجة سفن- آب باردة رشفات متقطعة لهضم سريع، وعليه فلا عيب في أن يُسمع في المكان أصوات مكبوتة لتجشُّؤات صادرة عن بعض الزبائن تختلط مع أصوات احاديثهم المتنوعة.

فتح أولياء الأمر في العائلات البيروتية، من آباء وأمهات، معركة قاسية ضد سندويش الهمبرغر الذي يُغري أبناءهم بالخروج عن طاعة الطاولة المنزلية. فوجّهوا إليه اتهاماً جرمياً كونه افتتح عصر الطعام السريعfast food المشبع بالدهون الضارة للشرايين. وإذْ لم تنفع هذه التهمة في لجمه، وسَمُوهُ بالطعام المرذول junk food. 

مع مرور الوقت صارت ربّات البيوت يحضرن الهمبرغر لأبنائهن في المنزل، في محاولة أخيرة ويائسة لإعادة هؤلاء الأبناء إلى طاولة الطعام العائلية. أذكر أنني قلت لوالدتي، عندما أعدت لنا للمرة الأولى في البيت سندويشات الهمبرغر، إن هذا السندويش كما صحن الفول المُدمس لا يؤكل إلا في المطعم. كان جوابي هذا، وللأسف الشديد، خيبة كبيرة لها.

على الأرجح كان أولياء الأمر بمعظمهم لم يفهموا بعد أن جوهر الموضوع لم يكن في نوعية الطعام أو جودته، بل في مكان تلقّيه ومع من يتم التناول والتشارك فيه. ولكن من المؤكد أيضاً أننا نحن، بصفتنا أبناءهم المراهقين، كُنّا لا ندري أننا إذْ نرتكب تلك الفِعْلة، أي تلقي العمادة الأولى من السندويش الأول، إنما نمارس فعل التمرد الأول والتحرر ولو شكلياً من سُلطة العائلة ونظامها الأبوي.

إقرأوا أيضاً: